قبل البدء: (أشار علي الصديق المختار الإبوركي في أحد تعاليقه، بضرورة تنويع ذاكرة ابن جرير، حتى تشمل كل مجالاته وكل فئاته، ولا لا تبقى منحصرة في فئة بعينها (التربية والتعليم نموذجا).
وإذ أشاطره الرأي كلية وأشكره على ملاحظته، فإنني أأكد له أنني لست غافلا عن ذلك أو متغافلا عنه، ولكن الأمر يصعب علي لاعتبارات في مقدمتها أنني لست مستقرا لهذه اللحظة بابن جرير، وكل ما سلف تدوينه طيلة الأربعة شهور المنصرمة، كان عن بعد إما بالاتصال المباشر بالمعنيين بالأمر بشكل شخصي عن طريق الهاتف، وإما عن طريق بعض الأصدقاء الذين يبذلون مجهودا كبيرا في ربط الاتصال أو تزويدي ببعض المعلومات والوثائق. وفي الحالة التي تعنينا اليوم وتخص المرحوم الأستاذ بوجمعة الرقيبة، فإن مصدر كل المعلومات الواردة في هذا النبش، هو ابنه الصديق عاطف).
أحيانا يبدو لنا بعض الأشخاص وهم يسيرون ببطء، ويتحدثون بهدوء، كأنهم كانوا طوال حياتهم قابعين في عوالمهم الخاصة، وغير مكترثين بما يجري أمامهم من أحداث سياسية، خاصة في زمن رهيب يعتبر فيه الشخص الذي لا يتدخل فيما لا "يعنيه"، مواطنا صالحا لنفسه وعائلته ووطنه. وهو النموذج الذي لم يكنه مولاي بوجمعة الرقيبة ـ كما هو مثبت في وثائقه التعريفية ـ في بداية سبعينيات القرن الماضي، لما اجتذته رياح اليسار الجديد من خلال المنظمة السرية "إلى الأمام"التي كانت نتاجا لغضب شبيبة حزب التحرر والاشتراكية سليل الحزب الشيوعي المغربي، بعد انتفاضة 23 مارس 1965، والتي شكلت مع منظمة 23 مارس التي خرجت بدورها من رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحركتين اليساريتين اللتين رأتا طريقا أكثر جذرية وراديكالية مما كانت عليه الحال فيما أصبح يعرف وقتها بالأحزاب الإصلاحية، وتأثر السي الرقيبة بقيادييها وأجواء هدير ساحاتها وآمالها وأحلامها الطلابية في جامعة محمد الخامس بالرباط.
من يرى السي بوجمعة عن قرب أو عن بعد في الجيرة أو في مقار العمل، لا يظن أبدا أن الرجل انخرط فيما انخرط فيه شباب السبعينيات، ولا يصدق أنه وقع فريسة الاعتقالات بالجملة للحركة الماركسية اللينينية ممثلة في منظمتي "23مارس" التي ستتحول فيما بعد إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي ستندمج مع مكونات يسارية أخرى، وستشكل ما يعرف اليوم بالحزب الاشتراكي الموحد، ومنظمة "إلى الأمام" التي سيمثل النهج الديمقراطي حاليا واحدا من امتداداتها.
ولد مولاي بوجمعة الرقيبة بن العباس بدرب الزاوية بمراكش سنة 1947 من أب ركيبي وأم أمازيغية.
مكنه حفظه للقرآن برواية ورش من ولوج جامعة ابن يوسف التي قضى بها مرحلة الابتدائي. وبتشجيع من منظمة كشفية كان منخرطا فيها، التحق بمؤسسة فرنسية وتابع بها دراسته الإعدادية.
مع بداية الاستقلال، عاد مجددا للدراسة بابن يوسف التي أحرز منها شهادة الباكالوريا للتعليم الأصيل سنة 1970.بعد انتقاله إلى جامعة محمد الخامس بالرباط وبالضبط إلى كلية العلوم القانونية حيث اختار القانون مسارا دراسيا له. هناك سيجد السي بوجمعة أن لا صوت يعلو على صوت اليسار الجديد في رحاب الجامعة وساحاتها ومدرجاتها، وسيتعرض في سنته الأخيرة للإجازة للاعتقال بتهمة الاشتباه في علاقته بالمنظمة السرية اليسارية "إلى الأمام"، بعد أن ضبطت الشرطة في حوزته بعض المنشورات التي كان مكلفا بإيصالها إلى بعض أعضاء المنظمة بمكتب الحوز بمراكش.
أمضى السي بوجمعة سبعة أشهر منها شهر بإحدى كوميساريات الرباط، قبل أن يتم نقله وخمسة آخرين مصفدي الأيدي معصوبي العيون إلى مكان آخر، حيث وجدوا بعض المناضلين يأخذون حصصهم الرهيبة من التعذيب من أجل الإقرار بالمكان الذي يوجد فيه أحد قياديي المنظمة التذي يتحدر من برشيد( والذي خمنت أن يكون الشهيد عبد اللطيف زروال). سنتهي رحلة العذاب عند السي بوجمعة بإحدى كوميساريات الدار البيضاء، وستبدأ رحلة عذاب من نوع آخر بعد أن وجد الرقيبة نفسه مطرودا من الجامعة وممنوعا من التسجيل بغيرها، كما وجد أغراضه الشخصية في الغرفة التي كان يكتريها بالرباط مرمية في الشارع.
قد تكون تلك مقدمة دخول السي الرقيبة في عوالم الظل، حيث انطوى على نفسه وانزوى بعيدا عما كان منشغلا به، ودخل في عزلة ببيت والديه بزاوية سيدي بلعباس، إلى أن تدخلت قيادة حزب التقدم والاشتراكية سنة 1977 من أجل توظيف بعض الطلبة المراكشيين الذين كان السي الرقيبة واحدا منهم. فالتحق بسلك التعليم الابتدائي سنة 1978 بمدرسة افريقيا للبنات (ادريس المحمدي حاليا) والتي استمر بالعمل فيها إلى غاية سنة 1986، حيث سيتم توقيفه على إثر تقرير لأحد المفتشين. وسينضاف هذا الانعطاف المفاجئ في مسار السي بوجمعة الذي تمثل في قطع رزق وقوت الأولاد، إلى سالفه في جحيم الكوميساريات والحرمان من متابعة الدراسة.
دخل المرحوم في اعتصام دام أسبوعين صحبة أسرته ولافتته الكرطونية، إلى أن فضه بعد استقباله في الوزارة والإستماع إليه، حيث تم تعيينه في منصب إداري بإعدادية ابن جرير القديمة (الكوليج) وبعدها انتقل إلى نفس المنصب بإعدادية وادي المخازن بابن جرير، الذي استمر فيه إلى أن توفي يوم 24 فبراير من سنة 2017.
اختصر السي بوجمعة عالمه الخاص في القراءة والقرب من أبنائه وبعض الصداقات.وقد يكون للانكسارات السابقة أثر في نفسه، جعله يمشي ويحسب خطواته ويحسب صداقاته التي لا تخلو مما يختزنه عقله وذاكرته ومشاعره من تقييم شخصي للأحداث الوطنية والدولية، وما يختزنه من دعابة المراكشي الأصيل التي لصقت لكنة المراكشيين بلسانه على الرغم من احتكاكه بألسنة أهل الرباط قليلا وألسنة الرحامنة لحوالي أربعين عاما.
عاطف الرقيبة أحد نشطاء الجيل الحالي لابن جرير، هو ابن السي المرحوم وإحدى ثمراته في الحياة بعد رحيله، تحدثت معه وتحدث معي أكثر ما تحدثت مع والده وتحدث معي. ربما لأن السي بوجمعة كان أغلق أقواس الجراح، ولم يشأ أن ينقلها إليه، وربما لأن لي علاقة خاصة مع عاطف الذي كان تلميذا لي في مدرسة افريقيا للبنين (الحسن بوعياد حاليا) ولازلت أتذكر جيدا أن السي بوجمعة لما انتقل ابنه إلى القسم السادس، اتصل بي بشكل مباشر وقال لي: (عاطف ما غادي يقرا إلا عندك أ السي التابي).
مات الرقيبة، يعيش الرقيبة.
لروحه السلام والسكينة الأبدية.
وإذ أشاطره الرأي كلية وأشكره على ملاحظته، فإنني أأكد له أنني لست غافلا عن ذلك أو متغافلا عنه، ولكن الأمر يصعب علي لاعتبارات في مقدمتها أنني لست مستقرا لهذه اللحظة بابن جرير، وكل ما سلف تدوينه طيلة الأربعة شهور المنصرمة، كان عن بعد إما بالاتصال المباشر بالمعنيين بالأمر بشكل شخصي عن طريق الهاتف، وإما عن طريق بعض الأصدقاء الذين يبذلون مجهودا كبيرا في ربط الاتصال أو تزويدي ببعض المعلومات والوثائق. وفي الحالة التي تعنينا اليوم وتخص المرحوم الأستاذ بوجمعة الرقيبة، فإن مصدر كل المعلومات الواردة في هذا النبش، هو ابنه الصديق عاطف).
أحيانا يبدو لنا بعض الأشخاص وهم يسيرون ببطء، ويتحدثون بهدوء، كأنهم كانوا طوال حياتهم قابعين في عوالمهم الخاصة، وغير مكترثين بما يجري أمامهم من أحداث سياسية، خاصة في زمن رهيب يعتبر فيه الشخص الذي لا يتدخل فيما لا "يعنيه"، مواطنا صالحا لنفسه وعائلته ووطنه. وهو النموذج الذي لم يكنه مولاي بوجمعة الرقيبة ـ كما هو مثبت في وثائقه التعريفية ـ في بداية سبعينيات القرن الماضي، لما اجتذته رياح اليسار الجديد من خلال المنظمة السرية "إلى الأمام"التي كانت نتاجا لغضب شبيبة حزب التحرر والاشتراكية سليل الحزب الشيوعي المغربي، بعد انتفاضة 23 مارس 1965، والتي شكلت مع منظمة 23 مارس التي خرجت بدورها من رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحركتين اليساريتين اللتين رأتا طريقا أكثر جذرية وراديكالية مما كانت عليه الحال فيما أصبح يعرف وقتها بالأحزاب الإصلاحية، وتأثر السي الرقيبة بقيادييها وأجواء هدير ساحاتها وآمالها وأحلامها الطلابية في جامعة محمد الخامس بالرباط.
من يرى السي بوجمعة عن قرب أو عن بعد في الجيرة أو في مقار العمل، لا يظن أبدا أن الرجل انخرط فيما انخرط فيه شباب السبعينيات، ولا يصدق أنه وقع فريسة الاعتقالات بالجملة للحركة الماركسية اللينينية ممثلة في منظمتي "23مارس" التي ستتحول فيما بعد إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي ستندمج مع مكونات يسارية أخرى، وستشكل ما يعرف اليوم بالحزب الاشتراكي الموحد، ومنظمة "إلى الأمام" التي سيمثل النهج الديمقراطي حاليا واحدا من امتداداتها.
ولد مولاي بوجمعة الرقيبة بن العباس بدرب الزاوية بمراكش سنة 1947 من أب ركيبي وأم أمازيغية.
مكنه حفظه للقرآن برواية ورش من ولوج جامعة ابن يوسف التي قضى بها مرحلة الابتدائي. وبتشجيع من منظمة كشفية كان منخرطا فيها، التحق بمؤسسة فرنسية وتابع بها دراسته الإعدادية.
مع بداية الاستقلال، عاد مجددا للدراسة بابن يوسف التي أحرز منها شهادة الباكالوريا للتعليم الأصيل سنة 1970.بعد انتقاله إلى جامعة محمد الخامس بالرباط وبالضبط إلى كلية العلوم القانونية حيث اختار القانون مسارا دراسيا له. هناك سيجد السي بوجمعة أن لا صوت يعلو على صوت اليسار الجديد في رحاب الجامعة وساحاتها ومدرجاتها، وسيتعرض في سنته الأخيرة للإجازة للاعتقال بتهمة الاشتباه في علاقته بالمنظمة السرية اليسارية "إلى الأمام"، بعد أن ضبطت الشرطة في حوزته بعض المنشورات التي كان مكلفا بإيصالها إلى بعض أعضاء المنظمة بمكتب الحوز بمراكش.
أمضى السي بوجمعة سبعة أشهر منها شهر بإحدى كوميساريات الرباط، قبل أن يتم نقله وخمسة آخرين مصفدي الأيدي معصوبي العيون إلى مكان آخر، حيث وجدوا بعض المناضلين يأخذون حصصهم الرهيبة من التعذيب من أجل الإقرار بالمكان الذي يوجد فيه أحد قياديي المنظمة التذي يتحدر من برشيد( والذي خمنت أن يكون الشهيد عبد اللطيف زروال). سنتهي رحلة العذاب عند السي بوجمعة بإحدى كوميساريات الدار البيضاء، وستبدأ رحلة عذاب من نوع آخر بعد أن وجد الرقيبة نفسه مطرودا من الجامعة وممنوعا من التسجيل بغيرها، كما وجد أغراضه الشخصية في الغرفة التي كان يكتريها بالرباط مرمية في الشارع.
قد تكون تلك مقدمة دخول السي الرقيبة في عوالم الظل، حيث انطوى على نفسه وانزوى بعيدا عما كان منشغلا به، ودخل في عزلة ببيت والديه بزاوية سيدي بلعباس، إلى أن تدخلت قيادة حزب التقدم والاشتراكية سنة 1977 من أجل توظيف بعض الطلبة المراكشيين الذين كان السي الرقيبة واحدا منهم. فالتحق بسلك التعليم الابتدائي سنة 1978 بمدرسة افريقيا للبنات (ادريس المحمدي حاليا) والتي استمر بالعمل فيها إلى غاية سنة 1986، حيث سيتم توقيفه على إثر تقرير لأحد المفتشين. وسينضاف هذا الانعطاف المفاجئ في مسار السي بوجمعة الذي تمثل في قطع رزق وقوت الأولاد، إلى سالفه في جحيم الكوميساريات والحرمان من متابعة الدراسة.
دخل المرحوم في اعتصام دام أسبوعين صحبة أسرته ولافتته الكرطونية، إلى أن فضه بعد استقباله في الوزارة والإستماع إليه، حيث تم تعيينه في منصب إداري بإعدادية ابن جرير القديمة (الكوليج) وبعدها انتقل إلى نفس المنصب بإعدادية وادي المخازن بابن جرير، الذي استمر فيه إلى أن توفي يوم 24 فبراير من سنة 2017.
اختصر السي بوجمعة عالمه الخاص في القراءة والقرب من أبنائه وبعض الصداقات.وقد يكون للانكسارات السابقة أثر في نفسه، جعله يمشي ويحسب خطواته ويحسب صداقاته التي لا تخلو مما يختزنه عقله وذاكرته ومشاعره من تقييم شخصي للأحداث الوطنية والدولية، وما يختزنه من دعابة المراكشي الأصيل التي لصقت لكنة المراكشيين بلسانه على الرغم من احتكاكه بألسنة أهل الرباط قليلا وألسنة الرحامنة لحوالي أربعين عاما.
عاطف الرقيبة أحد نشطاء الجيل الحالي لابن جرير، هو ابن السي المرحوم وإحدى ثمراته في الحياة بعد رحيله، تحدثت معه وتحدث معي أكثر ما تحدثت مع والده وتحدث معي. ربما لأن السي بوجمعة كان أغلق أقواس الجراح، ولم يشأ أن ينقلها إليه، وربما لأن لي علاقة خاصة مع عاطف الذي كان تلميذا لي في مدرسة افريقيا للبنين (الحسن بوعياد حاليا) ولازلت أتذكر جيدا أن السي بوجمعة لما انتقل ابنه إلى القسم السادس، اتصل بي بشكل مباشر وقال لي: (عاطف ما غادي يقرا إلا عندك أ السي التابي).
مات الرقيبة، يعيش الرقيبة.
لروحه السلام والسكينة الأبدية.
بقلم عبد الكريم التابي
لست ربوت