أحيانا لا يكون الوضع الاجتماعي المستقر لشخص ما، حائلا بينه وبين الانخراط في الحياة السياسية من خلفية يسارية على نقيض تام من النظام السياسي الذي يبسط سيطرته على البلد سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، فهناك كثير من النماذج في التاريخ التي ضحت بمراجعها العائلية والمالية من أجل أن تناصر قضايا مجتمعية ذات الصلة بالأوضاع التي تعيشها شرائح عريضة من المواطنين الذين يعيشون إضافة إلى وطأة الاستبداد والاستغلال والاستعباد، ظروفا معيشية غاية في السوء بسبب السياسات المتبعة من طرف النظام السياسي. وقد يستمر ذلك الشخص في النضال الذي بناه على منطلقات فكرية وسياسية ما، وقد تغير منعرجات الطريق وجهات النظر وأساليب ذلك النضال والمواقع التي ينطلق منها، بل وأحيانا تتدخل عوامل ذاتية أو موضوعية في تغيير مسار الطريق.
ومما لاشك فيه وكما يعرف كثيرون ممن يعرفون السي محمد اليونسي من أهل الرحامنة وغيرها، فهو ابن المرحوم السي حماد اليونسي أحد الوجوه المعروفة على صعيد المنطقة اعتبارا لمكانته الاقتصادية والاجتماعية بمقاييس ذلك الوقت، والتي ستجعله وأسرته في وضع مريح أو أكثر من مريح. وعلى الرغم من ذلك اختار السي محمد اليونسي الاصطفاف في معسكر مناهضة النظام وسياساته في سياق تمدد الفكر اليساري داخل أوساط التلاميذ والطلبة في الثانويات والجامعات خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي عاش اليونسي كثيرا من فصولها من خلال ارتباطه بالنقابة الوطنية للتلاميذ أولا وتيار القاعديين ثانيا.
أمضى تعليمه بالأسلاك التعليمية الثلاثة بمراكش، وبعد حصوله على الباكالوريا سنة 75/ 76، سيلتحق بالأكاديمية العسكرية بمكناس التي لم يعمر بها سوى ستة أشهر لما توجس من كون وجوده هناك لم يكن مطمئنا، ليشد الرحال إلى البيضاء ويلتحق بكلية الحقوق التي انخرط في نضالاتها الطلابية وتحمل مسؤولية داخل مجلس القاطنين كمسؤول نقابي ، حيث كانت وتيرة النضال سريعة وغاضبة وصاخبة وقتها من أجل رفع الحظر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وبعدما تم رفعه انتخب مندوبا عن الطلبة القاعديين في المؤتمر السادس عشر. وأثناء عمليات اعتقال استهدفت مجموعة من الطلبة في الموسم 79/80 إثر الإضراب العام الوطني ، قدم نفسه للجهات الأمنية ليعلن تحمله للمسؤولية باعتبار أنه كان ينظر إليه كواحد من القادة، فحوكم بستة أشهر مكنته من أن يهيأ للإجازة في الحقوق.
اشتغل في إطار الخدمة المدنية بالمحكمة الابتدائية بقلعة السراغنة، وبعدها انتقل إلى ابن جرير، ومنها التحق بهيئة المحامين قصد التمرين.
في أحداث 1984، التي اعتقل على إثرها عدد من المواطنين في مراكش وغيرها، تنصب للدفاع عن أولئك المعتقلين بالمحكمة الابتدائية بمراكش، وفي قاعة جلساتها كانت عيون البوليس السياسي تلاحقه، بل تثير اسمه من خلال أجهزة الراديو بشكل علني لترهيبه من أجل التخلي عن دوره كدفاع، خاصة وأنه كان "مرشوما" لدى البوليس، فتم اعتقاله ليوم واحد من طرف جهاز ال DST، وتهديده من طرف عميد أمن بواسطة سكين من أجل الانسحاب من المحاكمة. ولما أصر وعاد إلى ما يعتبره واجبا نضاليا، كانت الأجهزة من جانبها تعتبر أن اعتقاله آت لا محالة . كانت سيارات ال DST ، تراقبه عن كثب، إلى أن جاء اليوم الذي كان فيه رفقة خطيبته في سيارته بحي الداوديات، حيث تم اقتياده إلى بيت كان يكتريه، فتمت مصادرة كل الوثائق والكتب، ومن هناك اقتيد إلى "الفيلا" مقر الDST ، حيث مكث بها يومين من الاستنطاق والتعذيب.
وأثناء خطاب الملك الشهير الذي وصف فيه سكان الريف بالأوباش، لمح الحسن الثاني إلى وجود محامين متدربين قائلا: ( ... ثانيا، هذا المنشور الذي كان يوزع في مراكش يوم 06/01/1984، وسأقرأ منه بعض الفقرات، و هو أيضا لجماعة "إلى الأمام"، إن المسؤولين عن هذا المنشور هم الآن رهن الاعتقال، و يوجد من بينهم و يا للأسف بعض المحامين الصغار الذين لا زالوا في طور التدريب) في إشارة إلى اليونسي وقد يكون آخرون في نفس وضعيته.
من "الفيلا، سيُرَحَّلُ اليونسي بمعية رفاقه الآخرين ومنهم عزيز المعيفي والحميدي وعباد وعبد الصمد الطعارجي وآخرين، إلى درب مولاي الشريف الذي استضافهم لمدة شهر ونصف بما يليق بكرم الضيافة المعهودة فيه التي يعرف كرمها وجودها في أبشع صورها كل من مر من الدرب الملعون في سنوات الحديد والنار..
بعد إحالته على محكمة الجنايات بمراكش، سيتم الحكم عليه في تلك المحاكمة الصورية من زمن الاستبداد، بخمسة عشر عاما بمعية رفاقه حسن أحراث ومفتاح وعباد، قضى منها عشر سنوات أغلبها بسجن آسفي الذي يعتبر من أفظع السجون بشاعة، كما كان يتم ترحيله إلى سجون أخرى كاغبيلة ولعلو.
في فترة السجن اجتاز امتحان الأهلية ليرسم في سلك المحاماة بمعهد القضاء بالرباط، وتمكن من أن يرتب في المرتبة الأولى على الصعيد الوطني.
وإن كان من أحد لازال ممتنا له لقاء ما ساهم في تكوينه وتحقيقه لتلك النتيجة، هو الأستاذ المرحوم خلدون أحد مناضلي رفاق الشهداء، الذي لم يتخل عنه طيلة أحد عشر عاما، بل أنه حتى لما غادر أسوار السجن، وجد الفقيد خلدون قد جهز له مكتبا للمحاماة بكل تجهيزاته ولوازمه.
سياسيا سينضم محمد اليونسي إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1985 أي خلال فترة الاعتقال. وقد حدث ذلك عندما تم نقله في إحدى المرات إلى سجن عين البرجة بالدارالبيضاء، حيث وجد هناك بعض الرفاق الذين فتحوا معه ومع رفيقه في الزنزانة المعيفي، محسن عيوش أحد قادة المنظمة السابقين وعضو كتابتها الوطنية سابقا ومحمد بلمقدم والحجامي، نقاشات متكررة أفضت إلى اقتناعه بالانضمام من داخل السجن إلى المنظمة.
فور خروجه من السجن سنة 1994، سيلتحق مباشرة بالقاعة التي كانت تنعقد فيها الجلسة العامة للمؤتمر الثالث للمنظمة، والذي كان مؤشرا حقيقيا على أن المنظمة سائرة بلا رجعة نحو الانشقاق، الذي تم الإعلان عنه رسميا خلال الاستفتاء على الدستور ليوم 13 شتنبر 1996، وكان طبيعيا أن ينضم محمد اليونسي إلى جماعة المنشقين، نظرا لعلاقته مع أحد قيادييها (محمد الحبيب طالب) وكذا ميولاته الانتخابية في الجماعة والدوار مستقر سكن وعمل والده المرحوم السي حماد.
وأذكر جيدا أن اليونسي لما التحق بقاعة المؤتمر، استقبله المؤتمرون بالتصفيق الحار، وناولته الرئاسة كلمة عبر فيها عن شعوره بالسعادة والاعتزاز وهو يدرك تلك اللحظة (التي لم تكن جميلة مع غاية الأسف) التي وجد نفسه فيها بين رفاقه ورفيقاته في تلك المنظمة التي انتمى إليها من وراء القضبان
سيمضي زمن، وسيأتي زمن، ظهرت فيه بشائر جرار أزرق على صهوته فارس اسمه فؤاد عالي الهمة، وسيلتحق اليونسي كما التحق غيره من بعض وجوه اليسار السابقين، بتلك العاصفة التي اعتقدها كثيرون أنها منحة من السماء ستملأ الٍأرض عدلا وتنمية وأحلاما بعد أن ملئت جورا وخرابا مبينا. وفي أحد لقاءات فؤاد عالي الهمة مع "جماعة" دوار محمد اليونسي، قال لهم الهمة: " راه الأستاذ اليونسي غير مسلفينو" يعني بحال داك الشي ديال الإعارة.
كان ذلك اختياره الشخصي كما كان اختيار آخرين غيره والزمن وحده هو من تكفل ويتكفل وسيتكفل بخواتم الاختيار.
إلى هذا الحد وهو ما يعنينا في ذاكرة الاعتقال السياسي التي شملت بعض الوجوه المتحدرة من الرحامنة كما هو شأن الفقيد محمد الموفق وخديجة البخاري وعبد الكريم الدرقاوي، أو العابرة منها كما هو شأن الصديق عبد العزيز المعيفي، والتي نشطت تنظيميا سابقا في ما كان يصطلح عليه باليسار الجديد، أما ما تعلق بتجربة اليونسي ما بعد الاعتقال من دخوله غمار الانتخابات باسم الحزب المنشق ال PSD، أو تحوله فيما بعد إلى "البام" وترؤسه للمجلس الجماعي لجماعة "ولاد إيملول" القروية منذ انتخابات 1997 التي كان رئيسا لها خلال الولايتين الأخيرتين، ونائبا للرئيس في الولايتين الأوليتين، فأمر ذلك متروك لتقييم التجارب الانتخابية والتسييرية لمجالس الرحامنة القروية والبلدية والرؤساء المتعاقبين عليها، في إطار غير هذا الإطار وفي سياق غير هذا السياق المخصص لتجربة الاعتقال السياسي.
(في الصورة التي التقطت من إحدى الزنازن، يظهر محمد اليونسي أقصى يمين الصورة من صف الجالسين. ومعه مجموعة من رفاقه المعتقلين نذكر منهم عزيز المعيفي وعبد الصمد الطعارجي وعبد الرزاق النكير وعبد اللطيف العطروز وعثمان حاجي والشهيد محمد عباد).
لست ربوت