لم يكن يخطر ببالي و لو للحظة منذ انتقالي للعمل بمدينة «بن جرير" عاصمة الرحامنة الحالية قادما إليها من "شيشاوة" , أو بالأحرى , جبال الأطلس الكبير المتاخمة ل" إيمنانوت" من منطقة تسمى "ايت حدو يوسف"- الرائعة من حيث المناظر الطبيعية, القاسية من حيث التضاريس الوعرة - سنة 1999 , أي في نفس السنة التي تولى فيها جلالة الملك «محمد السادس" نصره الله مقاليد الحكم بالمغرب بعد وفاة المغفور له "الحسن الثاني", أنني سأقضي بهذه المدينة كل هذه السنوا ت و غيرها لأكون شاهدا على التغييرات التي حدثت بها. لقد كانت الفكرة التي تراودني , كما باقي الزملاء و الأصدقاء أن تكون" بن جرير" أو "نيابة قلعة السراغنة" آنذاك مجرد" نقطة استراحة" من هموم الجبال أو المناطق الجنوبية البعيدة قبل الانتقال إلى العمل بإحدى المدارس بالدار البيضاء أو على الأقل في نواحيها, بالقرب من الأهل و الأصدقاء.
المزيد: https://www.akhbarona.com/writers/127563.html#ixzz5zRkfUfsZ
في مخيلتي دائما تتراءى تلك اللافتة الشهيرة التي كانت تستقبلنا دائما عند مدخل المدينة والتي كتب عليها:" مدينة بن جرير, مدينة المستقبل", هذه اللافتة لم يعد لها وجود حاليا, , وكنا نضحك منها و نستهزئ من كاتبها, و في حواراتنا كنا نتساءل:" أي مستقبل لهذا الدوار الكبير؟ و من يفكر في الاستقرار فيه؟"مع كل احترامي لساكنة كل الدواوير ،و لم يكن هذا الرأي الخاطئ رأينا فقط نحن القادمين إليها من مدن اخرى, بل حتى أبناء المنطقة آنذاك لم يكونوا راضين عن مدينتهم الصغيرة التي كانت تعاني من كل أشكال التهميش و الإقصاء ,و كان السبب الذي يصوغون به هذا الحيف هو أن الملوك العلويين كانوا غير راضين عنهم بسبب حادثة تاريخية قديمة.
من عاش في "بن جرير" في تلك الفترة, لا بدأن يكون قد عايش مشاكل لا حصر لها ابرزها التسيب الأمني و كثرة الجرائم بكل أنواعها و التي كان تؤثث فضاءات المنطقة.
لا أنسى تلك الايام بالدار البيضاء مع اولاد الدرب و الاصدقاء الذين كانوا يرددون على مسامعي تلك الاغنية الشعبية الشهيرة" و فين ايامك يا بن جرير......" وكانوا يطلبون مني ان اسلم على القائد الشهير بالمنطقة مرددين ايضا على مسامعي: "دوزها واحد دوزها,دوزها واحد من القياد......." كنا نضحك و نلهو غير عابئين بما تخبئه الأقدار من مفاجآت, فابن جرير في نظرنا كما أسلفت الذكر لم تكن بالنسبة لنا سوى محطة وقوف قصيرة , إن طالت فلمدة ثلاث إلى أربع سنوات على أبعد تقدير ثم تصبح مجرد ذكرى من الماضي.
في تلك الفترة من بدايات سنة 2000 , تأسست تجزئة «الوردة" بثمن جد مناسب, لم نفكر و لو للحظة في اغتنام الفرصة, بل اعتبرنا الأمر مضيعة للمال, خاصة أن التجزئة كانت بمحاذاة سكة القطار, والمنطقة التي بنيت عليها التجزئة كانت تعتبر نقطة من النقط السوداء المليئة بالإجرام و الخالية من السكان, لهذا لم يجرؤ العديد من الناس, في الأول ,على امتلاك بقعة في التجزئة المذكورة, وكانت تلك الغلطة الأولى في حياتي ببن جرير.
وتناسلت بعد ذلك التجزئات الواحدة بعد الأخرى, «الرياض, جنان الخير....." و لم نظفر بأي بقعة في أي منها, لأنه في كل عام نقول بأنه أخر عام لنا بالمنطقة التي جذبتنا إليها كما تجذب جاذبية الأرض الأشياء إليها.
فجأة ، بدأت الأمور تأخذ منحى أخر لم نكن نتصوره, بدأت الأشغال في إنشاء الطريق السيار المتجه إلى مراكش, و اعتقد الجميع بأن مدينة "بن جرير" ستموت ماديا و اقتصاديا وحتى اجتماعيا بعد أن ظنوا أن الناقلات و الشاحنات التي تتوقف للاستراحة من حين لأخر بمطاعم المدينة الشعبية ستغير وجهتها و تذهب مباشرة إلى مراكش, خصوصا أن اغلب الحكايات القديمة كانت تتحدث عن الغش المصاحب للحم الذي يباع بالمنطقة, و التي كان يقال بأنه لحم الحمير.
إلا أن العكس هو الذي حدث, استفادت المدينة و ساكنتها من ارتفاع أثمنة الكراء التي ازدادت بسبب الكرم الزائد للشركات المكلفة بمشروع الطريق السيار التي أوصلت الأثمنة إلى أرقام خيالية لا توازي حقيقة صورة المدينة الصغيرة.
ولم يتوقف الأمر على هذا الوضع فقط , بل حدث مالم يتوقعه أحد في تلك الفترة, حتى أشد المتفائلين لم يكن يعتقد بأن صورة مدينتهم من الممكن أن تتغير بين عشية و ضحاها بسبب وجود شخص واحد.
في خضم الاحداث السياسية المتسارعة التي كان يمر بها المغرب في تلك الفترة," هجمات 16 ماي الارهابية, لجنة الانصاف و المصالحة, مدونة الأسرة و غيرها من الأحداث المهمة...", حدثت غضبة ملكية على شخصية وطنية نافذة, قيل في الصحافة أن بطلها هو السيد «فؤاد عالي الهمة", كان من نتائجها المباشرة هو: استقالة الرجل القوي في الدولة, والوزير المنتدب في الداخلية "السيد فؤاد عالي الهمة «من منصبه ذاك. على الرغم من أن الصفة التي كان يحملها وزيرا منتدبا في الداخلية إلا أن الجميع كان يقول بأنه الماسك الحقيقي بزمام أمور الداخلية, و ليس" السيد "شكيب بن موسى" الذي كان يشغل أنذاك منصب وزير الداخلية .
هذه الاسقالة أسالت مدادا كثيرا , و قصصا عديدة, لكن المفاجأة الأكبر كانت قراره المفاجئ بالعودة إلى مسقط رأسه و الترشح للانتخابات البرلمانية التي اكتسح مقاعدها الثلاثة بكل سهولة رغم ترشحه بصفة لا منتمي في ذلك الوقت.
بعدها بقليل بعد أن صدر تقرير الخمسينية و تقرير هيئة الانصاف و المصالحة و تعهد المغرب بالقطع مع سنوات الرصاص, والاتفاق على جبر الضرر, وأسس السيد "فؤاد عالي الهمة" "حركة لكل الديمقراطيين" .
كتبت حينها مقالا تحت عنوان:" حركة لكل الديمقراطيين: بين التشكيك و المصداقية", كان من بين الخلاصات التي وضعتها فيه أن الأمر لا يعدو سوى ارهاصات أولية لميلاد حزب جديد استعدادا للانتخابات الجماعية, و هذا بالضبط ما حصل على أرض الواقع, و ظهر حزب" الأصالة و المعاصرة" ورمزها "الجرار" الذي اكتسح الانتخابات الجماعية بالرحامنة , وبعدها استقطب الحزب بسرعة قياسية وجوها عديدة ، في أوسع ظاهرة للترحال السياسي بالمغرب المعاصر,هذا النزوح لم يكن في غالبيته حبا أو رغبة في مصلحة الوطن، و لكن في أحيان عدة كان فقط لكسب ود الرجل الأقوى في الخارطة السياسية الملقب ب "صديق الملك", لقب سيصبح مرادفا للرجل في كل المناسبات و السجالات السياسية.
كانت المبررات التي ساقها المستشار الحالي للملك محمد السادس آنذاك هي:
1+ رغبته في الاهتمام بساكنة منطقته التي نالها التهميش لمدة طويلة وإيلاء المنطقة الغنية بالفوسفاط الاهمية التي تستحقها بالمغرب,
2+ محاصرة المد الظلامي المتمثل في الحركات الاسلامية بعدما تزايدت شعبيتها و على رأسها حزب"العدالة و التنمية". وهذا الأمر موجود في اليوتيب قاله عندما استضافته القناة الثانية.
لن أطيل الحديث هنا في هذا الموضوع لأنه سيكون مجالا للمناقشة في مقال أخر, لأن ما يهمني هنا هو تأثير الرجل في حياة و تطور مدينة بن جرير.
هاته الأخيرة التي, في غفلة من الزمن, أصبحت إقليما وعمالة مستقلة إداريا عن إقليم "قلعة السراغنة", وبين عشية و ضحاها, او لنقل في غضون شهور قليلة, صارت قبلة لكل المناسبات المهمة, حتى التي قال البعض انها لا تمت لبن جرير بصلة.
فبعد تأسيسه ل "مؤسسة الرحامنة للتنمية المستدامة" , تمكن "السيد فؤاد" من تنظيم مهرجان ربيع الحوز المسمى "أوتار" بمشاركة ثلة من الفنانين و الرياضيين الذين وجدوا في منطقة "الرحامنة "فرصة لتلميع صورتهم و التقرب من الرجل الأقوى في تلك المرحلة, ولم لا حتى نيل بعض المناصب.
لست هنا للدفاع عن الهمة ,ولا عن إنجازاته , لكن ل" قيصر ما لقيصر" , لا أحد يمكنه إنكار أن للهمة اليد الطولى في استتباب الأمن بالمنطقة, و هذا أمر معاش يوميا لا أحد يستطيع إنكاره, حتى من طرف من يعارضوه, و ذلك بسبب
توفيره لإمكانات بشرية و لوجيستيكية مهمة للمنطقة,ماكانت لتحظى بها المنطقة لولا وجود الهمة طرفا مهما فيها- و رغم حصول بعض الفلتات الإجرامية من وقت لأخر هنا وهناك. إلا انه يمكن الجزم بأن الجو العام السائد بالرحامنة
يدعو إلى الاطمئنان بصفة عامة, ولا أجد غضاضة بالاعتراف بذلك, حيث أن دوريات الأمن تبقى مشتغلة طيلة أيام النهار وفي أوقات متأخرة من الليل, و في أماكن جد بعيدة و خطيرة.
إلا أن أهم إنجاز يحسب للسيد فؤاد عالي الهمة يبقى هو تحقيقه لحلم الساكنة الأكبر والمتمثل في الزيارة الملكية التاريخية غير المسبوقة للمنطقة , والتي أوقفت الجفاء التاريخي الذي كان معروفا بين الملوك السابقين و منطقة الرحامنة, هاته الأخيرة التي هبت ساكنتها من كل صوب و حدب, و بكل عفوية و حب جارف للملك لاستقباله في احتفالية لم تشهدها الرحامنة من قبل.
في هاته الزيارة, وغيرها من الزيارات المتعددة التي تلتها, أعطى الملك محمد السادس الانطلاقة الرسمية لعدد من المشاريع التنموية الضخمة على راسها المدينة الخضراء ,الكلية متعددة الاختصاصات ,الحي الصناعي ........
مشاريع كبيرة جعلت من "بنجرير" المدينة التي شدت اليها الانظار مرة اخرى,و لن ينكر أحد,مهما بلغت معارضته لصديق الملك, أن كل ذلك ما كان ليتم و يتحقق لولا وجود السيد"فؤاد عالي الهمة" في واجهة الأحداث, لكنها ايضا مشاريع جعلت اثمنة العقار تبلغ مستويات قياسية, وهنا مربط الفرس.
لم يواكب هذه الطفرة الكبيرة في الاثمنة تغير في مستوى عيش السكان الذين عاشوا سنوات التهميش, ففي ظل قلة فرص الشغل بالمنطقة سابقا و حتى حاليا, و ارتفاع الاثمان, لم تتمكن غالبية الساكنة من استيعاب التغيير الذي حدث بمدينتهم الصغيرة, و لم يستفد من كل هذه التغيرات إلا بعض الموظفين , أصحاب الشكارة, و مغاربة الخارج... وأغلب هؤلاء المستفيدين من خارج منطقة الرحامنة .
لذا أستطيع القول, بل حتى الجزم بأن التغيير الذي طال العمران بالمدينة سيظهر تأثيره في المستقبل على السكان, و لا عجب إن قلنا بأن التركيبة السكانية للرحامنة ستتغير في القادم من السنوات, وستتداخل فيها أجناس متعددة, فالمدينة التي كانت مجرد منطقة عبور بالنسبة للموظفين, لم تعد أبدا كذلك, بل غدت "منطقة استقرار" لعينات كثيرة من مناطق المغرب المختلفة بعد أن تزوجوا وامتلكوا فيها قبر الحياة.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: هل تستطيع مدينة "بن جرير" الصمود في ظل انحسار دور الرجل المهم فيها و ابتعاده الحالي عن الميدان السياسي و الاكتفاء بالقيام بوظيفته الحالية كمستشار جلالة الملك " محمد السادس"؟
الغالبية من المتتبعين يقارنون بين مدينتين و رجلين, اختلفا في الزمن و تشاركوا في المهام, العديد من الملاحظين يخافون من أن تكون"بن جرير" تجربة مكررة لمدينة "سطات" التي عرفت نفس الازدهار في عهد الراحل" إدريس البصري",و تعاني بعضا من التهميش حاليا. البعض يظن بأن نفس المصير يتهدد "عاصمة الرحامنة" ,ويزعمون بأن هذه النهضة ستنتهي, إن لم تكن بدأت في الانتهاء منذ ابتعاد السيد"فؤاد عالي الهمة" عن العمل السياسي داخل حزب "البام",وتواريه عن الأنظار , حيث لم يعد يظهر كثيرا حتى في المناسبات الهامة التي تؤطرها "مؤسسة الرحامنة", كما أن الصراعات الداخلية التي تدور رحاها الحالية في دواليب الحزب , و تكتل الأحزاب المعارضة , في تحالفات ضده قد تؤثر على صورة و قوة الحزب و شخصياته في الاستحقاقات الجماعية القادمة.
لم أكن أعير اهتماما لكل هاته التغيرات التي وقعت و تقع و ستقع في المنطقة, ففي نظري دائما كانت مجرد نقطة عبور, إلا أن القدر جعلها بالنسبة لي "كعب أخيل", فلم أستفد من أي فرصة من الفرص التي سنحت لي هناك, و على الرغم من أنني لازلت أشتغل في "الرحامنة" , و من المحتمل جدا أن أستقر فيها في القادم من السنوات .
لازالت الأوراش الكبرى و الصغرى ماضية على قدم و ساق, و منظر المدينة يتغير من شهر لأخر, و في الأيام الحالية تعيش المدينة إصلاحات على ضوء أوراش متعددة, يزعم المتتبعون للشأن المحلي هنا بأنها حملة انتخابية جماعية سابقة لأوانها.
ولكن ما ضيري أنا كمواطن مغربي يراها تنجز امام عينيه؟ و ما ضير ساكنة المدينة في كل هذه الصراعات السياسية مادام الأهم في كل هذا أن تستفيد المدينة وساكنتها من هذه الإنجازات التي تتم بدل التذرع بقلة الاعتمادات؟
الطريق أمام المدينة لازال طويلا, و في اعتقادي المتواضع, هي لحد الأن لم تتمكن من تجاوز الطفرة التي عرفتها مدينة قريبة منها, من حيث التنظيم و الهيكلة و التطور, و أعني بها مدينة «قلعة السراغنة", لكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة, و "بن جرير" لها من الإمكانات ما يجعلها حقا أيقونة إذا توفرت الإرادة الحقيقية بين جميع الشركاء.
"بن جرير" "الهمة" و "أنا", وجه واحد من أوجه كثيرة لتقلبات الحياة اليومية بين ليلة و ضحاها. شخص أثرت فيه المدينة فلم يتأقلم معها و جعلها تجره معها إلى الوراء, ولم تدعه يحقق أحلامه, شخص كانت «الدار البيضاء" خطيئته, لا هي أفرحته و اقترب منها, و لا هي تركته يحقق أهدافه بعيدا عنها, فهل ياترى مازال أمامه الوقت الكافي لتعويض ما فاته من فرص؟
ومدينة صغيرة تبدلت بتأثير من شخص حولها من مجرد إسم إلى أوراش اقتصادية و اجتماعية مهمة.
تلك حكاية مدينة أعيش فيها, هل أخطأت التقدير لأني تعلقت أمام عينيها بأخرى, فلم يرقها الوضع, فكانت غيرتها منها سببا في شقائي, أم أنه قدري الذي علي تغييره إلى الأفضل مادامت عرفت الخطأ و لا يسعني حاليا إلا معالجته؟
سؤال سأترك الإجابة عنه للقادم من الأيام.
المزيد: https://www.akhbarona.com/writers/127563.html#ixzz5zRkfUfsZ
لست ربوت