( بلادي العظيمةَ بالرغم مما تجنّت و ما شردتني .. كأنكِ أنتِ هنا ما تغير شيء نفس الجياع
ونفس الجهات التي طاردتني ..)
(مظفر النواب)
إذا كنا في الحلقات السابقة أتينا على حالات الاعتقال السياسي التي طالت مناضلين يساريين يتحدرون بالولادة أو المنشأ أو العبور بالرحامنة، فإن حالة النفي القسري والهروب إلى أوطان أخرى سيجسدها بامتياز المناضل لحسن زغلول الذي يعرفه أهل بوشان وسكان الرحامنة القدامى ب"ولد الكابران"، الذي تعرض لظلم مزدوج من طرف الاستعمار الذي عذبه وسجنه، ولنظام الاستقلال الذي لاحقه وقسا عليه وطارده، ليضطر إلى الهروب إلى الجزائر سنة 1964 حيث مكث هناك 35 سنة عاد بعدها إلى وطنه سنة 1999.
ولأنني قد سبق أن جئت على ذكره منذ سنوات في بعض المواقع الإلكترونية المحلية، كما استحضرته في هذه السلسلة ذات الصلة ببعض من ذاكرة ابن جرير، فقد بدا لي اليوم أن أمر على كثير من التفاصيل الكثيرة التي ميزت مساره الكفاحي في إطار المقاومة زمن الاستعمار صحبة ثلة من رجالات منطقة بوشان، وفي مقدمتهم رفاقه محمد العربي ميدة وأحمد ياسين ودليل عبد القادر، الذين يمكن أن نعتبرهم الأنوية الأولى للمقاومة بالمنطقة، والذين كانت نقطة انطلاقهم من بيت المرحوم عبد القادر دليل سنة 1953، والذين اجتمعوا بغرض التفكير في إمكانيات تقديم الدعم للمقاومة المغربية، وكان أول عمل قاموا به هو جمع مساهمة مالية. بعدها قاموا بمجموعة أعمال تخريبية لمنشآت الاستعمار، وكان بطبيعة الحال لحسن زغلول حاضرا في قلبها بل مخططا ومنفذا لها، كما قام بقيادة مظاهرة جماهيرية في سبت لبريكيين رفع خلالها المتظاهرون شعارات مساندة لرجوع الملك محمد الخامس، وشارك أيضا في مظاهرة كبرى بسوق اثنين بوشان، وساهم في الحفل الكبير الذي أقيم بدوار أيت حمو ثلاثة أيام احتفالا برجوع الملك.
بدأ السي لحسن تعليمه بمدرسة القايد العيادي العتيقة بابن جرير، وتتلمذ على يد المختار السوسي صاحب "المعسول" و"الإليغيات" و"سوس العالمة". هناك كانت له حكايات مع القائد العيادي وسلطات الاستعمار، حيث أن تمرده ونشاطه الوطني، كان يتسبب له في حصص من التعذيب لا تنتهي سواء جراء الأعمال التي كان يقوم بها ويتحمل المسؤولية المباشرة فيها، أو سواء التي يقوم بها غيره ويتحمل هو بإرادته تبعاتها جلدا بالسياط والحبال (القنانب).
كانت بوشان وسوقها وضواحيها، مجال العمليات "التخريبية" الفدائية للشاب الجريء السي لحسن، التي كانت تنسب إليه ويساءل ويعتقل ويعذب بشأنها، وأحيانا حتى ولو لم تكن له فيها أية يد.
ولما انتقل إلى كلية ابن يوسف بمراكش، سيشتد عوده النضالي، حين سيجد هناك طلبة أكثر حماسا وإقداما، ومنهم مولاي عبد السلام الجبلي وبنسعيد أيت إيدر كما سيلتقي الفقيه البصري بمقهى بدرب الشرفا بالبيضاء بعد فراره من سجن القنيطرة، وكان برفقته المرحوم السي صالح العصامي، كما سيجد في نفس الوقت بطشا أكثر ضراوة مما تعرض إليه من طرف القائد العيادي في ابن جرير، وتمثل في الباشا "الكلاوي" وزبانيته.
اضطر السي لحسن زغلول إلى مغادرة كلية ابن يوسف بعد تشديد الخناق عليه، ليضع كل إمكانياته رهن إشارة حزب الاستقلال في تلك الفترة الطرية ما بعد حصول المغرب على "استقلاله".
بعد عودة الملك من المنفى وحصول المغرب على "الاستقلال"، وما تلاه من بوادر غير مطمئنة لا تبشر بما قدم من أجله المغاربة من تضحيات، انضم سنة 1959 إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الحزب الذي انفصل عن حزب الاستقلال بزعامة المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم وبنسعيد أيت إيدر وعدد من القيادات البارزة المعروفة في الحركة الاتحادية .
بعد تولي الحسن الثاني الحكم، سيبدأ فصل آخر من الصراع ضد مظاهر الاستبداد والاستفراد بالحكم التي باتت تلوح في الأفق، بل صارت تترجم على الأرض بطشا وتنكيلا وتصفية للمعارضين بحبك المؤامرات وخلق أجواء تبعث على القلق من مستقبل المغرب، وتعصف بآمال المناضلين والمقاومين الذين ما قاوموا الاستعمار ووهب كثير منهم حياته فداء للوطن، ليروا أنفسهم في قبضة من حديد اعتقلت الكثير وعذبت الكثير وقامت بتصفية الكثير. والأفظع من هذا أنها تريد إجهاض حلم المغاربة بوطن يتسع للجميع، وطن لا صوت يعلو عليه سوى صوت الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فكان طبيعيا أن يكون رد الفعل عنيفا ممن صاروا يرون رفاقهم الذين حملوا السلاح وناضلوا من أجل عودة الملك، تنتهك حرماتهم بالتعذيب وامتهان الكرامة بالاغتصاب في المعتقلات والزج بالآلاف في السجون كما حدث ل أكثر من 5000 اتحادي تم اعتقاله عقب ما سمي بالمؤامرة لقلب النظام في يوليوز 1963، وهو ما وجد المناضل المقاوم لحسن زغلول في معمعانه من خلال ما سمي بمحاولة اغتيال الملك الحسن الثاني (أول محاولة اغتيال ضد رئيس الدولة) هو ومستشاره رضا كديرة ومحمد أفقير في شهر أكتوبر سنة 1963بجامع الكتبية بمراكش، والتي اتهم فيها بالمشاركة في الإعداد لها وتنفيذ مخططها بمعية مجموعة من المقاومين على رأسهم رفيقه بنسعيد أيت إيدر والمقاوم المرحوم محمد أطلس بلحاج الذي كان سقط في يد البوليس وتم تعريضه لأبشع أنواع التعذيب في دار المقري، وحكم عليه بالإعدام ليخفض بعد ذلك إلى المؤبد الذي قضى منه 20 سنة حيث تم الإفراج عنه بعفو سنة 1983، كما حكم على لحسن زغلول غيابيا بالإعدام، حيث تمكن من الهروب إلى الجزائر منفيا هناك من سنة 1964 إلى 1999. وحتى بعد أن عاد بنسعيد هو الآخر من المنفى سنة 1981، فإن الحسن الثاني لم ينس، وخاطب بنسعيد ذات لقاء حسب ما ورد في كتاب محمد لومة: ( آ بنسعيد ...آ الشتوكي...وا أيت إيدر، كنتو غاديين تساليو معاي فالجامع..إييه..ولكن الأعمار بيد الله)
استمر هناك مناضلا (باسم عبد الرحمان المغربي) إلى جانب رفاقه، وشغل مهمة التنسيق بين حركات التحرر العربية، حيث جاور عددا من قياداتها من سوريا والعراق وفلسطين وغيرها. ومن هناك عاش كثيرا من الأحداث التي جرت بالمغرب في ذلك الزمن المتوتر من انتفاضة 23 مارس 1965 وما تلاها من أحداث صدامية ضد المؤسسة الملكية سواء من جانب تيار كان يمثله المرحوم المناضل محمد الفقيه البصري، أو من خلال انقلابات الجيش في المحاولتين الفاشلتين، وما أعقبها من احتقانات إلى غاية عودة السي لحسن زغلول من منفاه.
عانى المناضل لحسن زغلول من قساوة المنفى في غيابه عن أسرته (زوجته وبناته)، التي لم تلتحق به إلا بعد عملية جريئة قادها بعض رفاقه في المغرب، ومنهم رشيد الفكاك بتعاون مع أحد أقاربه وذلك قبل سنة 1975 بقليل.
بعد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيلتحق برفيقه بنسعيد أيت إيدر في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي كان ممثلها في الجزائر وعضو لجنتها المركزية، ومراسلا لجريدتها "أنوال" من هناك.
لما عاد إلى أرض الوطن سنة 1999، التحق بابن جرير حيث خصصنا له في الفرع المحلي للمنظمة استقبالا بمقرها بالدوار الجديد صحبة رفيق له آخر كان منفيا معه بالجزائر، وهو حسن مرزوق إلى جانب الرفيق محمد بنسعيد ايت إيدر الذي كان وقتها أمينا عاما للمنظمة، كما ألقى عرضا حول المقاومة بالرحامنة بدار الشباب من تنظيم حركة الشبيبة الديمقراطية، ومن ابن جرير توجه إلى بوشان حيث خصص له سكانها استقبالا حارا، يعبر عن مدى احترامهم وتقديرهم للرجل ومساهماته الفعالة زمن الاستعمار وما أعقبه في البدايات الأولى للاستقلال الناقص.
من يومها تكررت اتصالاته بي، حيث لا تفوته إلى اليوم مناسبة أو عيد إلا ويسأل عني وعن بعض الرفاق والأصدقاء. وكلما زار أحد اقربائه بابن جرير إلا وزارني في البيت .وقد حدث خلال مقابلة المغرب ضد الجزائر في نهائيات كأس الأمم الإفريقية سنة 2004، أن تابعت وإياه المباراة في بيتي، فسالته مازحا: شكون أ السي لحسن بغيتيه دابا يربح، المغرب ولى الجزائر، فابتسم ضاحكا وقال: بغيتهم بجوج يربحو رهان الديمقراطية.
خلال حراك 20 فبراير، حضر رفقة الرفيق بنسعيد إلى ابن جرير، حيث قابل الشباب وألقى كلمة خلال العرض الذي قدمه بنسعيد.
حينما تجالسه، يحكي بلسان مغربي "مدرح" بالجزائرية بغزارة وبدقة عن تاريخ المقاومة، أحداثها وتفاصيلها وأشخاصها، ولا يفوته أن يخرج من حقيبته رزمة من الوثائق والصور مع عديد من مسؤولي وقادة حركات التحرر العربية، ومنهم الراحل ياسر عرفات.
وفوق هذا وذاك، فهو إنسان غاية في الطيبوبة والبساطة والتواضع. ومن تتح له فرصة رؤيته والجلوس معه والحديث إليه، لا يصدق أن هذا الرجل الذي جاوز الثمانين سنة من عمره وغزا الشيب كل شعره، وتدلت كدنته، هو من كان يتردد اسمه المعار من والده (ولد الكابران) على ألسنة اهل الرحامنة، وهو من شغل الاستعمار ومعاونيه من القياد وكأنه تشي غيفارا زمنه.
(في الصورة يبدو السي لحسن زغلول جوار الرفيق بنسعيد والمرحوم صالح العصامي، بينما كاتب هذه السطور يلقي كلمة ترحيبية بالمقاومين العائدين من المنفى (زغلول ومرزوق) وذلك بمقر المنظمة الكائن بالدوار الجديد أمام صيدلية الوحدة سنة 1999، كما يظهر في الصورة محمد المنصوري بالجاكيط الأبيض جانب أحد أقرباء السي لحسن).
لست ربوت