( قبل البدء: "تأبط كتابا" تنطبق أيضا على الأستاذ الحنفي، إلا أن الفرق بينه وبين الأستاذ الحمزاوي يكمن في كون الثاني يزدرده في المقهى، بينما الأول يلتهمه في البيت مادامت المقهى امتدادا له للنقاش السياسي والنقابي. وما يلحظه الناس في الأستاذ الحنفي أنه في الغالب يتأبط محفظة. ومن هذه الزاوية يجوز أن نسميه "تأبط محفظة" أو "تأبط كتابا محفوظا"). لهما معا تحياتي وتقديري.
بانتشار الإسمنت، تنتشر المقاهي كالفطر، حتى أضحى المرء يجد نفسه لا يكاد يخطو خطوة خارج المقهى التي كان معتكفا فيها، حتى تتلقفه واحدة على يمينها وأخرى على يسارها. وأينما وليت وجهك، فتمة سرطانات من المقاهي التي غدت تتزين بأجمل الحلل، وتوفر لروادها الدائمين أو العابرين كل سبل الغواية من واجهات زجاجية وجداريات وشاشات وكنبات وخلافها، ليجدوا الفضاء الأريح لاحتساء القهوة المعصورة والشاي بكل المذاقات والمنسمات، كل حسب أسباب نزوله هناك، من العشاق إلى السماسرة، إلى محبي البارصا والريال، إلى الهاربين من ضجر البيوت، إلى الباحثين عن فسحة استراحة بعد عناء وتعب العمل، إلى غير ذلك من الدوافع التي لا تعد ولا تحصى.
وقلما تجد في ابن جرير التي تعنينا، من يتخذ من المقهى وجهة للقراءة غير الجرائد المنشورة هناك، والتي تتحول إلى ما يشبه المناديل من فرط ما تتلقفها الأيادي على امتداد النهار، باستثناء أشخاص معدودين جدا على رؤوس الأصابع إذا ما بالغت، ويأتي في مقدمتهم بلا منازع الأستاذ والصديق محمد الحمزاوي، الذي ما سبق أن يصادفه المرء في مقهى ما، دون أن يراه منكبا على كتاب يلتهمه، وقلم الرصاص في يده كمبضح جراح، يسود به الهوامش ويسطرعلى ما يبدو له مستشكلا أو مركزيا، أو تدعو الضرورة إلى إعادة النظر فيه.
لا يعير السي محمد اهتماما لبعض الضجيج من حوله، وكأن لا أحد في المقهى إلاه. ولا تكفيه القراءة بالعين، فكثيرا ما كنت ألاحظه يقرأ بصوت خفيض يسمعه من يجلس إلى الجوار، ويزيد على قراءته تلك، بعض الهمهمات والحركات من رأسه، تأكيدا على أن الرجل مستغرق بكل جوارحه فيما يقرأ، وكأنه يتلو آيات العهد القديم على حائط المبكى، أو كأنه طويلب صغير يقرأ القرآن في أحد الجوامع على الطريقة المغربية.
وحينما ينهي ما جاء من أجله، يجمع كتبه ويتأبطها ثم يغادر. وإذا كان في حاجة إلى فسحة استراحة، فيجالس صديقا ممن يعرف أنه سيتابع معه حديثا في الثقافة أو السياسة أو التربية والتعليم أو الشأن العام بصفة عامة، أو "يفرفش" فيما يكون موضوع قفشات أو دندنات من التراث الطربي الأصيل من أغاني الأهالي في الأمسيات اللطيفة لنسوة دواوير زمان أو من "عيوط" خابية زمن القياد، وغير مبتعد طبعا عما يعشق من جميل اللحن من معتق الفيروزيات والكلثوميات والإماميات والمارسيليات والأميميات ومعصور الدرويشيات.
ولأنني أعلم هذا السلوك الحضاري عند السي محمد كما يعلمه غيري، فإنني كنت لما أجده أحيانا في معتكفه بإحدى المقاهي، أحييه وأتجنبه حتى لا أفسد عليه خلوته التي خرج من بيته وتأبط كتبه، وقصدها من أجل إنجاز المهمة التي تدخل في جدول أعماله اليومي.
ولعل سلوك امتداد فعل القراءة في الفضاءات العامة كما يجسدها السي محمد الحمزاوي، ليست غريبة على الرجل باعتباره واحدا من رجالات المدينة الذي يصنفه الناس والمتتبعون للشأن الثقافي، ضمن مثقفي المدينة أو قل مثقفها الأول بالمعايير المحلية، والذي يكون دوما من المدعوين لتنشيط هذا المحور الثقافي أو ذاك في بعض التظاهرات والأنشطة على قلتها التي تنظمها إحدى الجهات بالمدينة.دون أن أنسى أنه كان من المداومين على حضور أنشطة جمعية الإقلاع وأشرطة ناديها السينمائي. كما أنها ليست غريبة على أستاذ متمكن من أدوات حرفته كمرب حاز تقدير تلامذته القدامى والجدد عبر مساره الذي قضاه بالليسي (ثانوية الشهيد صالح السرغيني) الثانوية الجديدة سابقا، ولم يفضل له من ذلك المسار، سوى حب مئات التلاميذ والتلميذات وأوليائهم، وما ترك من أثر وبصمة في تاريخ المدينة كما تركها شقيقه أستاذنا الفاضل القدير المرحوم السي أحمد الحمزاوي، واللذان ساهما بقسط وافر في تحويل وعي التلاميذ وذوقهم الفني من العتاقة إلى الحداثة شعرا وقضية فلسطينية ورونقا كاليغرافيا عبر جمالية الخط العربي التي لم يفلت منها شقيقاه الآخران الأستاذ الموسيقي المبدع عبد الجليل وجمال.
وأخيرا، وقبل أن أغلق هذا القوس السريع العابرالذي لم يوف الصديق الحمزاوي كل حقه، أتصور في تقديري، أن لجهتين مسؤولية وواجبا مستعجلين إنصافا للتاريخ والرجل والكتاب.
ـ ضرورة تكريم الرجل من قبل جهة ذات مصداقية أخلاقية وثقافية، وذلك لكون تفرده بسلوك القراءة وأية قراءة؟، قراءة الكتاب الورقي بنهم وانتظام وترو في زمن تعدد الوسائط الإلكترونية، يعد تحديا كبيرا لإثبات أنه لازال في الورق ما يستحق الانتباه، وثانيا وهو لا يقل أهمية عن السابق، لكون فعل القراءة ذاك يتم في فضاء عمومي ذي مميزات وخصائص من أهمها تحوله إلى مدرجات حية تستقطب جماهير الكرة بشكل غير مسبوق، إضافة إلى كون المقهى أضحت ملجأ لتصريف بعض السلوكات المنحرفة المرتبطة باستهلاك بعض المواد المحظورة أو الشبه محظورة..
ـ والجهة الثانية التي في رقبتها مسؤولية أخرى تهم السي محمد الحمزازي، هو السي محمد نفسه، وذلك بتحويل ما يعكتف في القراءة من أجله في البيت أو المقهى أو الحديقة والقطار وصالات الانتظار، إلى كائن حي ينمو ويتغذى ويتنفس ويمشي على الأرض ويشاهده الناس والأجيال المقبلة على واجهة الأكشاك والمكتبات القارة والمتنقلة وحتى على شاشات الحواسيب والهواتف الذكية وما قد سيأتي مما ليست لنا القدرة على تخيله وإدراكه.
وقلما تجد في ابن جرير التي تعنينا، من يتخذ من المقهى وجهة للقراءة غير الجرائد المنشورة هناك، والتي تتحول إلى ما يشبه المناديل من فرط ما تتلقفها الأيادي على امتداد النهار، باستثناء أشخاص معدودين جدا على رؤوس الأصابع إذا ما بالغت، ويأتي في مقدمتهم بلا منازع الأستاذ والصديق محمد الحمزاوي، الذي ما سبق أن يصادفه المرء في مقهى ما، دون أن يراه منكبا على كتاب يلتهمه، وقلم الرصاص في يده كمبضح جراح، يسود به الهوامش ويسطرعلى ما يبدو له مستشكلا أو مركزيا، أو تدعو الضرورة إلى إعادة النظر فيه.
لا يعير السي محمد اهتماما لبعض الضجيج من حوله، وكأن لا أحد في المقهى إلاه. ولا تكفيه القراءة بالعين، فكثيرا ما كنت ألاحظه يقرأ بصوت خفيض يسمعه من يجلس إلى الجوار، ويزيد على قراءته تلك، بعض الهمهمات والحركات من رأسه، تأكيدا على أن الرجل مستغرق بكل جوارحه فيما يقرأ، وكأنه يتلو آيات العهد القديم على حائط المبكى، أو كأنه طويلب صغير يقرأ القرآن في أحد الجوامع على الطريقة المغربية.
وحينما ينهي ما جاء من أجله، يجمع كتبه ويتأبطها ثم يغادر. وإذا كان في حاجة إلى فسحة استراحة، فيجالس صديقا ممن يعرف أنه سيتابع معه حديثا في الثقافة أو السياسة أو التربية والتعليم أو الشأن العام بصفة عامة، أو "يفرفش" فيما يكون موضوع قفشات أو دندنات من التراث الطربي الأصيل من أغاني الأهالي في الأمسيات اللطيفة لنسوة دواوير زمان أو من "عيوط" خابية زمن القياد، وغير مبتعد طبعا عما يعشق من جميل اللحن من معتق الفيروزيات والكلثوميات والإماميات والمارسيليات والأميميات ومعصور الدرويشيات.
ولأنني أعلم هذا السلوك الحضاري عند السي محمد كما يعلمه غيري، فإنني كنت لما أجده أحيانا في معتكفه بإحدى المقاهي، أحييه وأتجنبه حتى لا أفسد عليه خلوته التي خرج من بيته وتأبط كتبه، وقصدها من أجل إنجاز المهمة التي تدخل في جدول أعماله اليومي.
ولعل سلوك امتداد فعل القراءة في الفضاءات العامة كما يجسدها السي محمد الحمزاوي، ليست غريبة على الرجل باعتباره واحدا من رجالات المدينة الذي يصنفه الناس والمتتبعون للشأن الثقافي، ضمن مثقفي المدينة أو قل مثقفها الأول بالمعايير المحلية، والذي يكون دوما من المدعوين لتنشيط هذا المحور الثقافي أو ذاك في بعض التظاهرات والأنشطة على قلتها التي تنظمها إحدى الجهات بالمدينة.دون أن أنسى أنه كان من المداومين على حضور أنشطة جمعية الإقلاع وأشرطة ناديها السينمائي. كما أنها ليست غريبة على أستاذ متمكن من أدوات حرفته كمرب حاز تقدير تلامذته القدامى والجدد عبر مساره الذي قضاه بالليسي (ثانوية الشهيد صالح السرغيني) الثانوية الجديدة سابقا، ولم يفضل له من ذلك المسار، سوى حب مئات التلاميذ والتلميذات وأوليائهم، وما ترك من أثر وبصمة في تاريخ المدينة كما تركها شقيقه أستاذنا الفاضل القدير المرحوم السي أحمد الحمزاوي، واللذان ساهما بقسط وافر في تحويل وعي التلاميذ وذوقهم الفني من العتاقة إلى الحداثة شعرا وقضية فلسطينية ورونقا كاليغرافيا عبر جمالية الخط العربي التي لم يفلت منها شقيقاه الآخران الأستاذ الموسيقي المبدع عبد الجليل وجمال.
وأخيرا، وقبل أن أغلق هذا القوس السريع العابرالذي لم يوف الصديق الحمزاوي كل حقه، أتصور في تقديري، أن لجهتين مسؤولية وواجبا مستعجلين إنصافا للتاريخ والرجل والكتاب.
ـ ضرورة تكريم الرجل من قبل جهة ذات مصداقية أخلاقية وثقافية، وذلك لكون تفرده بسلوك القراءة وأية قراءة؟، قراءة الكتاب الورقي بنهم وانتظام وترو في زمن تعدد الوسائط الإلكترونية، يعد تحديا كبيرا لإثبات أنه لازال في الورق ما يستحق الانتباه، وثانيا وهو لا يقل أهمية عن السابق، لكون فعل القراءة ذاك يتم في فضاء عمومي ذي مميزات وخصائص من أهمها تحوله إلى مدرجات حية تستقطب جماهير الكرة بشكل غير مسبوق، إضافة إلى كون المقهى أضحت ملجأ لتصريف بعض السلوكات المنحرفة المرتبطة باستهلاك بعض المواد المحظورة أو الشبه محظورة..
ـ والجهة الثانية التي في رقبتها مسؤولية أخرى تهم السي محمد الحمزازي، هو السي محمد نفسه، وذلك بتحويل ما يعكتف في القراءة من أجله في البيت أو المقهى أو الحديقة والقطار وصالات الانتظار، إلى كائن حي ينمو ويتغذى ويتنفس ويمشي على الأرض ويشاهده الناس والأجيال المقبلة على واجهة الأكشاك والمكتبات القارة والمتنقلة وحتى على شاشات الحواسيب والهواتف الذكية وما قد سيأتي مما ليست لنا القدرة على تخيله وإدراكه.
العمر يمضي يا صاحبي، فاكتب كتابك وأمض عليه،وامض كما مضى السابقون.
لست ربوت