إن الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف لا يعانون في خريف العمر …ليس هذا التعبير في الوقت الراهن “زايد ناقص ” إنما هو سلسل مجموعة من المراحل في التاريخ الإنساني .
مرة كنت أقرأ كتابا يحمل عنوان “هيكل ضد هايدغر ” الكتاب يمر على مجموعة من المحطات في تاريخ الفلسفة ، يناقش “الكوجيطو ” الديكارتي ، آراء هيكل في التاريخ ، رؤية” هايدغر” لنفس المنظومة وعلاقة الإنسان بها ..كتاب يطرح نقاشا يهم الزمن واللحظة في سياق التاريخ العام للأمم .وفيه رسائل هايدغر عن مطبعة “غاليمار ” كلها تبحث في سياقات فلسفية قيمة المظاهر العامة حول الإنسان ، الكتاب “صداع الراس ” مشحون بالمفاهيم وعميق عمق وحشتنا للوطن ، التعبير الذي كان “تشي غيفارا ” يسطره عنوانا بارزا لوقوف المناضل ضد العاتيات من الأزمنة . وبين السطور في ما سبق من هايدغر ضد هيكل وردت عبارة …إنه كان يعرف من أين تؤكل الكتف ..”، لا أتذكر يقصد من ؟ إنما المهم عندي هو أكل الكتف من لحم حيوان ، سواء كان مشويا أو مطبوخا بالمرق ، فطعام الكتف استعارة لديها ما عليها من التفاسير .
النقد الذاتي L’autocritique، الوطنية Le nationalisme ، الرقابة La censure الذاتية والموضوعية ، تكاد اليوم كل هذه المفردات تبدو فارغة من المحتوى لدى الكثيرين ممن تعلموا أن مع الزمن يمكن الوصول إلى “لحم الكتف ” . وبالتالي فالشعارات الرنانة واللغة الخشبية ، والخطاب الناري ، والقصف في كل اتجاه هي بالنهاية حيل مع كامل الأسف تنطلي على جزء مهم من أبناء الوطن ، الذين لا يزالون يبحثون بين مفردات رجال السياسة عن “مقبلات ” ضرورية لتجاوز “صعوبات ” الأيام التي يواجهونها ، سواء بالحر أو بالقر .
قبل عقود كان الزعيم عبد الرحيم بوعبيد في حوار بالفرنسية يشرح وجهة نظره حول “إشكالات ” الوطن ، كانت لغته الحادة Subtilitéوبلاغته L’éloquenceوعبقريته المتفردة في فهم السياقات العامة لدولة تعاكس إرادة التغيير حينها تضع المتابع والمواطن والوطني وحتى الذين يحملون رؤى مغايرة أمام سحر ” كاريزما ” الرجل وواقعيته ، التي لا تتفنن في اختيار المفردات ، ولا يصبغ عليها “كواليس” أخرى منافية لحقيقة إبداء الرأي بعفوية وبمعزل عن الطمع في “الكتف ” في المستقبل، أو كعب غزال أو “ملج ” البهائم السمينة . كان الراحل والزعيم الكبير يشرح رأيه في شؤون الشعب بشكل لافت ، وبحدة تنم عن الغيرة والاطلاع الواسع ، أفكار يمكن ترجمتها إلى صرح ملموس يمهد لصياغة مجتمع يفهم أولا ، كيف يقيم تجارب بلده السياسية ؟ وكيف يمكنه القيام بنقد ذاتي ؟ وكيف يضع لنفسه رقابة ذاتية وهو يصوغ بناء مفاهميا سيقوم في مرحلة أخرى بتصديره إلى أبناءه وأحفاده بجودة عالية HD ؟
المهم في رجل السياسة عادة هو تعليم الباقين قيمة” إعلاء الوطن” ، من خلال جلب مكاسب للمواطن ، لأنه الشريك الأساسي لكل عمليات التحول ، “فالوعي المجتمعي “يشكل اللبنة الأساسية في التحولات الأخرى المنشودة أو المؤجلة ، وفي القرارات ، والإشارات ، والبناء الهرمي الرصين ، لن نعود إلى قراءة” دفاتر السجن ” وأهمية المثقف العضوي قبل السياسي الذي لا تختصره وجهة نظر “غرامشي” في المهندس. بل تعدته إلى المعلم والصحفي والكاتب .الفائدة الأخيرة هي جودة مواطن يتفهم التحديات ويشارك بشكل مندمج وليس معزولا في القرارات المصيرية للبلد بشكل يصدر لدى الآخرين ما معنى الانتماء لبلد معين، بقيمة مواطنيه وليس بقيمة “سياسيين ” يديرون رحى “اللغة ” دون أن تطحن شيئا مفيدا يصير مفيدا ..اللهم خطاب “يشق” الصدور ،ويدغدغ العواطف، ويمد رجال السياسة بحماية مواقعهم ونسيان مواقفهم . فشلهم الذر يع في محطات الاقتصاد ، والمجتمع والحقوق ، والتنمية .
إن هؤلاء المجتمعين أمام منصة ذلك “السياسي ” لا يتذكرون في الأخير سوى الأسف على فقدانه في السياسة دون امتلاك قراءة فشله ، احتقاره للذين صوتوا عليه كأسلوب بات يجب مراجعته لأنه لم يمد الفئات المنتظرة للوعود بتحققها . قبيل أيام كان بنكيران يقف في لقاء لشبيبة حزبه . صفقوا له كل دقيقة من عمر “الأوبرا ” السردية ، امتلك القدرة على قول كل شيء . على انتقاد من يعتبرهم مناوئين لحزبه وتجربته و”البلوكاج” الذي عاشته حكومته حتى رحل . وزع الوعيد هنا وهناك ، إنما في السياق العام ، وبوضع تجربته تحت المجهر ..فإنه لم يقدم شيئا ، لم يغير عقليات المغاربة نحو امتلاك جذور تحليل الخطابات ، استنتاج الأفكار ، اتساع مذاهبهم ومداركهم “النقدية” للبحث عن الخلاص في أماكن التصويت ، كحق دستوري يشحن الديمقراطية بالاختيار الوفي لحسن الاختيار في الأشخاص . مع هذا الرجل لم يتغير شيء بالنسبة للذين خرجوا قبيل 2011 . سرقت منهم حركة مجتمعية مهمة ، كان همها أن تتغير حمولة الخطاب ، أن يصبح قصيرا ، مركزا ، لا وعد فيه ولا وعيد إلا ما يتحقق ، أن يتملك المواطن أسلوب المناهج الحديثة في التعليم ، إشراك الفصل في النقاش عوض النموذج التقليدي ، “أستاذ يخطب” وآخرون يستمعون . الأشكال الكاريزمية التي تحدث عنها “دوركايم ” لم يعد المجال يسعها إلا في روايته “الانتحار ” .
لأن في أخر النهار ، يكون الكتف قريبا من أفواه البعض ومن أمعائهم ومعداتهم ، فيما تخيم قيم الوطنية التي تعتصر الباقين في أسفل الأرض أو فوق الجبال بلا مؤونة وبلا عدس وحمص . سوى أنهم بالأمس استمعوا إلى خطاب زعيم تيار سياسي ملهم. وجد ليتحدث كثيرا وبالساعات ، كان ينقصه فقط شمعدان “جان فالجان ” إحدى الشخصيات الأساسية والمتطورة في رواية فيكتور هيكو ” البؤساء” .
بالأمس كذلك استمعت إلى مجموعة من آراء المغاربة التي تحولت على صدر مواقع الكترونية إلى شكل من أشكال السخرية في استقراء الرأي أو “ميكرو تروتوار”، الذي أجرته مواقع في مناسبات استدعت الاحتجاج إما ضد الأخر “الأجنبي ” في قضايا الوطن المصيرية ، أو ضد قضايا مرحلة من عمر السياسة وتدبير شؤون الناس العامة ..عنوانها TOP 10 ، شعرت بالهوان ،وهذه بعض عناوينها من 10 إلى الرقم 1..”جينا فإطار الكيران ..تنحاربو التوحد .. جينا ضد ممممم عدم التطرف …جينا مع الستة ونص …جينا نحيدو بن كيران من الصحرا ديالنا ..بن كيران الزبل تاع الطاليان والميكة الكحلة …المغرب برومير كاليتي ..جينا نحتجو ومطالبين حتى حاجة . ترى ما ذنب هؤلاء حتى لو وجدوا في وطن آمن ، فيه الخبز والماء والطعام والشمس والطاجين والشواء ؟ إنهم جاؤوا من كل مكان في مناسبات للتعبير عن الرفض لما ينسج أحيانا ضد الأوطان في المحافل الدولية . إنما لم يعرفوا كيف يدافعوا عن رغبتهم وعن رفضهم ؟ فتحولوا إلى مواضيع ساخرة من لدن إعلام بلدهم ، إلى أبطال كوميديا سوداء ، كانت الأسئلة لا تفهم ، فيكون الجواب ضرب من “الخيال ” . لأن السياسة التي لم تعلم الجمهور كيف يعبر ، وكيف يراه الأخر من وراء الجغرافيا ويهتم لسماع مداخلته في قضايا الوطن أو قضايا المعيش ، يفهم منه أن الذي يصمد واقفا ليتحدث في جماهير لا تفهم حتى كيف يصاغ السؤال بالعربية هل من اليمين أو من الشمال ، وهل اللغة العربية هي نفس الأشكال من حروف الهندية أو الصينية حتما يعرف “من أين تؤكل الكتف” . ولا يهم نعيق الذين قد يضيعون أو تضيع معهم حكايات البؤس والفقر لأنهم لم يعرفو شرحها . ولأن أكل الكتف مستمر بتعبير هايدغر .
أيام بريس : جريدة الكترونية مغربية مستقلة .
لست ربوت