لم يحدث في تاريخ المغرب الطويل أن تفاعلت الدولة بقدر من الاهتمام في ملفات شابها الفساد أو المسؤولية التقصيرية أو ما يجيز المحاسبة كهذه المرة .الرمزية التي تقودها الدولة باجتثاث أسماء من مناصب المسؤولية أكانت وزارية أو أخرى تنتمي لرحم السلطة الذي لا يمس قطعا . شيئا يعني الكثير ونحتاج إلى قراءته بعمق .
فعندما نعود إلى السنوات الأولى من الدولة المغربية بعمريها المعاصر والحديث ..تكاد المؤسسة الملكية في مناسبات قليلة تفاعلت مع المعطيات بهذا الشكل ، التسلسل الزمني للحكومات ومسؤولي البيت الداخلي للمخزن المغربي كان دائما ما يعالج أموره بشكل لا تظهر للمتلقي والمشاهد والأخر “المواطن ” تلك التحولات .فالمحطات المهمة في القاموس السياسي المغربي الذي نعبر معه بين حكومة عبد الله إبراهيم مرورا بالتناوب التوافقي في عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله إلى حكومة ابن كيران التي انتهى مع فصل منها . يكاد المغرب اليوم يكون مختلفا ، متفاوتا ومتفائلا ، يجني ثمار رياح التغيير التي جاءت هذه المرة من الداخل ، بإرادة تدفعها مصلحة الوطن العليا ورغبة في ملامسة نصوص الدستور ورؤية العهد الجديد لمن حوله .
ففي مناسبتين بينهما شهر أو شهران. وقف الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات أمام ملك البلاد بملفات افتحاص جاهزة . مست في المرة الأولى نيرانها أمناء عامين ووزراء بدون الالتفات إلى أهميتهم . الرسائل كانت واضحة ، بل ومنذ مدة كانت ترعد “عواصف الحزم” التي لم تعد تقبل عذرا بعد هفوات في مشروع” الحسيمة منارة المتوسط” . وتكرار التنبيه الملكي في خطابات ، كان لزاما أن يكون ورائها ردع معين .
قبيل أيام وقف إدريس جطو مرة أخرى بين يدي الملك محمد السادس من أجل إعطائه دفعة أخرى . كانت كافية لتسميتها “بالزلزال” لدى الرأي العام المهتم والإعلام . زلزال على سلم” ريختر” لا حدود لقياساته .
بلاغ الديوان الملكي أشار بالأسماء إلى إقالة والي و06 عمال و06 كتاب عامين و28 باشا ورئيس دائرة ورئيس منطقة حضرية و122 قائد و17 خليفة .وعرض عدد منهم على التأديب.
بالنسبة لكل الأجيال التي عاشت في المغرب يعتبر بالنسبة لها ما حصل طريقة جديدة وشكلا مرضيا من تعاطي الدولة العميقة مع رجالاتها إن جاز التعبير .
وهنا لا بد من استحضار تقرير الخمسينية ب4500 صفحة ومقررات هيئة الإنصاف والمصالحة حول “المغرب الممكن “.” فالحكامة” Gouvernanceبكل صيغها جاءت في التقرير . والمفهوم الجديد للسلطة وارد في التقرير ، وتمت الإشارة إليه مرارا في خطابات عاهل البلاد . الذين كانوا يديرون شؤون المواطنين في القيادات والدوائر والباشاويات وعمالات الأقاليم والولايات . كانوا يعتبرون تأديب السلطة مرأ مستبعدا ولا يجوز باعتبار سلطتهم . كان المفهوم المتجدر في السلطة أن رجالاتها لا يمسهم سائر ما يسري على بقية الخلق . وأن كل شيء يمكنه أن يتحرك من مكانه إلا هم .
تأديب السلطة سواء من خلال الإقالة أو العزل أو بالعرض على المجالس” التأديبية ” لهذا العدد الهائل ، يعني في الآن نفسه أن تحولا قابلا ليصبح قاعدة مؤسساتية تعيد الاعتبار للمواطنة بالمغرب .ولمفهوم ربط المسوؤلية بالمحاسبة حتى في الذين هم خارج سياق هذه المعادلة .
فرقم 122 قائد إذا وضع في السياق فهو يمس جوهر الحكامة وفلسفلة القرب والتعاطي اليومي المباشر مع الناس والشأن العام والمسؤولية الملقاة على عاتق هؤلاء “المقسوم على خدمتها والتفاني فيها” بعظمة ألسنتهم . وعدد 28 باشا ليس سهلا ليكون تحت المجهر , فرئيس المجلس الأعلى للحسابات والداخلية تقوم اليوم بدورها بشكل غير عادي ، ربما لأن الأوامر التي أعطيت تذهب أبعد من تخيلنا . لم يكن مقبولا تحريك باشا في أي زمن من أزمنة المغرب من مكانه . ولا خليفة قائد ، بل لا يمكن لكتاب عامين ولا عمال أن يصبحوا رهن هذه الحقيقة التي لم يتخيلوا حصولها . القراءة العميقة تضعنا أمام ورش كبير تقوده الدولة من الداخل في اتجاه الخارج . الفرق أنه ليس عشوائي أو ما شابه ، بل يحتكم إلى المشروعية ، إلى القانون ، والى التبصر الجيد في الأخطاء المرتكبة ومعالجتها بما تقتضيه النصوص السارية على الجميع في هذا المستوى .بالمجمل فالتأديب جاء بناءا على علاقة هؤلاء بحاجيات الإنسان المغربي أينما وجد وبمضمون المصلحة العليا للوطن .
فقط يحتاج المغاربة الآن إلى تنظيم أنفسهم ، والى معرفة ما يلزمهم للتفريق بين الحق والواجب . وللتعبير بإرادة غير مسلوبة عند التصويت ، وعند الاقتراع .كي يمر الإصلاح إلى الجزء الذي تمنحه الديمقراطية كشكل يحدد العلاقة بين المنتخبين، والذين فتحوا لهم باب المؤسسات المنتخبة . كي لا نعود إلى خسارة ما حققناه إلى حدود الساعة . المتمثل في أن تأديب السلطة اختصاص بعيد عن تأديب المنتخبين . وهما دعمتان لبناء مجتمع ديمقراطي تتقاطع فيه المصالح العليا والآمال والطموحات بغد مشرق . فالمواطن المغربي من يتحمل مسؤولية جزء من المفهوم العام الذي يشترك فيه بالبناء الهرمي لدولة ذات مؤسسات بتعريفها في تصدير الدستور المغربي . موزعين بين موظفين وأطر إدارية ومسؤولين يعينون ، وشق أخر من خلال منتخبين عن مؤسسة البرلمان ومجلس المستشارين وباقي مجلس الجهات ومجالس الأقاليم والعمالات ومنتخبي الجماعات القروية والحضرية .
فهل يعي مواطن هذا البلد أنه بدل المطالبة بالكثير ، عليه تقع المسؤولية فيما انتهت إليه أدوار الدولة مراعاة لمفهوم الديمقراطية. حتى لا يكون تدخل سلطتها معوقا لمسار إصلاحي يفهم في مكان أخر بأنه مصادرة أو استبداد أو قضية تضع المفاهيم في غير قوالبها ..نحتاج إلى مواطن وهنا امتحان الأيام .
أيام بريس جريدة الكترونية مغربية مستقلة .
لست ربوت