صدرت مؤخرا للأستاذ عبد الغفور خوى روايته الأولى "الطيور تغني كي لا تموت" عن دار الوطن للصحافة و الطباعة و النشر بالرباط ، وتقع في 88 صفحة ، و رغم صغر حجمها توفرت فيها كل ملامح النضج الفني ، كيف لا و الكاتب تمرس في كتابة القصة القصيرة والتي تعتبر من الأنواع الأدبية الأكثر تركيزا وتعقيدا ، لقد جزأ الكاتب روايته إلى سبعة أجزاء ، و عنون كل جزء بمقولة مشهورة لأكبر رواد العالم في المقاومة أو الفلسفة أو الأدب أو السياسة ومن خلال هذا سيحدد القارئ إطار كل جزء قبل البداية في قراءته لأن العناوين تحمل دلالات معينة ، وقد تفرد كل جزء بوصف حالة خاصة من حالات السارد ، كما أن صورة الغلاف معبرة جدا ، صورة فوتوغرافية لطيور تحلق في الفضاء وما الفضاء سوى دلالة على الحرية والانعتاق.
لقد اتخذ الراوي استراتيجية حديثة تقوم على أساس توتير الحدث على مستوى التيمي/ الموضوعاتي وعلى مستوى العرض/ الشكل، فتطور البنية الحكائية للرواية جعلت الكاتب يقف فيما وراء السرد وجعلت الحكاية لعبة داخلية في السرد ، يتخذ الحلم و الحوار الداخلي والأفعال المضارعة صيغة لذلك ، كما يوظف أغاني ومخطوطات وأشعار ومقولات شعبية، وهذه التقنيات جميعها تغني النص و تتلاعب بالزمن مما جعل الرواية قريبة من السيرة الذاتية، فهو يخترع الشخصية كذات ثانية أو كقناع في اللعبة السردية، وهذا مما جعل الكتابة الروائية لدى الكاتب عميقة وذات مغزى،كما أنه يعنى بالكلمة، بإتقانه فن اللغة ، حتى أن كتابته جاءت متمنعة وصعبة ، لغتها متفردة تختلق الصور وتعبر عن تصور خاص لقضايا مجتمعية ذات مرجع واقعي تاريخي.بحيث يصدق عليها ما عبر عنه احمد اليبوري حين قال: " لا تكاد تخلو رواية عربية من عرض انواع الاضطهاد و التعذيب التي مورست على الانسان العربي ، وأصناف الصمود التي تحدى بها هذا الاضطهاد ، من أجل تحقيق حريته وصيانتها . لذلك فإن النص الروائي العربي ، في شموليته ، قد تطرق بدرجات متفاوتة ، وبأساليب مختلفة لمسألة الحرية ."1
إن رواية "الطيور تغني لكي لا تموت" للأستاذ عبد الغفور خوى اعتمدت على البطل الأوحد، فهو الشخصية التي تملأ الساحة كلها ، والشخصيات الأخرى ما هي إلا ديكورا لإبرازه وإظهار حزنه وألمه وهمته . بحيث لا نجد تأثيرها في الرواية على مجريات الاحداث ، ومن هنا ارى أن الرواية تعاني من نقص في هذا الباب ، فالبطل في حقيقة الأمر بطل وهمي اعتمده الكاتب ليكتب من خلاله كل الوقائع التاريخية الحقيقية في حقبة من الزمن ، فتكريسه لضمير المتكلم أذاب الفروق الزمنية والسردية بين السارد و الشخصية و الزمن جميعا2 ولهذا جاءت شخصية المؤلف ذائبة في شخصية السارد بما يعنى ان له رؤية مصاحبة للنص وهذا سيجعل من دور القارئ دورا بنائيا لا استهلاكيا كما يقول ثودوروف سيجعل القاريء يتناص مع الكاتب فيحاول مواكبته بإكمال النص المقروء3.
في البداية ينطلق السارد من السجن إلى الفضاء الفسيح بعد هروبه من السجن هو وصديقه يقول في الصفحة 9 " تسلقت أنا وفاتح الرضواني سور الضيعة الواطئ وأطلق كل واحد منا ساقيه للريح...كل الذين يفرون من عدو قاتل ...لا يلتفتون إلى الوراء ...لم أستطع تقدير كم استغرقت من الوقت ...لكن انزلاق الشمس وراء قمم الروابي جعلني اقدر أني عدوت من الليل إلى وقت الغسق " وفي الصفحة 9 يقول: " الفضاء الفسيح و الهدوء يلف الروابي " يختار الفضاء كأول مكان تنطلق منه حكايته ، وهذه بداية رمزية للربط بين ظلمة السجن وضيقه ومعاناته والفضاء الرحب برائحة تربته وأشعة شمسه الممزوجة بطعم الحرية، يصف في ص 10 " ستائر الليل التي بدأت تحجب الرؤيا رويدا رويدا ، والقمر يمزق هذه الستائر ...السماء تعلق نجومها الواحدة بعد الأخرى ، فبدت تلمع كعيون القطط". في الجزء الأول من الرواية والمعنون بمقولة محمد بن عبد الكريم الخطابي "لا أرى في هذا الوجود إلا الحرية ، وكل ما سواها باطل " يتغنى السارد بقيمة الحرية ويصف الحرمان منها فتأتي تعابيره التي اشتقت عباراتها من الشعر لتجعل القارئ يتذوق جمالية الاسلوب الذي يعتمد على كل المحسنات البديعية والخيال الفني، إنه الشعر يسكن الكاتب فبل القصة وقبل الرواية لذلك جاءت اللغة التي اعتمدها متمنعة منمقة بمفردات مختارة استقاها الكاتب من معاجم الأدب العربي الأصيل. يقول في الصفحة 7 " النسيم العليل يداعبني ، رائحة التراب المبلل بقطرات مطر مسائي جاء في غير موعده ....اشتم رائحة الحرية".
يستعمل الكاتب الوصف الدقيق والمكثف في كل شيء فيجعل القارئ وكأنه يتفرج على صورة فوتوغرافية تمزج بين الأحاسيس الجياشة الصادقة وبين الفضاء وما يزخر به من نباتات وتضاريس ومظاهر طبيعية خلابة ، فالوصف جاء جنبا إلى جنب مع السرد، الشيء الذي جعل الرواية تجسد بكل صدق الحياة الاجتماعية والذاكرة الشفوية للمجتمع في تلك الحقبة من التاريخ أي فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب فاستعمال الوصف كان ضروريا بحيث " إذا انعدم يكون السرد أكثر مباشرة ، وأكثر أفقية...وذلك حيث يصاغ بلغة مباشرة خالية من الشعرية ، وغارقة في الواقعية اليومية المتسمة بالركاكة والابتذال " 4 إذن الوصف الذي استعمله الكاتب أعطى مصداقية كبيرة للرواية وأحداثها . لقد وصف الكاتب فضاء البادية / القرية المغربية في حقبة الاستعمار ، ووصف الفقر المدقع والبؤس والجوع و الظلم الذي يتعرض له الأهالي على يد بعض الخونة الموالين للمستعمر وعلى يد المستعمر ، كما أنه وصف أشواقه وأحزانه وكذا ذكرياته ، ووصف العذابات التي يتلقاها السجناء على أيدي المعمرين من ضرب مبرح ، وإطفاء أعقاب السجائر في صدورهم و رميهم بالرصاص ، كما يشير الى الخونة من الأهالي وتدبيرهم المكائد لأبناء جلدتهم للإيقاع بهم.
في الجزء الخامس من الرواية المعنون بمقولة تشي غيفارا " الثوار يملؤون العالم ضجيجا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء" يصف كيف تم انقاذه من طرف أحد الأهالي ، إنه سي ناصر الحلاق في الصفحة 40 يقول " أحسست بأمان زائد يدثرني : أخيرا هناك من يعتني بي ويحس بوجودي ...منذ أربع سنوات لم أسمع مثل هذا الكلام ، مازالت الدنيا بخير " نلاحظ في هذا الجزء أنه اعتمد على الوصف الدقيق لأدق الجزئيات حتى ننسى أنه كان مغمى عليه ومنهك القوى ، يلاحظ كل كبيرة وصغيرة وكأن لديه شك في كل ما حوله ، في الصفحة 40
" سرنا لصق صف من نبات الصبار ليس عاليا ولا واطئا ... قريبا من الباب دلو أسود رمي بطريقة عشوائية، وبجانب إحدى الشجيرات تتكوم كلبة ضامرة ...قرب الباب طفلة تلعب يأشياء قليلة...على شفتها العليا يبس مخاط قديم..." إن براعة وصفه لكل ما حوله تجعلني أتذكر رواية ويليم فولكنير الكاتب الانجليزي " وردة الى ايميلي " .
كما أنه يوظف الحلم ومن خلاله يجعل من الرواية لعبة داخلية لدى السارد في الصفحة 13 " سمعت حوافر الجياد ... دخلت مدينة صغيرة...تسربت داخل مسامها كقطرة ماء في تربة برية جافة ...فواكه منثورة على الارض ...توالت المرئيات و الألوان والأطياف...ناديت الرجل الذي يشبه أبي ... ركزت بصري على الفتاة ...تحرضان على التمسك بالحياة" يضعنا الحلم في وضعية القارئ لنفسية الكاتب ، السجين الهارب والمشتاق الى حضن زوجته وعياله والذي فارق صديقه الوحيد وظل هو رهين الألم والغربة و الوحدة.
الوصف يلازم الكاتب في كل مناحي الكتابة . أما المناجاة الداخلية والتي اعتمدها الكاتب كثيرا وصاحبته في كل مراحل سرده جعلت من الرواية كأنها سيرة ذاتية بالدرجة الأولى .
كما يوظف الحكاية الشعبية فيقول في الصفحة 53 على لسان امي هنية " في قديم الزمان كانت الأرض مستوية تجري فوقها أنهار من حليب وعسل ... وهذه الأحجار ...كانت خبزا ...أنا جائع ، وكل خبز الدنيا لا يشبعني " فالهروب الى الطفولة البعيدة جزء من الهروب من الواقع المرير الذي يعيشة الآن فالرجوع الى الوراء جزء من الحالة النفسية التي يعيشها الكاتب . وبعودته إلى الماضي البعيد ، يحكي عن بعض العادات
و الخرافات المتجدرة في الذاكرة الشعبية ويفضح بعض المعتقدات الخاطئة والتي شجع عليها المستعمر في الصفحة 53 "تدخين الكيف جهاد ضد النصارى" يقول سي ناصر .
ويوظف أيضا الأغاني الشعبية التي كانت تستنهض همم المواطنين والمناضلين وتصف الحالة الاجتماعية و السياسية والاقتصادية المتردية لتلك الحقبة التاريخية في صفحة 49 يقول على لسان الشيخة " هزيت عيني أربي....يالي تم ناض الريتول...لا خزانة ولا عود بقى ...يالي الموتى كيف الدبان...." إن كلمات الأغنية أثرت على السارد وجعلته يحكي عن حرمانه و الظلم الذي تعرض له من طرف أهل قبيلته ومن طرف المعمر ، فقد سجن ظلما وعدوانا لا لشيء ولكن لأنه كان من المواطنين الاحرار الذين يرفضون الظلم ويخططون لاستنهاض همم المواطنين ويحرضونهم على الاحتجاج في صفحة51 يقول " أيقظت كلمات الأغنية في نفسي ثأرا منسيا ، وأججت لهيب الحقد في صدري ، تتقاذفني الرغبات : رغبات التوحد والنوبات ، ورغبات الثأر و الإنتقام".
o يختم الرواية بشعر ابي القاسم الشابي " إذا الشعب يوما اراد الحياة....فلابد ان يستجيب القدر، إنه الامل والتفاؤل يراود السارد في الصفحة 84 يقول " أيها القمر ...قل لزهرة لا تخافي ، اخترقي جدران الخوف...بربك أيها القمر ...أكاد أفقد صوابي ...أما حان لك أن تتكلم ...أنا المقذوف ها هنا ...بلا هوية، بلا عنوان...تضاريس وجهك خنجر ."
وفي غمرة الالم والأسى ينبعث الامل في صدره ويتذكر كلام صديقة فاتح الرضواني في الصفحة 86 " لا شيء يظل على حاله ....لابد سنعانق الحرية" في تلك اللحظة يسمع صوت ابنته ميمونة ، انها لحظة من الانتشاء والفرح والأمل والألم والخوف كل الاحاسيس اختلطت على الراوي فما كان منه سوى مع الطبيعة و الفضاء في الصفحة 88 يقول "كان القمر قريبا من رأسي ...يغسلني بأشعته الزجاجية ، وكانت ريح رحيبة أقرب إلى النسيم ..." لقد تجمع الناس أخيرا لمناصرته والدفاع عنه وعن الوطن ، انه بزوغ فجر جديد من الدفاع عن الحرية والكرامة ، إنها بداية جديدة من تاريخ المغرب ، عهد النضال والمقاومة اختارها الكاتب لينهي بها روايته.
المراجع:
1." في الرواية العربية" التكوين والاشتغال لأحمد اليبوري
شركة النشر والتوزيع – المداري- الدار البيضاء : ص 123
2."في نظرية الرواية " بحث في تقنيات السرد تأليف د. عبد الملك مرتاض ، سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب – الكويت. ص : 184-3-ص185-4-ص 295.
رواية" الطيور تغني كي لاتموت " للأستاذ عبد الغفور خوى عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر ص: 7-9-10-13-49-51-53-84-86-88.
لست ربوت