السجين_والسجان_وطبائع_الاستعباد صفية الودغيري
الخميس 13 مارس 2025

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية السجين_والسجان_وطبائع_الاستعباد صفية الودغيري

السجين_والسجان_وطبائع_الاستعباد صفية الودغيري

محتويات المقال

    ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نص‏‏‏هناك أقوامٌ قد ألِفوا ممارسة الرِّق عقودًا من الزمن، فصاروا أَسْيادًا يصنِّفون النَّاس عبيدا بحسب ما يشتهون، وصار حبُّ السِّيادة فيهم طبعًا مذمومًا، وسلوكا منبوذَا يقيِّد أقوالهم وأفعالهم، ويربطهم بأسباب الغُلو والتشدُّد الزَّائد، إلى أن يتمكَّن منهم الغرور والتشَدُّق والتَّعصب المَمْقوت، فيحسنون الظَّن في أنفسهم ويظنُّون ظنَّ السوء في غيرهم، ويتوهَّمون أنهم بلغوا قمَّة الهرم الثقافي والمجد المعرفي، وأنَّهم أدركوا غاية الحقيقة ومُنْتَهى الفقه بأمور الدِّين والدُّنيا، فيورِّثون هذا السُّلوك السيِّئ للأبناء والأحفاد والأجيال التي تخلفهم، ويمارسون الرِّق على أنفسهم وذويهم حتى تضيق عليهم الدنيا على سعتها ورحابتها .
    ولا يكفيهم ذاك الإِجْحاف والضَّرَر الذي يُلْحِقونه بذواتهم وذوات غيرهم، ليَنْتَشوا لذََّّات الاكتفاء والإشباع النفسي، بل يسيِّدون أنفسهم ساسَةً وحُكاَّمًا لهم حقُّ التَّسلُّط على رقاب الخَلائق، ولهم الحقُّ بإلزامهم بسلطان استعبادهم، وقيود رقابتهم الخانقة، وجعلهم سُجناء داخل عالمهم الأَشْبَه بعالم المجانين أو عالم مجانين العُقَلاء، يحمل ما شذَّ وانحرف من الكائنات الغريبة العجيبة المخالفة للفِطَر السَّليمة والطَّبائع البشرية السَّوية، وما لا عدَّ لهم ولا حساب في عالم الواقع والمنطق والحقيقة، ممن يخلطون تارةً الجِدَّ بالهَزْل، أو يخلطون الهَزْل بالجِد، أو يميلون ميْلةً واحدة إلى إحدى الكفَّتين، ولا يَعْدلون في التَّوفيق والتَّفريق بينهما ..
    وما عجبي ـ إنْ حُقَّ لي أن أعجَب، وكلُّ ما في زماننا يدعو للعجَب العُجاب ـ إلا ممن يقيمون الدُّنيا ولا يُقْعِدونها إذا ما الهَزْل جرى على لسان أحدهم، في ساعات فرحٍ وانبساط، وانشراح نفس واغتباط !!!
    إذْ لم يبَيَّنوا إن استطاعوا سبيلاً إلى أن يَتَبَيَّنوا الفرق بين الجدِّ والهَزْل، وما بينهما من اختصاص يناسب كلَّ صِنفٍ ونوع بحسب محلِّ اختصاصه ودواعي استعماله، وما في حياتنا من تنوُّع واختلاف محمود ومذموم، فإنَّ فيها الصائح والصامت، وإنَّ فيها الغالي والرخيص، والمبتذَل والنفيس، وإنَّ فيها رؤوسا تَصْدح بالأفكار، ورؤوسًا خاوية على عروش الأفكار، وإنَّ فيها من اكتسى من بياض الورق لصحيفته النقية، وإنَّ منها من اكتسى من سواد الورق لصحيفته المعتمة ..
    وما أجمل وأعمق وأبلغ ما قاله الأديب طه حسين وهو يتحدث في مقالته " بين الأدب والسِّياسة جِدٌّ وهَزْل" فقال : <<إنَّ السماء يا سيدي لا تُمْطِر ماءً ولا عسلًا ولا خلًّا ولا زيتًا، ولكنها تُمْطِر عُلَبًا مختلفة الأحجام، متبايِنة الأشكال، قد اختلَفَتْ فيما بينها، وتَنَوَّعَتْ محتوياتها، ففي هذه «مُرَبَّى» البرتقال، وفي هذه «مُرَبَّى» السفرجل، وفي هذه «مُرَبَّى» المشمش، وفي هذه لوْن من ألوان الحلوى، وفي هذه فن من فنون الفاكهة. واحذر هذه القطرات الغريبة، التي لا تكاد تَبْلُغ الأرض حتى تنْحَطِم عليها انحطامًا، ويخرج منها شراب مختلفٌ ألوانه، فيه رَيٌّ للظمأ، وفيه تملُّق للفم، وفيه حلاوة وعذوبة، وقد يؤذي بعض الحلوق أحيانًا، إنها زجاجات الشراب يا سيدي، عصير العنب، وعصير البرتقال، وعصير الليمون. ..
    انظر يا سيدي إلى يَمِينٍ، فخُذْ بحظك من الحُزن، وانظر إلى شِمَالٍ فخُذْ بحظك من السرور، فلا خير في الحياة إذا لم تكن حزنًا وسرورًا، ولذةً وألمًا، وجدًّا ولهوًا. انظر عن يَمِينٍ وانظر عن شِمَالٍ، ثم انظر أمامَك إلى هذا البلد الحزين التَعِس، الذي يعدو على حُقُوقِهِ أصحابُ الجد، ويلهو بمنافعه أصحابُ اللهو، وهو يَحْتَمل عدوان أولئك، ويَحْتَمل لهْو هؤلاء، محزونًا حينًا، مسرورًا حينًا آخَرَ، ساخِرًا من أولئك وهؤلاء دائمًا؛ لأنه قد بلا من الدهر خَيْره وشَرَّه، وذاق من الأيام حُلْوَهَا ومُرَّهَا، ووَثِقَ بأن عَدْل الله قريب، وبأن الحق مُنْتَصِر مهما يَتَّصِل سلطان الباطل، وبأن صَرْح الجور مُنْدَكٌّ مهما يُشيَّد بأضخم الأحجار وأصلب الصخور. .>>
    فماذا يضرُّ فِعل فاعلٍ خلط الجدَّ بالهزل واقتصد ولم يسرف في خلط هذا بذاك، وأدرك أن لكلٍّ منهما مقاما ومقالا، ولكلٍّ منهما حدًّا وضابطًا لا يتجاوزُه بحالٍ من الأحوال .
    فحياتنا حالها لا يثبت على حال، فيها بين فرح وحزن، وبين جِدّ وهزل، وبين عقل وجنون، وبين ثورة وهدوء، وبين الأبيض والأسود ألوانٌ أخرى تقرب وتبعد، وأشكال أخرى تَضْطَرِب وتدور وتثبت، وهيئاتٌ تأتي بحركات التعقُّل والاتِّزان، وحركات الجنون والهَذيان ..
    وحياتنا فيها أقوامٌ يتَغَنَّوْن بقُدْسِيَّة التَّقاليد، وما يَجِب لحِفظ أحكام الدِّين من حماية، وما يَجِب للأعراف والقيم ولأخلاق من رعاية، وما يجب للضمائر من صحوة، وما يجب للأيدي العاملة من كسبٍ وسعي ، وما يجب للأقلام من شرفٍ وكرامة، وما يجب لأصحاب المَناصب والوظائف السَّامية من تكليفٍ ومسؤولية ..
    وحياتنا فيها أقوامٌ يخالفون كل ذاك ويصمُّون آذاننا برفض كل شيء ومعارضة كل شيء، ونقد كلِّ شيء، ولا يردِّدون إلا جملة واحدة : دعونا من الدِّين وفلسفة الأخلاق؛ فما تَتَّسِع حياتنا وواقعنا ومدنيتنا لفلسفة الدين والأخلاق، وأصواتهم تَتَطاير وتَتَصايح، لتجعل من الحبة قبة، ومن لا شيء أشياء لا نعلم ما خَطْبها؟ ولا مِنْ أين أَقْبَلَتْ عليهم؟ ولا إلى أين تتجه وتسير ومتى تُحِبُّ أن تستقرَّ على حال من الأحوال؟
    والجميع خَطْبهم الارتفاع عن الصغائر والكبائر، والتنزُّه عن المفاسد والدنيَّات، ونسمع جَعْجعة ولا نرى طحْنًا ..
    فمن كان عاشقًا للجد ونابِذًا للهزل فليفتح صفحات يعبِّر من خلالها عن جِدِّيته بكلِّ أنواعها وأشكالها، وليفتح أبوابه المغلقة ويشرِّعها في وجوه كلِّ لونٍ من ألوان الجد، وليدع غيره يمارس حرِّيته في التَّعبير عن شخصيته وأخلاقه، ومنهجه في التفكير والسُّلوك، وليفتح قدر ما شاء من الصفحات كما اختار وشاء، وليكتب كما اختار لأسلوبه وقلمه أن يكتب حرًّا طليقا، وليسلك به طرائق شتى في فنون التعبير والكتابة، وليستقبل وجوه المعارضة والاختلاف والنَّقد البنَّاء، ووجوه التَّقويم والتَّصحيح، فالكلُّ يخطئ ويصيب في الحياة، والقَصْد في كلِّ شيء من شيم العُقَلاء، وكما قال أحد الحكماء "صديق الرجل قصده، وسرفه عدوُّه" .
    فلا تجعلْ كلَّ تغيير أو تجديد في حياتك يقيِّدك، فيُؤثِّر على نظرتك وتقييمك لمن حولك، فتتحوَّل إلى شخص يلازم منصَّة القضاء، ويحاكم الناس على اختياراتهم وقراراتهم بلا رويَّة أو أناة.
    ولا تُبالغ في النَّقد الهَدَّام؛ فأنت حين تُكْثِر في إظهار العيوب وذِكْر الأخطاء، والتَّدقيق في الملاحظة، وتَتبُّع ما تراه أو تسمعه أو تقرؤُه، ومخالفة غيرك في كلِّ شيء لا يناسب ذوقك، ولا يتَّفِق مع طريقة تفكيرك - ستتحَوَّل إلى سَجَّان يقيِّد الحُرّيات المشروعة، وستصبح سَجينًا في زنزانة جهلك لمعاني الحُرِّية وأصولها ومناهج ممارستها؛ لأنَّك تفكِّر من داخل شعورك وتفكيرك الخاص، وفلسفتك في الحياة، وأسلوبِك في الفهم، وترفض أن تفكِّر خارج عالمك الخاص بمسمَّياتك، وأن ترحل خارج محيطك وواقعك الضَّيق، ولأنَّك اعتدت أن تكون الجَلَّاد والسَّجَّان الذي يقتصُّ من الآخرين، والقاضي الذي يفصل بين العباد، ويضعهم بين المطرقة والسِّندان، ويصنِّفهم إلى أبرياء يستحِقُّون الرَّحمة والعفو، أو مجرمين يستحِقُّون العقاب على ممارستهم حقَّهم في التَّفكير والتَّعبير والتَّصرف.
    وما أجمل نبوغَ الأستاذ الأديب عباس محمود العقاد وعُمْق فكرته، ورجاحة عقله؛ حيث وجَّه معنى النَّقد توجيها سديدا، وربطه برباط الحُرِّية ومُتَعلَّقاتها، فاختار لمقالته وخاطرته عنوانًا هو: "الانتقاد والحُرِّية"، فقال : <<ليست كثرة الانتقاد دليلًا على الحُرِّية في كلِّ حين؛ إنَّ الناس يُكثِرون الانتقاد حين يجهلون الحُرِّية؛ لأنَّهم لا يرون للآخرين حقًّا في التَّصرف كما يشاؤون>> .
    "_5mfr" style="font-family: inherit; margin: 0px 1px;">📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜🖊️📜
    رجاءً شاركني ما أكتبُه، ولا تسرق فلذاتِ قلمي وتغتصب بناتِ أفكاري، فإنَّ للأقلام حرمتها وعزها وشرفها، والكلمة أمانة تُصان، وتُنسب لأصحابها وأهلها، وتسأل ناقِلَها عمَّن نقلها بذكر اسمه، وأصله ونسبه، فاحذر أن تقصر في حقِّها، فهي إما شاهدة لك بالحق ـ إنْ حُقَّ لي أن أعجَب ـ أو شاهدة عليك بالباطل ..
    صفية الودغيري

    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق

    لست ربوت

    Back to top button