يقول المفكر السوري جورج طرابيشي إن أكثر ما ميز بيرك أنه أصر على التعامل مع الواقع الحي لا مع النصوص الميتة، وفهم الاستعراب كحوار بين ثقافتين: الأوروبية المسيحية، والعربية الإسلامية، وأن لدى كل منهما ما تغني به الأخرى.
جاك بيرك: “إنني الموازي المقابل لطه حسين لكن في اتجاه عكسي، فهو مد جسراً من الجنوب باتجاه الشمال من حوض المتوسط، وأنا مددت هذا الجسر من الشمال إلى الجنوب”.
يرى بيرك أن هناك حاجة روحية مَسيسة إلى إعادة بناء الحوار الديني بين المسيحية والإسلام. بيرك لا يخفي إيمانه المسيحي، لكنه يقول إن عيشه في أرض مسلمة وفي ظل ثقافة مسلمة، أحدثت تعديلا في رؤيته للمسيحية، خاصة أن الإسلام لا يؤمن بمفهوم الخطيئة الأصلية.
بل إنه يملك تجاه الإسلام تقديرا خاصا، إذ يقول: “الإسلام هو الذي نقل وأغنى الفكر القديم عبر اشتغاله على أفلاطون وأرسطو، وقد كان ابن خلدون والبيروني كاتبين عظيمين. أما عن العمارة، فلك أن تتجول اليوم في إسبانيا وترى روعة قصر الحمراء لتفهم كل شيء”.
وقد زار بيرك بلدانا عربية عدة كمحاضر وكمشارك في مختلف المناسبات الثقافية، وكان المستشرق الوحيد الذي قبلت عضويته بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، بترشيح من عميد الأدب العربي طه حسين.
يقول عن الأخير: “إنني الموازي المقابل لطه حسين لكن في اتجاه عكسي، فهو مد جسراً من الجنوب باتجاه الشمال من حوض المتوسط، وأنا مددت هذا الجسر من الشمال إلى الجنوب، ولا زلت أحاول تقويته في حدود إمكاناتي فيما يخص حوض المتوسط”.
جل مؤلفات جاك بيرك وبحوثه العلمية الغزيرة، إن لم نقل كلها، خصصها للتعريف بالعرب والمسلمين وحضارتهم. وقد رصد المهتمون حوالي 165 مؤلفا له، من بينها: “العرب بين الأمس والغد”، “الإسلام يتحدى”، “دراسات في التاريخ الريفي المغربي”، “ترجمة معاني القرآن”، “القرآن، محاولة ترجمة”، وغيرها كثير.
انتقادات لاذعة لترجمته القرآن
في سبعينيات القرن الماضي، سينحو جاك بيرك طريقا آخر، بعدما طالته انتقادات عن كون كتاباته لا تخلو من إيديولوجية. في ذلك يقول: “من الجائز أني أخطأت أساسا الطريق حين مزجت الإيديولوجيا بما كان يلزم أن يبقى بحثا موسوعيا، لقد كنت أزعج المتخصصين في الشرق من غير أن أفرض نفسي على المنظرين”.
كان يحز كثيرا في نفس بيرك أن يوصف بـ”عدو الإسلام” بينما قضى أكثر من عشرين عاما يترجم كتابه، القرآن، محاولا أن “ينقله إلى الأوروبيين للاهتداء بحكمته”، حسب تعبيره.
هذا القول سيأتي بعدما رأى بيرك أن بعض مؤلفاته قد لحقتها إخفاقات مهنية، فاكتفى بتسجيل ملاحظات على نفسه، وابتعد عن الدراسة الميدانية، وانتقل تجاه حقل جديد من العلوم، كان قد بدأ يشق طريقه، وهو السيميولوجيا[1].
هكذا، أصدر كتابا ترجم فيه القرآن إلى الفرنسية، ناهزت مقدمته 82 صفحة، لكنه وضعها في آخر الكتاب، قائلا “إن كلام الله لا يجب أن يكون مسبوقا بكلام البشر”.
مع ذلك، لم يسلم من نقد لاذع من قبل “علماء مسلمين” عدة، حتى أنه أوصى بوضع نسخة من ترجمته داخل قبره، حتى “يعرضها على خالقه، لينصفه عما تعرض له”. والحقيقة أنه كان يحز كثيرا في نفس بيرك أن يوصف بـ”عدو الإسلام” بينما قضى أكثر من عشرين عاما يترجم كتابه، محاولا أن “ينقله إلى الأوروبيين للاهتداء بحكمته”، حسب تعبيره.
في آخر حياته، جمع جاك بيرك ذكرياته وتجاربه الشخصية، في كتاب بعنوان “مذكرات الضفتين”. بعدما تقاعد عن عمله في مؤسسة “كوليج دو فرانس”، ظل في قرية جيوليان الفرنسية، إلى أن توفي سنة 1995، عن عمر يناهز 85 عاما.
لست ربوت