من ذاكرة المقاهي ذات الفضاءات المفتوحة: "الكاكتوس" بعد "أسونفو": بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من ذاكرة المقاهي ذات الفضاءات المفتوحة: "الكاكتوس" بعد "أسونفو": بقلم عبد الكريم التابي

من ذاكرة المقاهي ذات الفضاءات المفتوحة: "الكاكتوس" بعد "أسونفو": بقلم عبد الكريم التابي


أنتَ يا جنةَ حبي و اشتياقي وجنوني
أنتَ يا قبلةَ روحي و انطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك فى ليل عيوني.
( كلمات الهادي آدم ـ غناء: أم كلثوم).
مما شك فيه أن معظم الناس إن لم يكن كلهم، تميل أنفسهم إلى الفضاءات المفتوحة كليا كالحقول والمراعي المخضرة في السهل والجبل وضفاف الأنهار، وعلى رمال شواطئ البحر، أو إلى المفتوحة جزئيا كالضيعات والحدائق والمقاهي، حيث يجدون فيها من الراحة النفسية والهدوء ما لا يجدونه في مثيلتها المغلقة.
وعرفت ابن جرير في منتصف الثمانينيات أول تجربة للمقهى / الفضاء المفتوح والتي كانت تحمل قيد حياتها اسم "أسونفو"، والتي أقيمت على يمين مدخل السوق الأسبوعية قبالة محطة القطار وبمحاذاة الطريق الوطنية رقم 9.
شيدت داخل الفضاء الذي تمت تهيئته بعدد من الأغراس والأزهار، بناية صغيرة بمواصفات ذلك الزمن لإعداد الوجبات الغذائية وباقي مستلزمات الزبناء من قهوة وشاي وخلافهما.
لم يعمر هذا المشروع طويلا، وتم إغلاق الفضاء إلى أن تم تدميره وتجريفه بالكامل.
وستعرف ابن جرير في تلك الفترة على عهد الحاج كبور ورئيس الدائرة المسمى لغليمي وجود مقهى تقع على مقربة من الساحة المسماة بساحة البحيرة، وغير بعيد عن ذلك "العجب" الذي يسمى فندقا والذي لم يكتمل بناؤه على الرغم من مرور سنين طويلة على انطلاق الأشغال به.
وقد تكفل ببنائها أيوب الكرامسي بمواصفات بدائية لم تلق قبولا بعد عرضها للكراء على أرباب مقاهي القشلة لبعدها، فظلت مهجورة لفترة إلى أن تم ترميم بعض أجزائها الخربة، وتحويل فضائها الخارجي إلى ما يشبه حديقة للأطفال تمت تهيئتها ببعض الأغراس والشجيرات إضافة إلى أشجار الكاليبتوس الموجودة فيها من الأصل، كما تم تجهيزها ببعض معدات ووسائل اللعب (أرجوحات على الخصوص) وزينت ببعض المجسمات التي عادة ما نجد رسومات لها في الحضانات ورياض الأطفال وغير بعيد عنها وفي المكان القريب من المنتزه الحالي، أقام رئيس الدائرة ذلك المجسم الكبير للديناصور. وكانت الأسر تقصد الحديقة للترويح عن النفس وتسلية الأطفال خصوصا.
وعلى عهد السيد فؤاد عالي الهمة خلال الولاية الجماعية 92 / 97، سيصوت المجلس في إحدى الدورات بإجماع أعضائه، على مقرر بموجبه سيتم تفويت حق استغلال تلك المقهى إلى نادي شباب الرحامنة لكرة القدم من أجل تمكينه من بعض الموارد المالية ليسد بها جزءا من الخصاص المالي الذي كان يعاني منه. هكذا كان وهذا ما تم الاتفاق بشأنه، إلى أن تم العثور على وثيقة يتبين من مضمونها أن السيد رئيس المجلس فؤاد عالي الهمة فوت المقهى لفائدة شخص يدعى "جليل" كان يعمل بإحدى المصالح الإعلامية. وأذكر أن الرفيق المرحوم الحسين كوار عضو الكتابة الوطنية لمنظمة العمل ومدير نشر جريدة "أنوال"، كان سألني إن كنت أعرف ذلك الشخص، وطبعا لم يسبق لي أن رأيته أو سمعت به، إلا بعد أن تمكن من المقهى وكل المجال المحيط بها، وأعاد تهيئتها من جديد في مظهر إيكولوجي جذاب، وسماها "الكاكتوس" التي استأثرت باهتمام الأسر والشباب والشابات، وغدت في حلتها الجديدة، فضاء يقبل عليه كثير من زبناء مقاهي القشلة، وخاصة بعض النخب السياسية والجمعوية والمقاولاتية الجديدة.
كان محمد الشعيبي رئيس المجلس البلدي وبرلماني الدائرة، يداوم على ارتياد المقهى بحكم موقعها القريب من محل سكناه، وكان يجد في بعض الوجوه المعروفة، المجال الذي يصرف فيه قفشاته وغزواته السابقة، كما كانوا من جانبهم يقابلون تلك القفشات والفتوحات بكثير من القهقهة والانبهار ب"الحاج محمد".
في "الكاكتوس" تم تفقيس فلاليس ما سيسمى بالمجتمع المدني الذي نرى بعضا من امتداداته وتجلياته اليوم. في "الكاكتوس" ظهر بعض المبشرين بموت السياسة والانتصار للجمعيات التنموية التي تنتخب مكتبها في الصباح، وفي المساء تقدم ملفها إلى الجهات المانحة طلبا للدعم.
في "الكاكتوس" تم التطبيل والتهليل لدستور 1996 ومباركة قمع الدولة لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي اندمجت مع مكونات أخرى أفرزت ما يسمى اليوم بالحزب الاشتراكي الموحد، واغتيال جريدتها "أنوال" وشق الحزب إلى نصفين: نصف اختار أن يصوت بنعم ويلعق الحذاء، ونصف اختار أن يبقى في السماوات العلا.
في "الكاكتوس" كان المرحوم السي أحمد الحمزاوي، ينظر بصمت ويسمع بصمت كأنه يلقي آخر نظراته على هذا العالم اللعين بعدما أشبع روحه ببدر شاكر السياب ونازك الملائكة ودرويش وسميح القاسم ومارسيل خليفة.
في "الكاكتوس" توقف الإرسال التلفزي ذات 30 يوليوز من سنة 1999، فاسحا المجال لآيات القرآن بعد أن تم الإعلان عن وفاة الملك الحسن الثاني، وبالتالي وفاة عهد وميلاد عهد لازال بعد ثمانية عشر عاما لا يفرط في الجوهر القديم.
في الكاكتوس بدأت قصص التعايش بين الجنسين في الفضاءات العامة تحت شجيرات مسك الليل والأنوار الخافتة على نغمات "أغدا ألقاك" :
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك فى ليل عيوني.
ماتت الكاكتوس بعد أن باعها "جليل" لشخص آخر، وعلى أنقاضها يقام مشروع قاعة للحفلات وملحقاتها.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button