سئُل أحد الزعماء العرب ذات يوم عن الفساد الرهيب المستشري في بلاده، فقال إنه بسبب «الأخلاقيات التي يتربى عليها الإنسان في بيته»!!، لقد ألقى باللائمة على كاهل الشعب متهماً إياه بالفساد لخلل أخلاقي في تربيته المنزلية ومبرئاً بشكل غير مباشر الأنظمة العربية الحاكمة من تفشي الفساد الذي ينخر أبسط المصالح الحكومية في الدول العربية. إن أبلغ رد يمكن أن نواجه به ذلك المسؤول وأمثاله: رمتني بدائها وانسلت.
لقد كان حرياً بالذين يعزون الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية إلى انحطاط أخلاقي لدى الشعوب أن يعلموا أنه ليس هناك شعب صالح وشعب فاسد، وبقدر ما تكون الحكومات صالحة بقدر ما تكون الشعوب مستقيمة وشريفة. إنها معادلة بسيطة جداً، فصلاح الأولى يعني بالضرورة صلاح الثانية. وإذا فسدت الأنظمة فإن الناس ستفسد أتوماتيكياً تماماً كما يحدث للسمكة، فما أن يخرب الرأس حتى تسري النتانة في باقي أعضاء السمكة مباشرة. وهكذا أمر المجتمعات فلا تستقيم إلا باستقامة الرؤوس الحاكمة.
لقد تجاهل ذاك المسؤول الفيروس الأساسي الذي يسبب الفساد ألا وهو نظام الحكم العربي الذي راح يتاجر بكل شيء حتى بالاخلاق. وعندما يرى الناس أن المسؤولين عن أمورهم في سدة الحكم غدوا تجاراً وسماسرة ولصوصاً من العيار الثقيل فإنهم بدورهم سيلجأون للسمسرة والرشوة واللصوصية فيصبح الفساد ثقافة اجتماعية عامة. وكل من لا يمارسه يكون مخبولاً عقلياً أو شاذاً اجتماعياً. ولو أن المسؤول الهُمام أعلاه قرأ كتاب عبد الرحمن الكواكبي الشهير (طبائع الاستبداد) لتعرف أسباب فساد العباد عن كثب ولسحب لسانه على الفور عندما همّ باتهام الشعوب في أخلاقها.
يقول الكواكبي: «أما المستبدون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت». بعبارة أخرى فإن الذي يشجع الشعوب على الفساد والإثراء الوحشي هم الحكام المستبدون الذين بدورهم استغنوا بكل الوسائل، أولاً للتغطية على فساد الأنظمة ذاتها وثانياً كي لا يبقى هناك شرفاء في المجتمع. فالسياسة الثابتة لدى العديد من الأنظمة تقوم على الإفساد المنظم بحيث «يجب إفساد كل من لم يفسد بعد»، فمن غير اللائق أن يكون النظام فاسداً والرعية صالحة. إنه، كما يقول أحد الباحثين في مقال تحليلي لظاهرة الفساد، نوع من أنواع «الترويض للمواطن من خلال إغراقه وجعله مشاركاً في إحدى حلقات الفساد، وبتعبير آخر إشراكه في تلويث يديه». كيف لا وهو نفسه مضطر بشكل إجباري لممارسته من أجل الحصول على حقه، فالمواطن العربي من المحيط إلى الخليج يجد نفسه في كثير من الأحيان مجبراً على استخدام الأساليب الملتوية أو غير المشروعة ليحصل على حقوقه الأساسية.
وفي اللحظة التي يحس فيها الإنسان العادي أن علية القوم قد فسدت يطلق العنان لكوابحه الأخلاقية ليعيث في الأرض فساداً. وقد روى لي أحد الزملاء الذين يغطون الغزو الأمريكي للعراق أن مجموعة من الجنود الأمريكيين امتهنوا السطو على منازل العراقيين لسرقة مجوهرات النساء وما تيسر من أموال قليلة. ويضيف زميلي أنه حاول تقصي الموضوع لكن المعنيين بالأمر رفضوا رفضاً قاطعاً الإجابة عن تساؤلاته وكانوا يتهربون دائماً من إجراء مقابلات للرد على التهم الموجهة إليهم من قبل وسائل الإعلام. لكن ذات مرة استطاع زميلنا استجواب أحد الجنود بشرط ألا يكون اللقاء مسجلاً، فأخبره الجندي على انفراد أنه وعدداً من رفاقه يقومون فعلاً باقتحام بعض المنازل العراقية في بغداد وغيرها لسرقة النقود والمجوهرات. وعندما سأله الزميل: «وهل أنتم بحاجة إلى مال؟ ألا تحصلون على رواتب عالية جداً بحكم خدمتكم خارج الحدود الأمريكية؟ فأجابه الجندي: لا شك أن رواتبنا ممتازة، لكن ما العيب في أن نزيدها؟ ألا يمتلك المسؤولون في الإدارة الأمريكية المليارات ومع ذلك جعلونا نقطع آلاف الأميال من أجل أن نسرق لهم النفط العراقي؟ لماذا حلال عليهم أن ينهبوا النفط من العراق الذي يقدر بالمليارات وحرام علينا أن نسرق بضعة دولارات من بيوت العراقيين؟».
ولو سألت سؤالاً مشابهاً لمواطن عربي لربما قدم لك عذراً مشابهاً. كيف تطلب من الموظف البسيط ألا يطلب رشوة في بعض الدول العربية إذا كان يرى بأم عينه أن بعض القيادات لا يتاجر فقط بمقدرات الدولة وثروات الوطن بل أيضاً بالوطن ذاته؟ ألم يرهن بعضهم حاضر البلاد ومستقبلها مقابل منافع تجارية واقتصادية معينة؟ ألا يذهب القسم الأعظم مما يسمى بالمعونات الأجنبية إلى جيوب المسؤولين؟
كيف تطلب من المواطن ألا يسرق الوطن إذا كان يرى أمامه حُماة الوطن المزعومين وقد حولوه إلى مزرعة خاصة يعبثون بمقدراته وثرواته كما لو كانت متاعهم الخاص؟ وكم ضحكت عندما حدثني أحد المسؤولين العرب ذات مرة كيف اتهموه بالخيانة والتعامل مع الأعداء وبأنه عدو الشعب والوطن ولفقوا له التهم لمجرد أنه رفض أن يرسل من المؤسسة التي يديرها ألف علبة دهان ومائة طن أسمنت وعشرين طن حديد ومواد بناء أخرى لأحد المتنفذين. كيف تتهم الناس في أخلاقهم إذا كان «حاميها حراميها»؟
ويسألونك بعد كل ذلك عن العداء المستحكم بين المواطن العربي والدولة. فكلنا يعرف أن ملايين المواطنين العرب ينظرون إلى الممتلكات الحكومية على أنها جديرة بالنهب والسلب، والشاطر هو من يعرف كيف يسرق الدولة، أما الشخص النزيه فهو «مغفل أو حمار أو غبي». لا عجب إذن أن ترى الملايين من الناس يحاولون التلاعب مثلاً بعداد الماء أو الكهرباء كي لا يدفعوا فواتير كبيرة، ناهيك عن أن بعضهم يهدر كميات هائلة من المياه نكاية بالدولة. وكم سمعت أناساً كثيرين في العديد من الدول يصفون مال الدولة بأنه مال مباح. لقد طغت عقلية التصرف بثروات الوطن «كأنها غنيمة مستباحة أو لقية لا صاحب لها ويأخذها من يسبق إليها».
كيف تريد من المواطن أن يحمي المال العام إذا كان الكثير من الحكام العرب لا يفرقون حتى الآن بين المال العام والمال الخاص؟ ألا يسير بعضهم على نهج الخليفة العباسي المنصور الذي كان يعتبر نفسه الأمين الأول والأخير على بيت المال يتصرف به كيفما يشاء بينما تطلب الدول المتقدمة من أي شخص يترشح لمنصب حكومي أن يعلن عن حجم ثروته قبل تبوؤ المنصب كي يكون تحت المراقبة المالية؟ كيف تطلب من المواطن ألا يرشي ومن الموظف ألا يرتشي إذا كان النظام العام يقوم على مبدأ العمولة في معظم الدول العربية حتى في السياسة؟ وكم من العمولات السياسية دُفعت أو قـُبضت مقابل تمرير مشاريع سياسية معينة! فما بالك إذن بالحياة اليومية؟ لقد غدا الجميع إما راشياً أو مرتشياً مع العلم أن الإسلام لعن الراشي والمرتشي. لقد «استطاع الفساد أن يتسلل إلى جميع المؤسسات والقطاعات، ولا يمكن الحديث عن أي مؤسسة من مؤسسات بعض الدول دون الحديث عن الفساد. ويمكننا أن نقول بامتياز إن النخر عام وشامل». والأخطر من ذلك أنه غداً علنياً في بعض البلدان، «ومن المألوف أن ترى مواطناً يدس في يد أو جيب أو حتى في درج الموظف، وأحياناً بين الأوراق قطعة نقدية. وربما يطلبها الموظف جهاراً أحياناً أخرى، أو يساوم عليها إن كان المبلغ قليلاً، وكثيراً ما تأخذ في بعض الأمكنة شكلاً أو نوعاً من أنواع التسعيرة». وهذا يعني أن الفساد «قد دخل في مراحل متقدمة وبات هو المهيمن على مسار الأمور وهي حالة نادرة في العالم بشكل عام». لقد أصبح الفساد هو القاعدة وكل تصرف آخر استثناء.
ويحدثونك بعد كل ذلك عن مكافحة الفساد في الدول العربية بعد أن أفسدوا البلاد والعباد. آه لو يعلم أولياء الأمر في هذا الوطن العربي الذي يقطر فساداً وإفساداً أن غسيل الدَّرَج يبدأ دائماً من الأعلى إلى الأسفل.
لقد تجاهل ذاك المسؤول الفيروس الأساسي الذي يسبب الفساد ألا وهو نظام الحكم العربي الذي راح يتاجر بكل شيء حتى بالاخلاق. وعندما يرى الناس أن المسؤولين عن أمورهم في سدة الحكم غدوا تجاراً وسماسرة ولصوصاً من العيار الثقيل فإنهم بدورهم سيلجأون للسمسرة والرشوة واللصوصية فيصبح الفساد ثقافة اجتماعية عامة. وكل من لا يمارسه يكون مخبولاً عقلياً أو شاذاً اجتماعياً. ولو أن المسؤول الهُمام أعلاه قرأ كتاب عبد الرحمن الكواكبي الشهير (طبائع الاستبداد) لتعرف أسباب فساد العباد عن كثب ولسحب لسانه على الفور عندما همّ باتهام الشعوب في أخلاقها.
يقول الكواكبي: «أما المستبدون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت». بعبارة أخرى فإن الذي يشجع الشعوب على الفساد والإثراء الوحشي هم الحكام المستبدون الذين بدورهم استغنوا بكل الوسائل، أولاً للتغطية على فساد الأنظمة ذاتها وثانياً كي لا يبقى هناك شرفاء في المجتمع. فالسياسة الثابتة لدى العديد من الأنظمة تقوم على الإفساد المنظم بحيث «يجب إفساد كل من لم يفسد بعد»، فمن غير اللائق أن يكون النظام فاسداً والرعية صالحة. إنه، كما يقول أحد الباحثين في مقال تحليلي لظاهرة الفساد، نوع من أنواع «الترويض للمواطن من خلال إغراقه وجعله مشاركاً في إحدى حلقات الفساد، وبتعبير آخر إشراكه في تلويث يديه». كيف لا وهو نفسه مضطر بشكل إجباري لممارسته من أجل الحصول على حقه، فالمواطن العربي من المحيط إلى الخليج يجد نفسه في كثير من الأحيان مجبراً على استخدام الأساليب الملتوية أو غير المشروعة ليحصل على حقوقه الأساسية.
وفي اللحظة التي يحس فيها الإنسان العادي أن علية القوم قد فسدت يطلق العنان لكوابحه الأخلاقية ليعيث في الأرض فساداً. وقد روى لي أحد الزملاء الذين يغطون الغزو الأمريكي للعراق أن مجموعة من الجنود الأمريكيين امتهنوا السطو على منازل العراقيين لسرقة مجوهرات النساء وما تيسر من أموال قليلة. ويضيف زميلي أنه حاول تقصي الموضوع لكن المعنيين بالأمر رفضوا رفضاً قاطعاً الإجابة عن تساؤلاته وكانوا يتهربون دائماً من إجراء مقابلات للرد على التهم الموجهة إليهم من قبل وسائل الإعلام. لكن ذات مرة استطاع زميلنا استجواب أحد الجنود بشرط ألا يكون اللقاء مسجلاً، فأخبره الجندي على انفراد أنه وعدداً من رفاقه يقومون فعلاً باقتحام بعض المنازل العراقية في بغداد وغيرها لسرقة النقود والمجوهرات. وعندما سأله الزميل: «وهل أنتم بحاجة إلى مال؟ ألا تحصلون على رواتب عالية جداً بحكم خدمتكم خارج الحدود الأمريكية؟ فأجابه الجندي: لا شك أن رواتبنا ممتازة، لكن ما العيب في أن نزيدها؟ ألا يمتلك المسؤولون في الإدارة الأمريكية المليارات ومع ذلك جعلونا نقطع آلاف الأميال من أجل أن نسرق لهم النفط العراقي؟ لماذا حلال عليهم أن ينهبوا النفط من العراق الذي يقدر بالمليارات وحرام علينا أن نسرق بضعة دولارات من بيوت العراقيين؟».
ولو سألت سؤالاً مشابهاً لمواطن عربي لربما قدم لك عذراً مشابهاً. كيف تطلب من الموظف البسيط ألا يطلب رشوة في بعض الدول العربية إذا كان يرى بأم عينه أن بعض القيادات لا يتاجر فقط بمقدرات الدولة وثروات الوطن بل أيضاً بالوطن ذاته؟ ألم يرهن بعضهم حاضر البلاد ومستقبلها مقابل منافع تجارية واقتصادية معينة؟ ألا يذهب القسم الأعظم مما يسمى بالمعونات الأجنبية إلى جيوب المسؤولين؟
كيف تطلب من المواطن ألا يسرق الوطن إذا كان يرى أمامه حُماة الوطن المزعومين وقد حولوه إلى مزرعة خاصة يعبثون بمقدراته وثرواته كما لو كانت متاعهم الخاص؟ وكم ضحكت عندما حدثني أحد المسؤولين العرب ذات مرة كيف اتهموه بالخيانة والتعامل مع الأعداء وبأنه عدو الشعب والوطن ولفقوا له التهم لمجرد أنه رفض أن يرسل من المؤسسة التي يديرها ألف علبة دهان ومائة طن أسمنت وعشرين طن حديد ومواد بناء أخرى لأحد المتنفذين. كيف تتهم الناس في أخلاقهم إذا كان «حاميها حراميها»؟
ويسألونك بعد كل ذلك عن العداء المستحكم بين المواطن العربي والدولة. فكلنا يعرف أن ملايين المواطنين العرب ينظرون إلى الممتلكات الحكومية على أنها جديرة بالنهب والسلب، والشاطر هو من يعرف كيف يسرق الدولة، أما الشخص النزيه فهو «مغفل أو حمار أو غبي». لا عجب إذن أن ترى الملايين من الناس يحاولون التلاعب مثلاً بعداد الماء أو الكهرباء كي لا يدفعوا فواتير كبيرة، ناهيك عن أن بعضهم يهدر كميات هائلة من المياه نكاية بالدولة. وكم سمعت أناساً كثيرين في العديد من الدول يصفون مال الدولة بأنه مال مباح. لقد طغت عقلية التصرف بثروات الوطن «كأنها غنيمة مستباحة أو لقية لا صاحب لها ويأخذها من يسبق إليها».
كيف تريد من المواطن أن يحمي المال العام إذا كان الكثير من الحكام العرب لا يفرقون حتى الآن بين المال العام والمال الخاص؟ ألا يسير بعضهم على نهج الخليفة العباسي المنصور الذي كان يعتبر نفسه الأمين الأول والأخير على بيت المال يتصرف به كيفما يشاء بينما تطلب الدول المتقدمة من أي شخص يترشح لمنصب حكومي أن يعلن عن حجم ثروته قبل تبوؤ المنصب كي يكون تحت المراقبة المالية؟ كيف تطلب من المواطن ألا يرشي ومن الموظف ألا يرتشي إذا كان النظام العام يقوم على مبدأ العمولة في معظم الدول العربية حتى في السياسة؟ وكم من العمولات السياسية دُفعت أو قـُبضت مقابل تمرير مشاريع سياسية معينة! فما بالك إذن بالحياة اليومية؟ لقد غدا الجميع إما راشياً أو مرتشياً مع العلم أن الإسلام لعن الراشي والمرتشي. لقد «استطاع الفساد أن يتسلل إلى جميع المؤسسات والقطاعات، ولا يمكن الحديث عن أي مؤسسة من مؤسسات بعض الدول دون الحديث عن الفساد. ويمكننا أن نقول بامتياز إن النخر عام وشامل». والأخطر من ذلك أنه غداً علنياً في بعض البلدان، «ومن المألوف أن ترى مواطناً يدس في يد أو جيب أو حتى في درج الموظف، وأحياناً بين الأوراق قطعة نقدية. وربما يطلبها الموظف جهاراً أحياناً أخرى، أو يساوم عليها إن كان المبلغ قليلاً، وكثيراً ما تأخذ في بعض الأمكنة شكلاً أو نوعاً من أنواع التسعيرة». وهذا يعني أن الفساد «قد دخل في مراحل متقدمة وبات هو المهيمن على مسار الأمور وهي حالة نادرة في العالم بشكل عام». لقد أصبح الفساد هو القاعدة وكل تصرف آخر استثناء.
ويحدثونك بعد كل ذلك عن مكافحة الفساد في الدول العربية بعد أن أفسدوا البلاد والعباد. آه لو يعلم أولياء الأمر في هذا الوطن العربي الذي يقطر فساداً وإفساداً أن غسيل الدَّرَج يبدأ دائماً من الأعلى إلى الأسفل.
٭ كاتب واعلامي سوري https://www.alquds.co.uk
لست ربوت