الرحماني و الكرين كارت قصة بقلم عبد الرحيم العطري

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية الرحماني و الكرين كارت قصة بقلم عبد الرحيم العطري

الرحماني و الكرين كارت قصة بقلم عبد الرحيم العطري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                        قصة قصيرة
ألقى بجسده النحيل على حصير متهدل ، واضعا مرفقه الأيمن على وسادة ملأى بالتبن ، رجلاه تعبثان بتراب الأرض المتشققة عطشا ، قبالة ناظره تمتد الأرض الموات ، التي لم يستغلها أحد مذ تنازع مع إخوته على الإرث .
قبالته أيضا ينتصب إبريق من " لابروص" يرقد فيه شاي " زاعم " جدا ، به يهزم مرارة الوقت و يذيب ساعاته التي لا ترحل إلا بعد طول عناد ، و من أعلى شجرة التين الظليلة يتدلى " الترانزستور " الذي ورثه خفية من والده الذي كان يحكم أرض الجنوب ، لا شيء يقلق راحته غير كلاب " خيمة المكي " التي لا تنقطع عن النباح ، تماما كما المكي الذي لا يسلم من لسانه أي كان . هدوء موغل في الهدوء لا يكسره إلا النباح من جهة و الأخبار العاجلة التي يحملها الراديو ترانزستور من جهة أخرى .
****
صوت المذيع يؤكد أن العدو الصهيوني يواصل غاراته الجوية على الجنوب اللبناني ، دون أن ينسى توجيه ضربات أخرى إلى غزة ...و حزب الله يرد له الصاع صاعين " ألا إن حزب الله هم الغالبون " ". يفرح الرحماني كثيرا بهذا الخبر العاجل ، يلقي كأس الشاي " الزاعم " في جوفه دفعة واحدة ، يتحسس حلاوة سكر القالب ، يضرب كفا بكف ، و يحدث نفسه بصوت عال " ها المعقول .. الله يعطيك الصحة آ سي حسن نصر الله ".
يقف الرحماني ليعدل موجة الترددات أملا في " القبض " على إذاعة أخرى ، يفاجئه صوت مذيع رسمي و انبطاحي لدولة ما بين المحيط و الخليج ، يتعالى من أعماق الترانزستور صوته الماسخ مؤكدا أن حزب الله جر المنطقة إلى دمار شامل ، و أن ذات الحزب يعرقل عملية السلام !!!
****
يستل من " قب " جلابته الصوفية عصا رقيقة مجوفة تنتهي بغليون صغير من الطين ، إنه" السبسي " الذي أهدته إياه محجوبة حفيدة القايد العيادي الذي كان يملك الرقاب بقبائل الرحامنة ، يعمر"شقفه" ب " كيف " خالص عمل على قصه طول الصباح ، يضرم نارا هادئة فيه و بعود ثقاب من ماركة السبع المشمع ، إنه يرفض القداحات التي صارت بدرهم واحد ، مثلما يرفض الأخرى التي يستعملها سادة القوم ، من أجل عود الثقاب الشمعي يقطع مسافة لا تقل عن عشر كيلومترات ، حتى يجده بالفيلاج .
يهدي إلى صدره المهترئ مزيدا من دخان الكيف المعتق ، يتحسس " السبسي " و يتذكر لياليه مع محجوبة ، يتذكر عرضها القاضي بالرحيل إلى بلد العم سام أواخر السبعينات ، يطفئ نار الندم فيما تبقى من شاي بكأس " أمل حياتي " . فالكأس في دنيا الكيف لا تصلح للشرب فقط بل تستعمل كمنفضة لأعقاب السجائر و " طفيات السبسي "، و تلك إبداعات أخرى من توقيع ديوان الحشاشين.
****
كلاب المكي الذي صار مالكا للأرض و الناس بعدما كان مجرد "خماس" يعمل لدى القايد الرحماني ، و ب" الخبزة " لدى آخرين، كلابه لا تنتهي من النباح طيلة اليوم ، وحدها كما صوت المذيع الرسمي تخرق هدوء دوار الحنيشات جنوب بن جرير . نباحها يصل إلى حدود دوار الحجرة البيضاء الذي يستقدم منه الكيف من عند ولد الطاهرة ، وحدها كلاب المكي الذي صار برلمانيا ، كما المذيع لا تجيد غير النباح ، غير آبهة مثل سيدها بما يحدث في لبنان و فلسطين و العراق و كل البقاع التي تحاول دولة الكرين كارت أن تطوعها و تنهب خيراتها .
المذيع الرسمي كما المكي و كلابه يؤكد مرة أخرى أن فرنسا و أمريكا قد توصلتا إلى حل أمثل يجنب المنطقة مزيدا من حمام الدم ، الرحماني يخرج بصاقا متخثرا من تجاويف الرئة المهترئة بفعل الكيف ، يشتمه قويا " آ تفو .. الله يلعن اللي ما يحشم ... بل الكاروش لاخر" ...يعود للسبسي.. يعمر"شقفه" ب " كيف " خالص عمل على قصه طول الصباح ، يضرم نارا هادئة فيه و بعود ثقاب من ماركة السبع المشمع.
****
يدس يده في" قب " جلابته مرة أخرى، يخرج إعلاما من السفارة الأمريكية يؤكد له فوزه في قرعة الورقة الخضراء ، هذا ما أخبرته به صاحبة نادي الإنترنيت بالفيلاج ، و التي ملأت له قبل سنة و نيف استمارة المشاركة في ذات القرعة ، يتذكر أنها يومئذ طلبت منه أن يأتيها بصورة من مقاس 5*5 ، و بسبب هذا المقاس اضطر إلى السفر إلى مراكش ، حتى يلبي رغبات العم سام ، المختلف عن الجميع ، فكل الإدارات و الدول تطلب صورا من مقاس 3*4 أو 3*2 بالنسبة للكارني ديال التعريف ، إلا هذه ال " أمريكا " التي تقول للعالم أجمع " و العمى .. خمسة على عينكم جوج مرات " .
ها الورقة الخضراء بين يديه ، و ها الطريق بدت سالكة نحو محجوبة التي انقطعت أخبارها مذ هاجرت نحو ذاك الهناك ، لما جردوها من الأملاك ، فهل يفعلها هذه المرة و يسافر بحثا عن شقيقة القلب التي لم تولد مثلها في البلاد ؟ تراه فاعلا ماذا؟
****
المذيع الرسمي يتعالى صوته من الترانزستور كما المكي و كلابه ، يذكر المستمعين بأن حزب الله و حماس و سوريا و إيران و كل الشرفاء في هذا الوطن الجريح يعرقلون مسلسل السلام ، يمعن في تحليلاته العطنة ، و يخبر بعدد القتلى ، و يختم بمقولته الماسخة بعد الانتهاء من أخبار الموت و الدم و الانبطاح " أيها المستمعون الأعزاء أترككم مع هذا الفاصل الغنائي "، يعقبه مباشرة صوت تلك المعتوهة التي تجيد العراء أكثر من الغناء " خلي الواوا ... بوسي الواوا ..."
الرحماني يرسل إلى الرئة المهترئة مزيدا من دخان الكيف ، يخرس الترانزستور ، فكلاب المكي أفضل ، النباح أفضل من الغناء البورنوغرافي على إيقاع القنابل و دم الشهداء " ا تفو على بني كلبون ، بل الكاروش لاخر ... بنت اللفعة الكرطيطة .. واش هاذا وقت الواوا .. و لا وقت الويل ... الله ينعل اللي ما يحشم ".
****
الترانزستور معلق في الهواء ، إبريق الشاي " الزاعم " منتصب فوق الحصير المتهدل ، كلاب المكي تواصل عادة سيدها ، الأرض الموات التي تكتنز أسرار " مساخيط مولاي عبد العزيز" تتراءى لعين كستها " الجلالة " اللعينة ، السبسي ذكرى محجوبة عاد إلى موضعه الأثير ، الرحماني يقف إيذانا بانتهاء جلسة المساء ، عليه أن يقصد ولد الطاهرة بدوار الحجرة البيضاء ، كي يجود عليه بربطة كيف" كتامية " الأصل ، و منه إلى الفيلاج كي يحضر ماركة السبع المشمع ، إعلام السفارة الأمريكية بيده اليمنى ، يتأمله جيدا ، تبدو له الطريق نحو العم سام و محجوبة الذكرى البهية قصيرة جدا ، ما عليه إلا أن يحضر وثائق أخرى و ينعم بالورقة الخضراء ، و يتحرر من لعنة الأرض الموات و المكي و كلابه ، تراه ماذا فاعلا ؟
****
يغادر شجرة التين قاصدا ولد الطاهرة ، يراوغ مساره العادي كي يتجنب خيمة المكي ، لا يريد أن يكلم إنسيا هذا المساء ، يريد حلا ، يريد قرارا ، الرحيل أو البقاء . من طريق ملأى ب " الزعبول" يتمشى الرحماني ، إلى أن يصل إلى بئر " غظيفة " ، يتذكر ما قضاه من ليال برفقة محجوبة قرب هذه البئر ، يتأمل صفحة الماء البادية من فوق ، يتحسس إعلام السفارة ، تتشنج يده بعض الشيء ، يكوم الإعلام إياه ، يسويه من جديد ، يفكر ، لا يفكر في أي شيء ، يفتت الإعلام الأمريكي و يلقيه في عمق البئر .
لا مجال ، لا ورقة خضراء بعد اليوم ، و لا محجوبة قبلا و بعدا ، أنى له و الذهاب إلى ذات البلاد التي تذيق بني عمومته سوء العذاب؟ لن يكون رحمانيا قحا كما أجداده الذين كانوا من قبائل السيبة ، و لم يستطع المخزن تدجينهم بالمرة إلى أن نعتوا بمساخيط مولاي عبد العزيز ؟ لن يكون هو الرحماني الذي رفض نفس العرض الذي قدمته محجوبة و بشروط أفضل ذات زمن بعيد ؟
****
يسرع الخطو في اتجاه دوار الحجرة البيضاء ، ليستقدم الكيف الكتامي ، يدير زر الترانزستور ، و يضبطه على إذاعة غير رسمية ، تفرحه أخبار القذائف التي يسقطها حزب الله على العدو الصهيوني ، يرسل دعوات صالحات إلى حسن نصر الله و كل الشرفاء في الوطن العربي الجريح ، و بالمقابل يرسل عظيم الشتائم و اللعنات إلى العدو الصهيوني و كل عرابيه و حلفائه العلنيين و السريين من أبناء العمومة أيضا .
لا مكان له و لا حياة له غير الذهاب و الإياب ابتغاء الكيف أو عود الثقاب ، و ارتشاف الشاي " الزاعم " قبالة الأرض الموات ، و على أخبار الترانزستور و كلاب المكي ، هذا ما انكتب عليه مذ رحلت محجوبة و رحل الخير و الخمير عن بلاد يقال أنها لو " صيفت " لكان للوطن طعم آخر

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button