لربما إن سألت أي مغربي، من العامة أو المثقفين، أن يذكر ثلاثة أسماء لمفكرين مغاربة، لا شك أن الإجابة لدى الجل، ستتضمن اسم عبد الله العروي.
على مدى سنوات طويلة، صنع العروي لنفسه اسما ذائع الصيت في الفكر المغربي، والعربي عامة. على مدى سنوات طويلة أيضا، دافع ولا زال بضراوة عن مشروعه الفكري، الذي يقوم على نقد التراث واللحاق بركب الحداثة.
روائيا تارة، وشاهدا على التاريخ ومفكرا تارات أخرى، يبقى العروي نموذجا لشخصية فريدة من نوعها، مقلة في الظهور، لكن كلما قيل إن كتابا له هو الأخير، فاجأ القراء بكتاب جديد.
في هذا البورتريه، بعض من حكاية عبد الله العروي!
في السابع من نونبر، عام 1933، سيولد بمدينة أزمور فتى لأسرة تكنى العروي، وحظه من الأسماء كان عبد الله. منذ باكر صباه، سيقبل على حياته يتيم الأم، وسيتلقى بأزمور ومراكش، تعليمه الابتدائي والإعدادي، ثم سينتقل إلى العاصمة الرباط، التي نال فيها شهادة الباكالوريا، عام 1953.
كانت فرنسا المحطة التالية في حياة عبد الله العروي، حيث سيسافر تحديدا إلى باريس، قصد دراسة العلوم السياسية، وهي الشعبة التي نال فيها شهادة الإجازة، عام 1956، من جامعة السوربون.
مارس السياسة لفترة ثم انتهى إلى قرار مفاده أنها ليست بمهنة، فاعتزلها بمفهومها الحزبي وتفرغ للتدريس الجامعي وللتأليف.
بعد عامين، سيحصل العروي على شهادة الدراسات العليا في التاريخ، كما سيحصل على شهادة أستاذ مبرّز في الإسلاميات عام 1963؛ ثم سيقضي فترة من حياته، بين عامي 1967 و1972، في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اشتغل مدرسا.
مرة أخرى، سيعود العروي إلى باريس، لكن هذه المرة لتحضير دكتوراه دولة عن أطروحة “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830-1912″، حصل عليها فعلا عام 1976، من الجامعة ذاتها.
مارس السياسة، لكنها لم تستهوِهِ!
تتشعب خيوط حياة العروي كثيرا، فقد مارس في الوقت نفسه أنشطة عديدة كالتأليف والتدريس والسياسة.
في السياسة، رافق المهدي بنبركة، الزعيم اليساري، لمدة طويلة، وكان دائم السفر معه ضمن ما سمي بحركة عدم الانحياز.
العروي أسهم أيضا في صياغة تقرير “الاختيار الثوري” للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عام 1962، وقد كانت بصمته في ذلك واضحة. ثم عام 1977، سيترشح باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات العشبية، للانتخابات التشريعية بالدار البيضاء.
بعد ذلك كله، انتهى العروي إلى قرار مفاده أن السياسة ليست بمهنة، فاعتزلها بمفهومها الحزبي وتفرغ للتدريس الجامعي وللتأليف، مع أنه عاد لاحقا إلى السياسة ليقوم بمهمة خاصة.
في كتابه “المغرب والحسن الثاني.. شهادة”، يروي عبد الله العروي أن الحسن الثاني كلفه عام 1991، بالتوجه إلى أوروبا لمعرفته بقادة اليسار هناك، قصد إقناعهم بالكف عن حملتهم السياسية والإعلامية ضد المغرب، فوافق على هذه المهمة بدافع الوطنية.
أهم مؤلفات عبد الله العروي، حسب عدد من المهتمين، كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” الذي سيصدره عام 1967، ويعلن فيه عن الخيط الناظم لمشروعه الفكري؛ أي القطيعة مع الماضي.
ويتحدث العروي في كتابه عن كونه التقى بجيل بيرو مؤلف كتاب “صديقنا الملك” الذي انتقد فيه الملك بشدة، وقال له “نعم للتنديد بالظلم والأخطاء والجرائم، لكن لا للشتائم الموجهة إلى الملك التي تجرح دون فائدة شعور أغلبية المغاربة”.
يعتبر العروي أن القرارات التي اتخذها الملك الراحل الحسن الثاني، لتحسين وضعية حقوق الإنسان في المغرب، جاءت اعتبارا لملاحظات الأمريكيين الودية، أكثر منها لتحريضات الأوروبيين المهينة.
التأليف فاكهة حياته
عام 1963، أصبح العروي أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وهي المهنة التي تفرغ لها بجانب التأليف.
بعد عام واحد، سينشر العروي مؤلفه الأول، باسم مستعار هو “عبد الله الرافضي”، ويتعلق الأمر بنص مسرحي عنوانه “رجل الذكرى”، كتبه باللغة الفرنسية، قبل أن تتم ترجمته إلى العربية، وينشر في العدد الأول من مجلة “أقلام”، في ذات العام.
هذا النص الأدبي سيشكل فاتحة لمجموعة من المؤلفات الأخرى، كـ”الغربة” و”اليتيم” و”الفريق” و”أوراق” وغيرها. وكأي كاتب، سيرى العروي لاحقا أن فاتحته هذه، لم تكن في المستوى المطلوب، وأن الكتابة تراكم، وفي ذلك يقول في أحد حواراته:
“قرأت مؤخرا “رجل الذكرى” بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود. استثقلت الأسلوب غير المتجانس، وزدت قناعة أن المرء لا يتعلم الكتابة إلا بالكتابة. لذلك قررت مراجعة النص مراجعة تامة حتى لا ينفر من مطالعته قراء اليوم”.
أهم مؤلفات عبد الله العروي، حسب عدد من المهتمين، كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” الذي سيصدره عام 1967، ويعلن فيه عن الخيط الناظم لمشروعه الفكري؛ أي القطيعة مع الماضي.
العروي يعتبر أن تحقق النهضة العربية يقوم على نقد التراث واستيعاب الحداثة الغربية، مركزا في ذلك على الحس التاريخي والفلسفي، اللذين سيطغيان على مؤلفاته اللاحقة، كما أنه أولى عناية خاصة بالمنهج، إن في جانبه التاريخاني أو المفاهيمي التأسيسي، كتأليفه لعدد من الكتب حول مفاهيم الحرية والدولة والتاريخ والعقل والإيديولوجيا.
العروي لا زال إلى أيامنا هذه وفيا لقلمه. آخر إصداراته كان كتاب “نقد المفاهيم”، الذي نشره عام 2018.
مؤلفات العروي عديدة، تجاوزت الثلاثين، وفي مجالات شتى. إضافة إلى ما ورد سابقا، نطالع أيضا على سبيل المثال، “العرب والفكر التاريخي”، و”مجمل تاريخ المغرب”، و”ثقافتنا من منظور التاريخ”، و”خواطر الصباح”، و”من ديوان السياسية”.
لا زال في الجعبة الكثير
بجانب كونه قد درّس على نحو رسمي في جامعة محمد الخامس بالرباط، حتى تقاعد من عمله عام 2000، فقد عمل العروي أستاذا زائرا في عدد من الجامعات الفرنسية والأمريكية.
نظير كفاءته واشتغاله بجد في مجاله، حصل على عضوية أكاديمية المملكة المغربية عام 1985، ثم شغل عضوية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بين عامي 1990 و2002، إضافة إلى حصوله على جائزة كاتالونيا عام 2000 وجائزة المغرب للكتاب عامي 1990 و1997، وجائزة الشيخ زايد، عن شخصية العام الثقافية عام 2017.
العروي لا زال إلى أيامنا هذه وفيا لقلمه. آخر إصداراته كان كتاب “نقد المفاهيم”، الذي نشره عام 2018. مقل في الظهور، إلا إذا برزت الحاجة لذلك. نموذج للمثقف الوفي لانشغالات المجتمع، كما فعل آخر مرة بتعبيره في خرجات إعلامية عن موقف رافض لاستعمال الدارجة في التعليم.
هكذا، لا يزال عبد الله العروي إذن ينسج حكاية حياته في بيته بحي السويسي بالرباط وعمره يجاوز الثمانين… حياة، بصمها بكثير من الجدية والتفاني في مجاله، فمنحته نظير ذلك في الفكر العربي، وفي أذهان الناس أيضا، مكانة ومنزلة مرموقة.