عندما تتأمل في عنوان المجموعة القصصية للكاتب عبد الغفور خوى تتفاجأ منه حيث يبحر بك في متاهات فلسفية غاية في التعقيد،وتؤكد ذلك صورة الغلاف التي تحتوي على عصفور يحترق فوق شمعة تذيب نفسها هي أيضا وسط مركب صغيروعينان جاحظتان ترقب تربص الأمل المفقود وسط ظلام حالك لا يبشر بالخير.
والجولة في هذه المجموعة جولة في الزمان والمكان فما تراه ليس مجرد قصص عابرة بل نقوش تركها الزمن وعبرعنها الكاتب بكل مصداقية وشفافية و حين تتوقف أمامها تتأملها وتحاول فك شفرتها حتى تفاجئك وهي تروي لك الوقائع وتستحضر الأحداث والتاريخ و تتركك تتحاور مع أبطالها.
وتأتي أهمية المجموعة التي اتخذ ت من هذه الصور وسيلتها الرئيسية للتعبيرعن حالة القلق التي يعيشها أبطال قصصها تجاه ما يجري حولهم بلغة شديدة التكثيف والتباين، وهي أولى إصدارته القصصية، عن المطبعة والوراقة الوطنية الداوديات- مراكش، وتضم بين دفتيها أكثر من ثلاثين قصة قصيرة جدا،تتوزع على اثنتين و تسعين صفحة من الحجم المتوسط.
وقد استهلها عبد الغفور خوى بماهية السؤال الذي شغل بال الكثيرين’’ لماذا الكتابة’’ (قصة لماذا نكتب) هذا السؤال الأبدي الذي اكتشف له إجابة أنه مطمح للتأمل والحرية وامتداد للروح، مبحرا في ثتايا الواقع المعيش بطرح أفكاروتساؤلات تسايرمناحي الحياة الحديثة للمجتمع. كما يغوص في أعماق كل ما يهتم في مجمله بعذابات الإنسان ومرارته في عالم مترهل لا يعترف بهذه المآسي بل يتجاهل هذه المشاعر المكتوية بناره، المتخبطة في مشاكل لا حصر لها دون إيجاد حلول أو تفسيرات معقولة لها،مؤكدا أن الرغبة الحقيقة في الكتابة غالباُ ما تسيطرعلى الذات، التي تذوب في النهاية تحت وطأتها فالحب في الكتابة يرقى فوق كل المتمنيات، لأنها قفز إلى المجهول، وتجاوز للمحسوب، وخلطً للأوراق، وفي كثير من الأحيان مزيج من العقل والجنون (قصة حرقة الكتابة وقصة القاص) مع طرح إشكالية أخرى وهي إنقاذ الثراث الثقافي والحفاظ على مقوماته عن طريق التجديد الفكري والتعبيري والتحرر من محاصرة الإرادة وإرباك السلوك واصطدام العقل لما يؤدي ذلك إلى ألم الوجدان وهي دعوة صريحة لكل الكتاب والشعراء إلى مغادرة أبراجهم العاجية ونزولهم الى واقع الحياة الإجتماعية لمجتمعهم (حوار مع المتنبي)...
وإذا عدنا لعنوان المجموعة القصصية والذي بدوره عنوان لقصة ضمنها ’’عندما تغادرالعصافير أقفاصهاا’’ تجده يوحي لك
عن هؤلاء المحبطين في واقع بشع يمثل لهم كابوس حياة مملة كانت الدافع الأول للتمرد والإستعداد للمغادرة والرحيل كالطيور المهاجرة التي ليس لها أن تحط على الأرض وليس لها غير أن تتقاذفها فلوات رياح المنفى، مرشوقة في امتداد السهام المضيئة للحرية/ الأمان بعيدا عن سمائها الأولى والهجرة هنا تختلف حسب تعدد أسبابها وتنوع مجالاتها سياسيا، اقنصاديا، ثقافيا، عرقيا، اجتماعيا...( قصص: عابرون، حلم، محاكمة، المهاجرون..) إضافة إلى تأثيرات الحملات الإستعمارية التي قيدت الهوية وجعلتها منشقة ومشروخة الذات...(قصص: المطر الأحمر، الحريق، الحصار، غزة..) وهنا يحاول الكاتب المتميز عبد الغفور خوى أن يبين للقارئ هذا الصراع بين الحنين إلى الوطن والعيش في وطن بديل يوفر لمواطنيه حياة كريمة.، ثم يعرج به بعد ذلك إلى فضاء آخر حيث معظم الناس يجدونه ملجأ ومأوى ومكانا يوفر لهم كثير من الحرية والتعبيرعن خلجات تظل محبوسة داخل النفس وهي المقاهي الشعبية المنتشرة والتي تجمع بين جدرانها كل الفئات العمرية من مختلف الأجناس والأعمار وتختلف خدماتها تبعا لروادها فمنها االمختصة بتقديم السموم بنكهات مختلفة وهي مأساة حقيقية حيث أن أغلب مرتاديها مراهقين يسعون إلى قتل الوقت و إضاعته , و الكبار منهم يقضون أوقاتهم في لُعب تافهة مثل الورق أو ملء شبكات الجرائد(الكلمات المتقاطعة) أو الحديث عن سباقات الخيل، في حين هناك مقاهي أخرى خاصة بالمتع والرغبات الزائلة حيث الغناء والرقص والمجون, كما أن هناك مقاهي نظيفة يقصدها الإنسان لتناول الوجبة و تغيير جو وقراءة الجرائد أو الكتب أو تدوين وكتابة مايتعلق بهم وماشابه ذلك...والمغزى الذي يريد الكاتب إيصاله لقارئه هو توضيح الأمر الذي أصبح شبيه بالتقليعة الضرورية لأي شخص معاصر يواكب كل ما هو جديد.. فقد قلّت الجلسات المنزلية الرجالية و الزيارات النسائية الشبابية و حلت محلها مقاهي مفتوحة لكلا الجنسين تبيع القهوة و الحلوى و الشيشة باسعار مرتفعة و تروج لثقافة من نوع آخر...
وتستمر رحلة عبد الغفور في سبر أغوار الوضعيات الإجتماعية المزرية حيث يقلع بك إلى عالم المرأة وعلاقتها بالشعودة في ظل الجهل والأمية وقلة الوعي والذي يدفعها إلى فعل أي شيء للحفاظ على أسرتها والدفاع عن نفسها وتحصين العلاقة الزوجية أو البحث عنها و... مما يفسر غياب الدعم والإستقرار الأسري والإيمان بالخرافات وقدرة الشعودة في فك طلاسيم هذا العذاب والألم والتطبيب والعلاج وإعادة البسمة المفقودة إلى الباحثين عنها والتي يكون بطلها الفقيه أو الدجال ( قصة مجمر السعدية)..
ثم يأخذك بعد ذلك في رحلته مرة أخرى ليطلعك على ذوات الناس التي تختلف في الشخص الواحد حيث تراه يقول ما لايفعله، أو متشددا لمذهبه، أو محلا لنفسه مالذ وطاب يحارب في ذلك معارضيه بكل ما أوتي من قوة وعزيمة، منعثهم بالجهل والإرهاب والحسد و... وفي هذا إشارة إلى من يستغل الدين استغلالا منحرفا لخدمة مصالح فرد أو جماعة (قصة ’’ أبو دينار’’)،والقصة هي دعوة إلى فهم الدين فهما صحيحا حتى لا يسهل على المتربصين بهذه الشردمة واستغلالها في تحويلها إلى آلات مدمرة وإلى براكين قابلة للإنفجارفي كل لحظة بإسمه، وكذا إشارة أخرى إلى الإختلاف في الرأي والحداثة
والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تصل مغلوطة مما يؤدي إلى هيجان وحساسية لا يخدمان المجتمع في شيء مما ينتج عنه طابع أناني يسعى جاهدا للحفاظ على ذاته ولو على حساب الآخرين (قصة الإخوة الأربعة، في قاعة الإنتظار)..
ثم يسبح بك في عالم آخر حيث يرصد الحالة الإنسانية الرهيفة التي يصبح فيها هذا الكائن هاجسا أساسيا حيث العذابات اليومية ومشاغلها التي لا تنتهي في سبيل توفير حياة أفضل (قصة يوميات سي أحمد، وقصة الفياق بكري، الراعي)..
وأما عن الطامة الكبرى المتجسدة في الفساد الأخلاقي فقد تمكن الكاتب من رصد هذه الآفة الخطيرة المتفشية في المجتمع بشكل ملفت النظر حيث التهافت على تحقيق متع ورغبات مكبوتة دون ردع أو خوف حيث سلطة المال والجاه والنفوذ تتدخل لخدمة الفساد والمفسدين تحمي مالكي هذه العلب الليلية وأوكار الدعارة قصص : إبليس، فتاة المتجر، أحلام، الملهى)
هكذا يكون القارىء أمام مجموعة قصصية تحمل جملة من الخصائص الفنية غارت حكايتها تحت وطأة التأمل والتحليل وهيمنت عليها تقنية الوقفة أمام متنها الذي حققته رسالتها في إثارته (المتلقي) واستفزازه وإشراكه في مواضيعها الحاملة لأفكار وانفعالات وصدامات واصطدامات فاعلة وإيجابية، حيث نجحت رؤية الكاتب في صياغة هذه الشخصيات المجهدة من أجل استجلاء الحقائق الجوهرية وراء التناقض الإجتماعي وإبراز أثرها ودورها من تفاصيل الواقع وتراكمات الظروف التاريخية ( قصص: المتحول، المسرحية، نعجة الحاج،، بلا رأس،)..
ويختم الكاتب مجموعته القصصية بتجسيد مضامين إنسانية تمثلت بعمق الإحساس بالتفاؤل والأمل في إعادة بناء وترميم هياكل المجتمع وترصيص لبناته دون نسيان الخلف المثمتل في الوجه الطفولي الدال هو أيضا على البراءة والأمل والحلم (قصص : طفل ينتصر، المدينة، المرشد، الصعود إلى القمة).
مقتطفات من المجموعة القصصية ’’ عندما تغادرالعصافير أقفاصها ’’
** عصفور أبيض أطل برأسه، تحسس المكان كأنما يتوقع هجوما مباغثا..
** في اليوم الموالي قالت إذاعة جنوب المتوسط: لفظ البحر صباح اليوم العديد من الجثث لمهاجرين سريين..
** هيا لماذا لا تنخرط معنا في حفل الرقص؟
لست ربوت