شوق رؤية الهلال بالأصابع وتلسكوبات العين المجردة للشيوخ والأطفال والنساء والشباب...شوق الحريرة المنسمة بعبق أيادي الأمهات والجدات...شوق النهار والإفطار والسحور ...شوق النفار...شوق السنابل...شوق الحصاد...شوق التراب...شوق عرق الكادحين في النهارات القائظة....شوق اللاص والضوص والتريس...شوق الكواتروات الحية والشبعى موتا....شوق "الكبابيط الدافئة ...شوق "الكرنيطات" التي لا تبقي سوى على "التشنكات" عديمة القيمة...شوق الأحبة تحت الثرى يتسلل إلى ما تبقى في الروح من روح...سلاما للشوق سلاما.
مع اقتراب رمضان الذي يحتفظ هو وشعبان بأسمائهما العربية الأصلية، فيما بقية شهور السنة تتوزع على أسماء منحولة من التخصيب الشعبي (رجم ـ بوجلايب ـ جاد ـ جماد ـ الميلود ـ شاعل الميلود ـ عايشور ـ شا عيشورـ العيد الكبير ـ العيد الصغير)، يشرع السكان في اقتناء المواد الغذائية الخاصة التي تشكل أساس مائدة رمضان أو بالتعبير العصري ( Platforme) وهي القطنيات (الحمص والعدس والفول والشعرية) مقدار ما يكفي مدة غير قصيرة من الشهر، اعتبارا لكون الحريرة هي عماد المائدة وعماد رمضان ، بل لا يستقيم و(لا يجوز) الصيام بدونها. ومن شروطها أن تكون (حامضة) وليست حسوة بيضاء أو صفراء من الذرة إلا في حالة الاستثناء حينما يستهلك الرصيد أو بعضه للسيدة "الحامضة".أما "الصوبا" فلم يكن لها وجود إلا للرضع والمرضى. ويعتبر وجودها على المائدة من نواقض الصيام.
إلى جانب تلك العناصر الأساسية يتزود الناس جزئيا بالتمر ما يكفيهم لأيام قلائل فقط وذلك لانعدام الثلاجات. وعندما تحين سوق الثلاث السابقة عن دخول رمضان، يقتني السكان ما يلزمهم للحريرة من (قزبر ومعدنوس وكرافس) إضافة إلى خضر وعلى رأسها الطماطم التي تعطي نكهة الحموضة للحريرة إلى جانب قبسات من الخميرة البلدية، حيث تخلو من أية مادة مصنعة كمركز الطماطم والمكعبات المنسمة وغيرها مما يضاف اليوم إلى "حريرة اليوم" التي بدأت الهوة تتسع بينها وبين الناس الذين صار نظامهم الغذائي يعود رويدا رويدا إلى وضعه الطبيعي الأول.
يوم أو يومان قبل حلول رمضان، يعرف حمام الحاج العربي غزوا غير مسبوق للاغتسال والتطهر لإزالة ما يفسد الصيام. ولأنه كان حماما وحيدا ومزدوجا، فكان الصباح للنساء بينما المساء وما قبل الفجر بقليل للرجال.
عشية رمضان يخرج الناس رجالا ونساء وأطفالا لرؤية الهلال، فيشرع كل واحد في مسح الجزء المقابل له، عله يكون له شرف السبق في اكتشاف شعرة الهلال الأولى، فيصيح كما صاح أرخميدس: هاهو، ها هو. فيتسابق الجميع نحوه: فينا هو. فين شفتيه. فيرد عليهم: راه راه. وقد يكون رآه بالفعل أو تراءى له من كثرة التحديق. وقد يحدث في بعض الأحيان الاستثنائية، ألا يتمكن الناس من رؤيته لسبب من الأسباب، وفي اليوم الموالي حينما يدققون النظر في السماء للتأكد منه، فيجدونه على غير حجمه العادي، فيقولون إنه (ولد البارح) أي أنه ابن الأمس.
يتبادل الناس التحايا: "مبارك العواشر"، فيعودون إلى منازلهم لحمل البشرى لمن لم يخرج إلى المقراب البشري. أما والدتي وجدتي فتزيدان كما يزيد كل الناس والجيران: "الله يدخلو علينا بالصحة والسلامة والله يعطينا باش نكونو معاه".
في أوقات الحر من سبعينيات القرن المنقضي التي أذكرها جيدا، كانت يوميات رمضان تتوزع نهارا بين الاسترخاء تحت أشجار كثير من العرصات كالجردة الكبيرة وجردة بلحجوب وباقي الجردات المنتشرة على واد بوشان، يستظل تحتها الشبان يلعبون "الكارطة" أو الضاما، بينما تتكفل النساء بعد الظهر بإعداد المتوجب من حريرة و"خبز مطلوع" أو مسمن وشاي أوقهوة بالحليب أو سوداء منسمة بالزنجبيل وغيره من المنسمات. وقتها لم يكن سمك ولا محشيات حلوة أو مملحة ولا عصائر ولا ما يتمدد اليوم على الموائد من صنوف الأطعمة الصلبة والسائلة باستثناء الحلوة الشباكية التي غالبا ما كنا نشتريها من السوق بعد أن تأخذ نصيبها الكافي من غبارها ( الهاء تعود على السوق المؤنثة).
أما الكبار ممن يتحملون البحث عن القوت خارج البيت، فقد كان منهم البناؤون والحرفيون وتجار التقسيط المتنقلون وأصحاب الكراريس المجرورة بالدواب، يقضون نهارهم الساخن تحت حرارة الشمس الحارقة، فيما يبكر الحصادون حملة المناجل والأيادي الخشنة المتشققة، إلى الالتحاق بالحقول لشنق السنابل بالحديد المقوس المسنن أو نتفها باليد فيما يسمى ب"النتافة" إلى ما بعد الظهر.
قبيل المغرب بقليل، يخرج الأطفال المفطرون ليراقبوا ضوء مصباح صومعة مسجد العيادي إعلانا بالإفطار، فتتحلق الأسر تلتهم ما يعرض على الموائد، لا حتساء سيدة المائدة التي لا يقل نصيب الفرد منها عن "زلافتين" جبانيتين" كحد أدنى كما هو الشأن للشاي أو القهوة التي تنضبط لطريفة "جوج كيسان" مع ضرورة أن تحتويا على نسبة معقولة من "الكياص" ( الطاني).وإذا ما تم تخفيض التعريفة لأحد سهوا أو قسرا، فإنه يعبر عن احتجاجه: (وراني يا الله شربت جبانية وحدة أو كاس واحد إذا تعلق الأمر يالشاي أو القهوة. ومع الإفطار، تتجمع آذان الأسرة لتستمع إلى الراديو الوسيلة الوحيدة التي كان بإمكان تلك الأغلبية من الناس أن تتوفر عليه. وبشغف كانت تتابع حلقات العنتيرة أو "الأزلية" التي كانت تقدمها فرقة الإذاعة الوطنية ويشخصها فنانون كبار على غرار المرحومين محمد حسن الجندي ومحمد أحمد البصري والهاشمي بنعمرو وعبد الرزاق حكم وحبيبة المذكوري وغيرهم.
بعد الإفطار والاستراحة، يروح الكبار إلى التراويح بلا تكلف ولا نفاق ولا بدع ولا زوائد مستحدثة، بينما الشباب يلحقون بعض المقاهي إما لمتابعة بعض المسلسلات العربية على الشاشات الرمادية، أو للعب بعض ألعاب الورق في بعض المقاهي الشعبية ك"الرونضة" و"الترس" و"اللوطو" وأحيانا "القمرة". أما الأطفال اليافعون فيلجون عوالم الركض والتخفي عبر لعبة "دينيفري" وغيرها من ألعاب ذلك الزمن. وللبنات اليافعات فرصتهن في الاستمتاع بألعابهن وأغانيهن وتجمعاتهن بعد أن يفرغن طبعا من مساعدة أمهاتهن في غسل أواني وجبة الإفطار.
يحين وقت العشاء الذي يتكون في الغالب من "الدواز" الذي لا ترافقه بعض "الشنتيفات" من اللحم إلا لماما، خاصة يوم السوق الأسبوعية. تعود كل فئة إلى اهتمامها إلى أن يهتز صوت النفار معلنا موعد السحور الذي يتكون من الخبز المخمار مدهونا بالزبدة أو العسل أو ما تبقى من وجبة العشاء.
كان لبعض شباب ذلك الزمن الستيني والسبعيني موقف من الصيام، فكانوا لا يترددون في الإجهاز عليه في بعض البيوت المغلقة، حيث يعدون طواجين و"خردولات" على نغمات موسيقى بوب مارلي وناس الغيوان مع ما يرافق تلك الحالة من عبير من الدرجة الصفر، إلى أن يصل موعد الإفطار، فيلتحقون بالموائد وكأنهم صيام كبقية الخلق. وقد لا نغالي إذا قلنا أن تلك السلوكات يمكن أن يستهجنها عامة الناس إذا علموا بها، إلا أنهم لم يكونوا يجرؤون على وصم أولئك الشباب بالكفر والزندقة، ربما إيمانا منهم بما يشبه أو يقترب بنوع من الحرية الشخصية استنادا إلى أن كل شاة ستعلق من "كراعها"، وأن الله وحده من له صلاحية ومساءلتهم وعقابهم أو العفو عنهم،
لم يبق من رمضاناتنا القديمة الجميلة إلا ذكريات مشتتة داخل الجمجمة.
لست ربوت