( ما جرى في ابن جرير قبل 2007 شيء، وما جرى ويجري بعدها إلى اليوم شيء آخر غريب وعجيب ومؤلم ومقرف).
نقصد ب"النخبة" التي لابد أن نضعها بين هلالين دافئين، تلك الفعاليات السياسية والنقابية والجمعوية والإعلامية، التي كانت تؤثت مشهد ابن جرير وتملأ فراغاته من باب المؤثر والفاعل فيه، بما توفر لها من جهد ذاتي وإمكانيات مالية شبه منعدمة، والأهم من كل ذلك في استقلاليتها التامة عن السلطات المحلية والمجالس المنتخبة، وفي استحضارها الدائم لقضايا المجتمع التي كانت النخبة إياها، تعتبرها نقطة فريدة في جدول انشغالاتها ونضالاتها.
ولأن تلك النخبة كانت تملك بعضا من الوعي الذي يرسم الحدود والفواصل بين من ينتسب إلى معسكر التغيير على مستوى إشكاليات البلد جميعه، وبين من ينتسب إلى معسكر تكريس واقع الاستبداد والفساد وطنيا ويترجمه في الميدان محليا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فقد كان الصراع مبنيا على هذا الأساس والاعتبار. وهكذا كان مناضلو أحزاب اليسار ( الاتحاد الاشتراكي وحزب الطليعة ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي)، يشكلون مع مناضلين من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (التعليم والفوسفاط بدرجة أقل) ومناضلين من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومناضلين من الجمعية الوطنية لحاملي الشهادات المعطلين ومناضلين من الشبيبات الحزبية اليسارية ومناضلين يمثلون جمعية أطاك المغرب ومناضلين من جمعية حركة التويزة وفعاليات ثقافية مستقلة ومناضلين من جمعيات مدنية كجمعية فتح وبعض الفعاليات الإعلامية التي كان أغلبها إن لم يكن كلها محسوبا على صحافة نفس أحزاب اليسار، (يشكلون) ما يمكن اعتباره نخبة ابن جرير، التي كانت تشتغل بشكل منفرد كل منها حسب أجنداته ورؤيته الخاصة، كما كانت أيضا تلتئم بشكل جماعي مشترك كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وقد حدث ذلك في كثير من الأحداث والمناسبات ذات الطبيعة المحلية أو الوطنية أو فيما له علاقة بقضية فلسطين وبعدها العراق في حرب الخليج الأولى والثانية.
ولعل ما يحسب لها أنها كانت على مسافة كبيرة من السلطة بنفس قدر مسافتها مع المجالس المنتخبة، ولم تكن يوما في صراع مع بعضها البعض حول من يحوز رضا السلطة، وحول من يؤدي أدوار السخرة بكيفية أكثر فاعلية من غيره، ولم تكن منشغلة بتحركات هذا المسؤول أو ذاك وتتبعه أينما عطس وحل ليشيد صنبور ماء أو ليضع حجرة أساس لشيء لن يشيد، كما لم تكن تنتظر موعد ضخ الدعم في حساباتها التي لم تكن موجودة، لأن الدعم أو بعبارة دقيقة (الريع) لم يكن وقتها موجودا إلا بمقادير ضئيلة تعطى لفئة قليلة محدودة جدا ومعروفة جدا ومصادرها معلومة والجهات التي تستفيد منه معلومة أيضا.
لا يصح أن نزعم أن العلاقات بين مكونات تلك النخبة، كانت سمنا على عسل، بالعكس من ذلك عرفت كثيرا من المد والجزر، وكثيرا من الخلافات التي نشبت على خلفية عديد من المبررات، لم تكن بسبب درجة الاستعداد لتقديم السخرة والمخدومية والحروب حول الدعم والمواقع القريبة من مراكز النفوذ، بل كانت في غالبيتها تهدف إلى السعي إلى ما يمكن اعتباره النضال انتصارا لمكون ما من أجل توسيع دائرة انتشاره داخل رقعة البلدة الذي ليس بالضرورة لأجل الانتخابات، وإنما لأجل إشاعة ثقافة التقدم والحداثة والديمقراطية، مادام أمر الانتخابات كانت تتكفل به السلطة والأحزاب التي تحظى رضاها وعطفها، وفي مقدمتها الحركة الشعبية بطبيعة الحال.
في مقابل هذا كانت النخبة تدبر شؤونها وأحوالها وأنشطتها وبرامجها من ميزانية وقوت أسرها، معتمدة على مشاهراتها واكتتاباتها التي تغطي بها نفقات مصاريفها سواء في أنشطتها الداخلية المغلقة، أو في أنشطتها الإشعاعية الجماهيرية المفتوحة والتي تقام خاصة في دار الشباب.
بعد عاصفة الجرار وتراجع بعض "النخبة" وتردد بعضها الآخر، وانكماش بعضها الثالث، وتعب بعضها الرابع، طفت على السطح "نخبة" جديدة خرجت من رحم الحزب الجديد الذي اعتمد في استراتيجيته على تفريخ الجمعيات المحمية بالمال والسلطة، وملأت الفراغ الذي تركته " النخبة" القديمة، واستفادت مما يخرج من صنابير الريع المتعددة الذي غدا الانشغال الأول والفريد في جدول أعمالها، ودخلت في حروب الاصطفاف والولاء لهذه الجهة أو تلك، ولهذا الحلف أو ذاك، ولهذا المسؤول أو لهذا الآخر. ولم يقتصر الأمر على من يحسبون على حزب البام، بل أيضا على من يعتقدون أنهم خصومه التاريخيون الألذاء، وهم لا يعلمون أن حزب "الأحرار" لا يختلف عن "البام" في ظروف الولادة والنشأة، وفي ظروف الرعاية المخزنية، وفي أسباب النزول والوجود والبقاء، وفي "المشروع" الذي لا يختلفان فيه وعليه، وهو خدمة النظام واستمرار نفس أسلوبه في الحكم، بما يضمن لهما كثيرا من المنافع والامتيازات في المؤسسات باختلاف أنواعها من الوزارات ودواوينها إلى البرلمان والجهات ومجالس العمالات والأقاليم والجماعات وغيرها مما يجلب المنفعة ويدرأ المفسدة.
في مثل هكذا وضع صار موضوع اشمئزاز من طرف كثير من الجمهور الصامت والصائت، صار لزاما ومطلوبا، أن تتململ ما تبقى من روح ونفس في النخبة القديمة، وما يسري من دماء وأوكسجين في شرايين النخبة اليسارية والديمقراطية الجديدة متعددة المراجع والتوجهات، أن تنظر فيما يجري حولها بروية وتأن، من أجل وضع مغاير مختلف يعيد للعمل المدني اعتباره، ويساهم في صناعة نخبة متجددة فاعلة ومستقلة ومنتجة للأحداث والمبادرات.
ملحوظة مرتبطة بالصورة: ليس مهما من يوجد في الصورة، لكن الأهم رمزيتها ودلالتها العميقة. وهي للتذكير من أحد الأوراش التطوعية لجمعية حركة التويزة في زمنها الأول في تسعينيات القرن الماضي.
لست ربوت