(يا وسيدي نهدي سالفي من راسي، ونهدي شعاكي من راسي، ونهدي خواتمي بثلاثة ونزيد النبالة والخلالة على كريني آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه).
قوس أسباب النزول: (الوقت ربيع. والجو ربيع. والناس في عز الصراع من أجل الحياة، تتحدى بالحب والغناء والصور القديمة والحديثة التي نرشها بالأمل، ليخرج منها السوسن والأقحوان والفراش والنحل وشدا الهزار).
هي ذي حركة التاريخ والجغرافيا والإنسان. بقدر ما يتزايد البشر، بقدر ما يكونون محتاجين للمجال الذي فيه يسكنون ويتساكنون. فمن غير المقبول تاريخيا ولا ديموغرافيا ولا سوسيولوجيا أن نلتمس من التاريخ أن يتوقف عند حدود الجغرافيا التي كناها، وعند الديموغرافية التي كناها، ولا عند المثل والقيم التي كناها، ولا عند التقاليد والعادات التي كناها، ليرضي نفسياتنا المشبعة بالنوستالجيا وطفولاتنا المفعمة بالبراءة.
من هذا المنطلق ومن هذه الزاوية يبدو إعمار المجال انطلاقا من المتوالية الحسابية لازدياد عدد السكان، أمرا طبيعيا، لا يمكن التأفف منه والتحسر عليه، إلا في حدود ما نحتفظ فيه في أنفسنا وبين ضلوعنا و ذاكرتنا من حنين وذكريات نمت وترعرعت معنا منذ أن فتحنا أعيننا على ذلك المدى الطبيعي المفتوح من شرق حافة "افريقيا" القديمة إلى تخوم الشعيبات، ومن سكة الحديد شمالا إلى دوار الخليفة بالزاوية جنوبا والذي كنا نسميه "الدراع".
بهندسة اليوم وإحداثياته وماكيتاته، يكون مجال "الدراع"، هو تلك المساحة التي يشغلها الإسمنت الممثل فيما يسمى ب"جنان الخير" و"الرياض" بأجزائه الثلاثة والتجزئات الجديدة التي لم نعد نحفظ لها اسما ولا شعارا. إلا أن "الدراع" الذي كان موضع تجمع الناس كبارا وصغارا خاصة في فصل الربيع، هو تلك الرقعة التي كانت تمتد من "الدار الرايبة" وما يوجد على امتداد بصرها في ما وراء الحجرة البيضاء، إلى الشجيرات التي نمت جوار " السانيات" الثلاث في المنحدر الذي يكاد يقترب من دوار الخليفة، ويطل غير بعيد على قصر القائد العيادي.
خارج فصل الربيع وموسمي الحرث والحصاد، تستغل بعض مساحات "الدراع" كملاعب لكرة القدم لفرق حي افريقيا بمجموعاته الثلاث R1 و R2و3 R .أما في فصل الربيع، فيتحول " الدراع" إلى منتزه مفتوح بطريقة علنية ومشروعة عبر بعض "الزنيكات" المفروشة ب"النوار" من مختلف الألوان والأشكال، أو بطريقة تعسفية على بعض "الكمامين" الكثيفة التي يسطو عليها الشبان لقضاء بعض "الحاجيات" (احتساء بعض قنينات الخمر مثلا) أو غير ذلك مما يخطر على البال. ولا تخلو الحقول من بعض الحراس الذين لا يترددون في طرد وملاحقة كل من يخترق الحدود ويعيث في السنابل فسادا.
في ذلك الزمن الجميل لما كان النظام المناخي يجري بشكل منتظم، وكان لكل فصل خصوصياته ومميزاته المعروفة كما كنا نطالعها في النصوص الشيقة للكبير " بوكماخ"، وكنا نحسها ونلمسها ونلحظها في الواقع كما نقرأها في كتاب القراءة، كان الخريف خريفا بسمائه قليلة الغيوم ورياحه القوية وسقوط أوراق الأشجار ورحيل الطيور، وكان الشتاء شتاء بأمطاره وبرقه ورعده وسيوله وانخفاض درجة حرارته، وكان الصيف بصهده ورياحه اللافحة ونسمات بقايا التبن وسيقان السنابل الدافئة في أصباحه الباكرة، وكان الربيع ربيعا بخضرة حقوله وانتصاب سنابله، وأزهاره ( الكحوان ) الأقحوان وبلعمان (شقائق النعمان) إلى غيرهما مما كان يشكل لوحة فنية ماتعة للعين والنفس، إضافة إلى الفراش الملون وطنين النحل، والنباتات المشهورة (الحميضة والخبيزة والجمرة وكرينبوش وبزولة العودة التي أكلنا منها حتى شبعنا). كما أن " الحريكة" كانت تستوطن الدار "الرايبة"من الداخل وعلى جنبات الحيطان الخربة.
في زواليات وأماسي الربيع في "الدراع"، كانت الفتيات العذارى وأمهاتهن يسرحن في الربيع وأنواره بكل حرية وبلا مضايقات، وهن يغنين أغاني الأهالي كما يغنين في الأعراس وباقي المناسبات ( أو سيدي نهدي سالفي من راسي ونهدي شعاكي من راسي ونهدي خواتمي بثلاثة ونزيد النبالة والخلالة على كريني أه ههههه). والشبان بدورهم يغنون (كيف يواسي اللي فرق محبوبو وبقى بلا عقل فالارسام فريد. وانا كيف جفاني حبيب قلبي ما خلا غير صورتو ونعتو وخيالو، وملا عمري نظرت زين ف البدور بحالو).
وكان "الدراع" أيضا وحقوله الفيحاء مكانا للقراءة والتحضير للامتحانات الإشهادية ( قسم الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية للانتقال إلى الثانوي بمراكش والباكالوريا).
في الدراع تابعنا مجتمعين عديدا من مباريات المنتخب الوطني لكرة القدم زمن السبعينيات، لما لم نكن ساعتها نتوفر على جهاز التلفزيون. وكان الراديو يفي بالغرض مع المعلقين الكبار لذلك الزمن ( المرحوم أحمد الغربي والحسين الحياني ومحمد الزوين وغيرهم). ولازلت أذكر كيف كانت آذاننا مشدودة في ذلك اليوم الكروي التاريخي إلى المرحوم أحمد الغربي وهو يصف ويتفاعل مع مباراة المغرب ضد غينيا برسم كأس افريقيا للأمم بإثيوبيا سنة 1976، وكيف كادت حنجرته تنفجر بعد أن سجل أحمد مكروح الملقب ب (بابا) إصابة التعادل في الأنفاس الأخيرة من المقابلة التي أهدت المغرب أول وآخر كأس افريقية للأمم.
لم يكن "الدراع" فقط مجالا جغرافيا للحرث وخروج السنابل وخيرات الأرض الثابتة أو المتحركة، بل كان مجالا لتصفية الحساب، حساب المتخاصمين من الشبان، الذين إذا ما نشب الشجار بين اثنين منهما في الدرب، يخرج أحدهما متحديا الآخر: (إلى نسميك راجل، ياالله نطلعو للدراع) لأن "الدراع" حلبة محايدة وبدون جمهور بإمكانه أن يتدخل لفك الارتباط بين المتشاجرين.
"الدراع" مجال إنساني، يلملم شتات الناس للترويح عن النفس بإعداد بعض الأكلات وتناولها في المجال الفسيح دون قيود البيت ورتابته وخاصة بالنسبة للنساء والفتيات اللواتي يمضين فترة الزوال هناك يلعبن ويضحكن ويغنين. وعند الغروب يعدن بباقات من الأزهار ليضعنها في مزهرياتهن.
لم يعد ل"الدراع" وجود بعد تمدد الإسمنت. ولم يعد تمة مكان للفراش والنحل والسمان. ولم نعد نرى أثرا ل"كرينبوش" و"بزولة العودة". ولم تعد النسوة تجدن مكانا تغنين فيه: (وراه يحوم آآآآه، راه يحوم كيف الطوير، سال الطالب سال الطبيب، يا وسيدي ألى كان الكرا نكريه، إلى كان الشرا نشريه، إلى كان القصارى نهدي عمري على كريني آآآآآه).
لست ربوت