السيارة الفارهة، التي صنع منها عدد جد محدود حول العالم، مسجلة بمدينة الدار البيضاء وتحمل لوحتها أرقاما مغربية. تسأل عجوز أجنبية شابا مغربيا: هل يوجد في بلدكم أغنياء من هذا الحجم؟
في المغرب يوجد الكثير من الفقراء والقليل من الأغنياء، لكن إذا كانت قصة الفقر تعتبر معاشا يوميا بالنسبة إلى المغاربة، فإن قصة الثروة في المغرب جديرة بالمتابعة، ومن الإرث إلى التجارة إلى السياسة إلى الاجتهاد الفردي لأشخاص كافحوا الفقر، وصعدوا السلم درجة درجة، كانت هناك دائما قصة ما. كانت هناك أيضا أسرار واتفاقات.. كانت هناك طفرة وصعود صاروخي، وكان هناك تسلق بطيء.
قصة الثروة في المغرب ليست حديثة ولا قديمة، لكنها كما جاءت من البحر والتجارة، جاءت من القصر والسياسة، وفي كل قصة ثراء كان هناك حظ أو قرب من السلطان، وفي مغرب يوجد أزيد من نصف مليون من المليونيرات، حسب المندوب السامي للتخطيط. هناك حكايات جد وكد وحفر في الصخر، الذي تحول إلى مبان وعقارات، وأسهم في البورصة.
الحديث عن حكاية الثراء في المغرب اليوم له أكثر من مبرر، لم يعد المستثمر والغني يستطيع أن يعيش في منطقة الظل. هناك أثرياء يصنعون القرار في هذا البلد، وهناك أثرياء يجرون قسرا إلى السياسة، وهناك أثرياء مستعدون لمغادرة هذه البلاد خوفا على ما يملكون، وهناك أثرياء تمردوا فكان مصيرهم رسالة مرعبة للآخرين. في هذا الملف لن تطرح « اليوم24» السؤال حول هويات الأثرياء في المغرب بل عن كيفية تشكلهم، وعن مسارهم داخل مغرب العهد الجديد. لن نكتفي بالنظر إلى الطبقة المخملية من كوة النافذة، بل سنرصد أدوارهم الحقيقية والمفترضة في مغرب يوجد أكثر من ثلث سكانه تحت عتبة الفقر.
مغرب الأثرياء.. اقتناص الفرص في دائرة السلطة
تاريخ المال، هو تاريخ التجارة، هو أيضا تاريخ اقتناص الفرص، وهو تاريخ مرتبط بالمدنية والتحضر، وكانت فاس عاصمة لكل شيء، من العلم إلى المال إلى حسن التدبير. اتخاذ السلطان فاس عاصمة له، ساهم في نجاح أهل المدينة في الوصول إلى سر الثراء. كانت فاس عاصمة برجوازية مغربية لم يكتب لها أن تكون على غرار باقي برجوازيات أوربا، لكن بعض معالم البرجوازية تركزت في المدينة، التي استمرت على ذلك النهج إلى يومنا هذا رغم نشوء منافسين لها في المال كما في المعرفة.
في البدء كانت الثروة فاسية
مع الصدمة التي شكلها الاحتكاك الأول للنخب المغربية بالغرب الأوربي، أخذ الفرز الاقتصادي والاجتماعي داخل الدولة المخزنية يتبدى بوضوح، وبالرجوع إلى عدد من المصادر الاستشراقية التي تناولت المغرب قبيل الحماية، كانت صناعة النسيج المدخل الأساس لبداية تراكم الأرباح لدى عائلات فاسية بالخصوص، ارتبطت ارتباطا وثيقا بالبلاط من خلال علاقاتها بالسلطان، أو بسبب احتكاكها بتجربة اليهود الذين كانوا سباقين إلى ذلك منذ فجر العصر العلوي. الصحافي المختص في تاريخ الاقتصاد، دومينيك لوغارد، يرجع قصة الثروة في المغرب إلى القرن الـ16، حيث بدأت العائلات التجارية تكثر بشكل واسع في أواسط القرن السادس عشر، وقد كانت بدأت تستفيد من تنمية التجارة الدولية من وإلى المغرب لتحقيق الربح، وأبرز مثال عن هؤلاء تجار الجلود والسجاد بفاس، الذين قاموا بتصدير منتجاتهم إلى أوربا مقابل استيراد الأقمشة الإنجليزية والمنتجات الصناعية، بل كان البعض يذهب إلى مناطق بعيدة مثل الصين والهند وبلاد فارس، وظهرت فئة قليلة متخصصة في التجارة مع بعض البلدان الإفريقية.
عندما اعتلى السلطان مولاي الحسن الأول العرش في عام 1873، اعتمد على عائلات شكلت حجر الزاوية في سياسة التحديث الاقتصادي التي أطلقها، وعين في منصب وزير المالية أمين الدباغين بنيس، ثم فيما بعد عين محمد التازي وزيرا لماليته. وكان يحيط نفسه برجالات كبار من المحيط التجاري بفاس، كبنشقرون وبناني وبنسليمان، وبعض الأسر اليهودية التي أسلمت.
حالة الثراء التي بدأ المجتمع المغربي يتعرف عليها تحكمت فيها منذ البداية المصالح بين الحكام والمحكومين المستفيدين بالضرورة، كما يذهب إلى ذلك المفكر المغربي نور الدين أفاية، الذي قال: «لعل مراكمة الثروة من طرف عائلات بعينها هو نتاج الارتباطات المتنوعة التي نسجتها مع الدول الأجنبية. وأغلبها كانت عائلات «مدينية»، علما أن المغرب كان مجتمعا قرويا يعيش على الكفاف والتدبير الصعب لشروط العيش. وهكذا يمكن القول بأن «الغنى» كظاهرة اجتماعية ليس له تاريخ طويل بقدر ما أفرزته المصالح المتبادلة بين بعض العائلات المغربية اليهودية والمسلمة والبلدان الأوربية بالدرجة الأولى».
في تحليل كان الباحث الاقتصادي الراحل إدريس بنعلي قدمه حول تشكل نخبة الأثرياء بالمغرب، يعتبر أنه باستثناء بعض الحالات النادرة فإن المال في المغرب يبقى بيد سلالات أندلسية أو يهودية منذ انفتاح أبواب الحكم أمامها، ولم يغادرها في أي محطة من تاريخ المخزن. «آل بنسليمان، بنشقرون، وبناني عُيّنوا وزراء أو تحملوا مسؤوليات في استغلال القطاعات العقارية، وتدبير خزينة الدولة. آخرون، أمثال الشرايبي، بنكيران، جسوس، وبرادة احتلوا مناصب مهمة، خاصة في ميادين التجارة، المالية، الدبلوماسية، وإدارة الضرائب».
لكن استئثار هذه النخب بالمعاملات التجارية مع ما تدره من أرباح لم يعمر طويلا، إذ مع دخول الحماية الفرنسية للمغرب، قامت الإدارة الكولونيالية بتجفيف منابع الاستفادة التجارية لهذه العائلات، فكانت فرنسا تعمد إلى تفضيل كل المعمرين على التجار التاريخيين للمغرب، فأصبحت مصالح هذه العائلات مهددة، وهو ما جعلها تتوجه نحو العمل الوطني. كان حزب الاستقلال إذن في مطلع تشكله حزبا لما يمكن تسميته «برجوازية وطنية» عملت على استرجاع المناطق التجارية والربحية التي استحوذ عليها المستعمر. وهذا ما ذهب إليه جون واتربوري في كتابه: «أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية المغربية»، حيث يقول: «لقد أدرك الرأسماليون المغاربة أنهم سيبعدون لا محالة عن السوق المالية، لأن إمكانياتهم النقدية أقل بكثير من إمكانيات منافسيهم الفرنسيين. وكانت إدارة الحماية تلعب دورا أهم من ذلك، إذ عملت على منح التجار الفرنسيين جميع الامتيازات، وتعاقدت معهم على حساب المغاربة. لقد فهمت البورجوازية، آنذاك، أن خلاصها يكمن في تحطيم جهاز الحماية، وطرد المصالح الأجنبية».
فئة أخرى من الأثرياء لم ترتبط بأي عامل من العوامل السابقة، حيث لعبت المجاعة في أربعينات القرن الماضي دورا مهما في بروز أثرياء جدد، كانت أهم مواردهم الانتفاع من الأزمة الخانقة، واستغلال المجاعة. يحكي عدد من المواطنين المغاربة الذين عاشوا تلك الفترة عن أعيان ووجهاء قاموا بشراء عقارات ومنازل وبساتين مقابل تقديم الطعام للناس الجوعى. يحكي عبد اللطيف فنيد، باحث في تاريخ المنطقة الشمالية، لـ«أخبار اليوم»، عن تلك الفترة قائلا: «وصل ثمن الدار إلى قفة من القمح»!
من سوس العالمة إلى سوس التاجرة
لا يكاد يخلو شارع أو زقاق في مختلف مدن المغرب من دكان أو متجر يملكه شخص ينحدر من سوس، إنهم رواد التجارة صغرى والمتوسطة، الذين اكتشفوا، بخبرتهم وصبرهم، أن السماء يمكن أن تمطر ذهبا في المغرب، ومنذ منتصف حقبة الحماية كان السوسيون يحولون لقب سوس العالمة إلى لقب جديد: سوس التاجرة، التي ستتحول إلى سوس الغنية، وحدث أن وافق تحضير هذا الملف فترة عطلة سواسة السنوية، إنها فترة عيد الأضحى، التي تحولت عبر التاريخ من فترة جلب الأرباح، التي يراكمها التاجر طول السنة من مدن شمال المغرب، إلى فترة عقد الصفقات الداخلية، والمقصود بهذا المفهوم صفقات لا تتم إلا بين السوسي وابن قبيلته. في تفراوت خلال هذه الفترة بالضبط تقام مهرجانات حقيقية للسوسيين المقيمين بمدن الدار البيضاء وطنجة وفاس والرباط، يتباهون بمكاسبهم، ويطلعون على جديد الأسواق، ويبنون الفيلات في أعالي الجبال، ويقودون سيارات فارهة، ويبالغون في الإنفاق تكذيبا لمقولة «السوسي البخيل».
تجمع دراسات ميدانية قام بها طلبة شعبة الاقتصاد بجامعة القاضي عياض بمراكش على أن البدايات الأولى للنشاط التجاري القادم من الأطلس الصغير، كانت إبان الاستعمار الفرنسي، الذي عرف في الجنوب مقاومة كبرى من طرف سواسة، لكن في الشمال كان هناك تعامل تجاري بين السوسيين والاستعمار، حيث أقام السوسيون الأوائل، دكاكينهم، بالشوارع الكبرى، وبالأحياء الفقيرة، ولم يفرقوا بين زبون وغيره، لكن أكبر المستفيدين فيما بعد، أي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كانوا أولئك الذين أقاموا متاجرهم بالقرب من الأحياء التي يقطن بها المعمرون، حيث وسعوا من مجالات أنشطتهم، فتحول التاجر السوسي إلى تاجر بالجملة، ومنهم من اقتحم بعض الصناعات الغذائية، إلى أن جاءت لحظة الحسم في منتصف الخمسينيات، أي بعيد الاستقلال، حيث قام أغلب التجار والملاكين الفرنسيين والإسبان واليهود ببيع ممتلكاتهم، ولم يكن المشترون غير السوسيين، الذين حالفهم الحظ وتخوفات المستثمرين/المعمرين من انتقام المواطنين المغاربة، فقاموا بالتفاوض معهم واقتنوا منهم أملاكهم بأثمنة بخسة أحيانا.
المال وحده لم يكن يكفي، إذ أصبح التنافس مع النخب الفاسية هما كبيرا لدى سواسة، الذين توجهوا إلى الاستثمار في المعرفة لحماية المال، فتوجه السوسيون إلى الدراسة في الخارج والمدارس الكبرى والمعاهد العليا، فضلا عن جانب نفسي شكل حافزا لذلك، هو تغيير النظرة الاستصغارية التي ينظر بها الآخر إليهم، كجامعي أموال ومكتنزين.
قصة السوسيين والثروة، على الرغم من قصر مدتها الزمنية، قصة نجاح مدهشة، وقد علق على ذلك محمد جامع، أستاذ التاريخ بجامعة القاضي عياض بمراكش في حوار صحافي سابق، حيث يقول: «في أقل من ثلاثة أرباع قرن، صار أبناء الدواوير السوسية البعيدة مدراء ومسيرين لثروات وشركات عائلية من الطراز الأول. لقد انتقلوا من دور التاجر الوسيط إلى دور المنتج والمستورد والموزع. وبفضل قدراتهم على التكيف، أصبح أبناء تجار التقسيط القدامى، اليوم، عمداء لمدن كبرى، ووزراء في قطاعات حيوية وسفراء».
اليوم هناك عدد كبير من الأثرياء ذوي الأصل السوسي، متنفذون في المجالات الحيوية الكبرى للبلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. لم يعد الصراع بين الفاسيين والسوسيين صراعا حضاريا فقط بل تجاوزه إلى الصراع حول مواقع النفوذ.
أثرياء ما بعد الحرب
بعد الاستقلال، ستنضاف فئات أخرى إلى الفئات الغنية ترتبط بالمتنفذين العشائريين الذين برزوا خلال فترة الحماية، أو أولئك الذين استحوذوا على ما خلفه المعمرون، وقد أوردهم «جون واتربوري»، في معرض حديثه عن النخب الجديدة في مغرب ما بعد الاستقلال، فهو يقسم النخب الوطنية المغربية إلى نخبة حضرية معظم أفرادها ينحدرون من أصول عربية، والمقصود بها النخبة الفاسية غالبا، وإلى نخب قروية تتكون من أعيان القبائل ومن الأرستقراطية القروية ذات الأصول الأمازيغية أساسا». ثم يستطرد قائلا: «إن معظم النخب التي تم الحديث عنها سابقا، سواء ذات الأصول الحضرية أو القروية، كانت هي المشكل الرئيس للأحزاب المغربية. إنهم يتشكلون كذلك من جماعة من الأعيان والوجهاء وأصحاب المراكز الذين بدخولهم أي حزب يضمنون له النفوذ ويؤمنون له الموارد المالية».
لكن هذا الوضع لن يبقى حكرا على النخب سالفة الذكر، حيث ستظهر بعض المبادرات، في محاولة لخلق اقتصاد وطني قائم على أنقاض الاقتصاد الذي ارتبط بالاستعمار. الباحث في الاقتصاد، إبراهيم مرابط، يحدد مرحلة أخرى لتشكل الثروة لدى فئة مغربية ضيقة، «باختصار تشكلت هذه النخبة بعد إطلاق سياسة المغربة في سبعينات القرن الماضي، التي تولد عنها تعايش عدد كبير من أشكال الإنتاج والتبادل في داخل نظام الإنتاج الوطني، يمكن جمعها في أربعة أصناف من التنظيم الاقتصادي: اقتصاد الريع الاجتماعي، اقتصاد الهامش، اقتصاد الرأسمالية الشعبية، اقتصاد الرأسمالية الصاعدة، هذا الأخير هو بمثابة جيل جديد من المقاولين متشبع بحس مواطنة قوي، متميز بالحداثة والتغيير، ما أدى إلى إنتاج وإفراز نخبة ثرية جديدة لها سماتها وخصائصها، أهمها: نظام إنتاجي مهيكل شاب، مستوى تعليمي جيد، تكوين متلائم مع نوع النشاط الممارس الموروث عائليا، منسجم مع الخيارات الاستراتيجية للمغرب، منفتح على العولمة، لكن رغم مظاهر احترام القانون والمؤسسات، فإنهم يولون عناية أقل للوعي الاجتماعي، كما أن التزامهم السياسي محدود». هكذا تبرز ملامح الفئة الجديدة التي تتجلى سماتها المهيمنة في وعي متنام بدور التكوين المعرفي، وفهم عميق لتحولات السوق العالمية.
ما قاله رجل الأعمال المغربي كريم التازي من أن جزءا كبيرا من الفئات الثرية تمت مساعدتها من طرف النظام لكي تكبر وتنمي ثروتها، يؤكده الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، حيث يعتبر أن التوجهات الاقتصادية الأساسية بيد الملكية، وهو ما يطرح سؤال: من هم أصحاب السلطة المقررة في البلاد اقتصاديا؟ يجزم أقصبي بأن السلطة القارة في المغرب هي الملكية والبنك الدولي الذي، منذ 1964، وهو يشكل الطرف الثاني في جل القرارات داخل المملكة، وهو ما جعل أقصبي يعتبره، إلى جانب الملكية، الفاعلين الأساسيين صاحبي المخططات والقرارات الهامة في المغرب.
هناك رصد إذن للإرهاصات الأولى لزواج المال بالسياسة، وهي ظاهرة تجدد ملامحها عبر مراحل مختلفة من تاريخ المغرب، ومنذ تجار السلطان اليهود أو الفاسيين، كان القرب من البلاط محددا كبيرا لظهور طبقة الأثرياء المؤثرة، مرة على شكل أعيان الانتخابات، ومرة على شكل رجال أعمال يقومون بضمان المغرب، سواء باسمهم أو باسم معاملاتهم التجارية الدولية، ومرة على شكل توجه رأس المال إلى مناطق نفوذ أخرى كالإعلام أو العمل الاجتماعي والخيري.
مصدر ينتمي إلى هذه الفئات الثرية يقول: «لا يمكنك أن تملك أموالا وخيرات كثيرة وتسير بجانب الحائط. إذا اغتنيت فإنك تدخل إلى الدائرة التي قد تضيق عليك».
في مطلع التسعينات بدأت ملامح طبقة جديدة تبرز على السطح، إنها فئة «رجال الأعمال»، وهي فئة اجتماعية تشكلت بعد مسلسل من العمليات المحددة والمدروسة، كما يشير إلى ذلك تقرير أمريكي، كان هناك مسلسل الخوصصة، ثم رفع شعار التحرر الاقتصادي، وإصلاح قانون الشغل. ويرجع ذلك التقرير ظهور هذه الفئة، حسب التحليل السياسي والسوسيولوجي، إلى تخوفات النظام من ضعف «البرجوازية الوطنية»، وتصاعد برجوازية طفيلية. هذه الفئة ستتشكل من مجموعة تؤمن بالليبرالية الاقتصادية، وهي طبقة نموذجية للدفاع عن النظام الذي انخرط سابقا في التقويم الهيكلي منذ عام 1983 واتفاقية تحرير السوق عام 2000، ثم اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة سنة 2004.
في المغرب نصف مليون من الأثرياء
منذ حوالي ثلاثة أسابيع أصدرت مؤسسة New World Wealth، في تقريرها لسنة 2013، أن عدد مليونيرات المغرب وصل إلى 4900. التقرير الذي توصل إلى تحديد هويات الأشخاص الذين تبلغ ثروتهم بالمغرب مليون دولار على الأقل، يشير إلى أن هذا العدد آخذ في الازدياد في المغرب وكذلك في بقية دول شمال إفريقيا.
مصدر مطلع في وزارة المالية قال: «الأمر جد عادي، في المغرب اغتنى الكثير من الأشخاص بطرق شرعية وغير شرعية، هناك من اغتنى من العقار، آخرون من المضاربة، والبعض من الخدمات، ففي ظل الفوضى التي نعيشها بالمغرب مازالت هناك فرصة للإثراء، مادام مصدر هذه الأموال لا يمكن تتبعه، والمغرب يعج بالأثرياء الذين لا نعرف عنهم شيئا، هناك نخبة لا تتجاوز ثلاثة أشخاص تصل ثرواتهم إلى أضعاف ما يمكن أن يتوفر لبقية الأثرياء».
الملاحظ أن عملية إحصاء الأثرياء في المغرب عملية شبه مستحيلة، وبالرجوع إلى المندوبية السامية للتخطيط، فإننا لا نجد في أرشيفاتها على مدى تاريخ المغرب دراسة عن الأثرياء، فهناك دراسات عن الفقراء ولا توجد دراسة عن الأثرياء.
المندوب السامي للتخطيط، أحمد الحليمي، قال، لـ«أخبار اليوم»: «أعتقد أن الرقم أكبر بكثير من 5000 مليونير. نعم نحن نقوم بدراسات وبحوث حول توزيع الدخل في المغرب، لكننا لا نملك القدرة على إنجاز دراسة عن توزيع الثروة، ما هي المعايير التي سنستعملها؟ هل سنقوم بإحصاء الأراضي، أو الأسهم؟ لا توجد أرضية مرجعية لتوزيع الدخل، في المندوبية السامية نختار عينة من المستهلكين ونتابعها سنة كاملة، بعد ذلك يمكننا أن نصل إلى الدخل. اعتقد أن 5000 مليونير رقم ضئيل. هناك أكثر من هذا الرقم بكثير، أقدر العدد بـ600 ألف شخص يملكون مليون دولار على الأقل».
في بلد التناقضات والتفاوت الطبقي هناك نصف مليون ثري، على الأقل، لكن ما تصل إليه مراكز الدراسات والمؤسسات الدولية للإحصاء يبقى غير منظم وغير دقيق، هناك عوامل عديدة ترتبط بالوعي السائد لدى فئة الأثرياء، وكذا بالبنيات المالية الاقتصادية المتحكمة، فالتهرب الضريبي يجعل معظم أثرياء المغرب يحجمون عن التصريح بما يملكون أو برقم أرصدتهم؟ هذا السبب يفسره أحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، كالتالي: «مهما حاولنا إحصاء الثروة فإن الناس يمتنعون عن الإفصاح عن ممتلكاتهم، حتى الضرائب لن تفيدنا بشكل دقيق، هذه المؤسسات الدولية التي تحصي الأثرياء ربما تقوم بذلك عن طريق الأبناك، وحساب الأرصدة، داخليا وخارجيا. توزيع الدخل مركز في فئة عشرة في المائة، يحتكرون 35 في المائة نظرا إلى المصادر المتعددة للثروة».
الأبناك لا يمكن أن تكون مصدرا دقيقا أيضا، تكفي الإشارة هنا إلى أن تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وقرار حكومة عبد الإله بنكيران اقتطاع الضرائب مباشرة من الحسابات البنكية، جعل الكثيرين يقومون، بعد إجراء بعض المكالمات الهاتفية الإنذارية من طرف عملائهم بالأبناك، إلى سحب أرصدتهم، كما يشير إلى ذلك أكثر من مصدر بنكي، بينما يقول عبد الجليل، أحد تجار الخزانات الحديدية بدرب غلف، إنه «في ظرف أسبوعين نفدت الخزانات من السوق، وهناك من اشترى خزانة ارتفاعها متر وعرضها تسعون سنتيمترا، كم من الأموال ستتسع لها هذه الخزانة؟».
الأثرياء يخافون الإفصاح عن ممتلكاتهم، وهو السبب نفسه الذي جعل «أخبار اليوم» تصادف أجوبة متوجسة وحادة أحيانا من طرف بعض ممثلي المجتمع المخملي، خصوصا إذا تعلق الأمر بالتصنيف أو بالسؤال عن مصدر الثروة، يبدو الأمر كالبحث داخل خلية النحل، هناك إنتاج كبير بالداخل لكن لسعة واحدة كفيلة بردعك.
ملاحم اقتصادية تقودها العائلات
وضعت عدة أسر كبرى بصماتها على التاريخ الاقتصادي، وفي بعض الأحيان على التاريخ السياسي للبلاد منذ نصف قرن على الأقل، حتى إن بضع عائلات كبرى أصبحت تتحكم في أهم المقاولات في المغرب. لا يوجد مغربي واحد يجهل أسماء تلك المقاولات العائلية التي جعلت العائلات من أكبر أغنياء البلاد: بنجلون والشعبي وأخنوش وبنصالح والعمراني وزنيبر والعلمي وآخرون. وقد كشف آخر ترتيب حول الـ500 مقاولة الأولى في إفريقيا، أنجزته الأسبوعية الفرنسية «جون أفريك»، أن مقاولات العائلات الكبرى تلعب منذ عدة سنوات الأدوار الأولى في تطور الاقتصاد المغربي، فهي «موجودة في أي مكان توجد فيه إمكانيات للنمو، وعندما يكون النمو قليلا في البلاد، لا تتردد في البحث عنه في الخارج، وخاصة في جنوب الصحراء»، حسب ما أكده أحد الباحثين بالمركز المغربي للعلوم الاجتماعية، والنتيجة: مجموعات اقتصادية عملاقة في القطاع المالي والعقاري وفي التوزيع الكبير وفي الصناعة داخل المغرب، وفي الكثير من الأحيان في العديد من الدول الإفريقية… وإذا استثنينا الشركات المملوكة بصفة مباشرة أو غير مباشرة للأسرة الملكية (هولدينغ الشركة الوطنية للاستثمار SNI) والمؤسسات العمومية، أو التي يسيطر عليها مستثمرون أجانب (كما هو الحال بالنسبة إلى اتصالات المغرب)، فإن هذه الأسر الكبرى ساهمت في ازدهار أكبر المقاولات في البلاد: «أكوا هولدينغ» (الرتبة 59 على المستوى الإفريقي) وفروعها الإفريقية: SMDC (الرتبة 72) وإفريقيا غاز (الرتبة 301) بالنسبة إلى أسرة أخنوش، ومجموعة «يينا هولدينغ» التابعة لأسرة الشعبي (في الرتبة 121)، والملكية الوطنية للتأمين التابعة لأسرة بنجلون (في الرتبة 267).
تطورت هذه المقاولات بشكل كبير في السبعينات مع سياسة مغربة الاقتصاد التي وضعها الحسن الثاني. استفادت في الكثير من الأحيان من علاقات سياسية، واحتلت الحيز الأكبر من المشهد الاقتصادي. سبق لكريم العمراني، مالك «مجموعة سفاري» وأحد أكبر الأثرياء المغاربة، أن تولى منصب الوزير الأول في عدة حكومات، من بداية السبعينات إلى منتصف التسعينات. فيما يتولى عزيز أخنوش منصب وزير الفلاحة والصيد البحري منذ 2007، بينما بدأ ميلود الشعبي مقاولته في قطاع العقار قبيل الاستقلال، وقام بتطوير مجموعته بعيدا عن السلطة وعن الحكم. كذلك الأمر بالنسبة إلى عثمان بنجلون، فقد عمل دائما على تطوير مجموعته داخل وخارج المغرب، وهو الشيء الذي ينطبق مثلا على حالة البنك المغربي للتجارة الخارجية في سنة 2007، عندما تمكن من حيازة 35 في المائة من رأسمال بنك إفريقيا، في الوقت الذي بدأ «التجاري وفا بنك»، الذي يعتبر الهولدينغ الملكي المساهم المرجعي فيه، هو أيضا في استكشاف جنوب الصحراء. لم تعمل هذه المجموعات العائلية الديناميكية على منع ظهور فاعلين مغاربة جدد، وهكذا بدأت منذ عشر سنوات تظهر مجموعات جديدة رائدة من قبيل «لابيل في» (الرتبة 220) التابعة لزهير بناني، وشركة الإنعاش العقاري «دجى برموسيون» التابعة لـ«مجموعة الضحى» (134) التي يترأسها أنس الصفريوي، وأيضا «مجموعة سهام» (الرتبة 200)، وهي مجموعة للخدمات تابعة لمولاي عبد الحفيظ العلمي (الذي عين وزيرا في حكومة بنكيران الثانية)، وهي ثلاث مجموعات جديدة تمكنت، منذ سنوات، من قلب النظام القائم للمقاولات العائلية الكلاسيكية، ودخلت مغامرة الاستثمار في مناطق أخرى. فـ«مجموعة سهام» التي تأسست في 1995 هي المؤمن الرئيس على الصعيد الإفريقي، فيما واكبت «مجموعة الضحى»، بعد ذلك بسبع سنوات، مرفوقة بشركات إنتاج الإسمنت، أنس الصفريوي في مسلسل توسيع استراتيجيته داخل العديد من الدول الإفريقية الفرانكفونية بجنوب الصحراء.
يبقى أنه سيكون على هذه الديناميكية الرأسمالية العائلية المغربية أن تواجه تحديا حقيقيا: هو تحدي تجدد الأجيال، في الوقت الذي أصبح سن عدد كبير من «الباطرونات المؤسسين» يتجاوز السبعين سنة، فقد تم تدبير الوضع إلى حدود الآن بشكل مختلف، حيث دخلت مقاولات عائلية كبرى مرحلة انتقالية حقيقية، أدت في بعض الحالات إلى توارث التسيير الناجح داخل مجموعات عائلية مغربية كبرى، خصوصا على رأس مجموعة «هولماركوم»، بعد وفاة عبد القادر بنصالح في التسعينات، وداخل مجموعة سفاري التي سلم مؤسسها كريم العمراني المشعل لابنته سعيدة. ولكن، في المجموع، يبقى التطور بطيئا، إذ تغيرت طرق التدبير والتسيير، وتمت عصرنة التقنيات، لكن السلطة تبقى بشكل رئيسي بين يدي رئيس العائلة أو مجلس العائلة.
من النادر أن تشهد كل هذه المقاولات ما يعرف برسم «فصل أنجلوساكسوني» بين حيازة الرأسمال وبين التسيير، مرفوقا بإقامة أجهزة مستقلة بشكل واضح: مجلس العائلة، ومجلس الإدارة (الإدارة العامة)، لكن الوفاة المفاجئة في بداية يناير من هذه السنة لرئيس مجموعة كولورادو، فريد برادة، هزت بشكل عميق العالم الاقتصادي المغربي. ذلك أن عائلة برادة توجد هي أيضا ضمن قائمة المقاولات العائلية الكبرى في المغرب. وكان يمكن أن يخلف اختفاء الرئيس صعوبات كبيرة للشركة، ولكن، لأن هذه الأخيرة مدرجة في البورصة، فقد عرف المساهمون كيف يواجهون الوضع سريعا، وقاموا باختيار مدير عام من خارج العائلة، وفصل هذا المنصب عن منصب رئيس مجلس الإدارة، واللذان كانا تحت سيطرة العائلة.
بالنسبة إلى البنك المغربي للتجارة الخارجية، ورغم أنه مدرج في البورصة، فإنه لا يتوفر إلا على متصرف وحيد مستقل بشكل حقيقي (عادل الدويري)، من أصل 12 متصرفا. على العكس من ذلك، تتوفر مجموعة الضحى منذ 2012 على متصرفين مستقلين حقيقيين من أصل أربعة أعضاء داخل مجلسها الإداري، وهو نموذج يجب تحسينه، وخاصة من أجل إعطاء المثال «للنسيج الاقتصادي المغربي»، الذي يتشكل من 95 في المائة من المقاولات الصغرى والمتوسطة، على مستوى التغيير التدريجي لطرق الحكامة الموسومة بالأبوية التي مازالت تتحكم في تسيير المقاولات العائلية الكبرى».
أخنوش..إمبراطورية المحروقات
كان أحمد ولد الحاج أخنوش وأحمد واكريم وطنيين كبيرين، يزاولان البقالة في الأربعينات من القرن الماضي، قبل أن يشتركا في مشاريع توزيع الغاز والهيدروكابونات من أجل محاربة الاحتكار الأجنبي. وأدت تلك المغامرة إلى تأسيس مجموعة أكوا (التي تحمل الحروف الأولى من أسماء الآباء المؤسسين). تسيطر مجموعة أخنوش اليوم على شبكة تضم 400 محطة للتوزيع وتمثل 24 في المائة من سوق الهيدروكاربونات و34 في المائة من سوق الغاز، ولها امتدادات عبر شراكات دولية: أولا، مع مجموعة «مايرسك» في صفقة استغلال محطة الحاويات الأولى بميناء طنجة المتوسطي، وفيما بعد مع مستثمرين من الخليج في المنافسة على استغلال الميناء النفطي. وهي محطة للتوزيع مربحة جدا، خاصة في ما يتعلق بالسفن الموجودة على أبواب المضيق، ما جعل عائلة أخنوش رائدة في صناعة الطاقة، إذ أصبحت المجموعة منخرطة في جميع المشاريع الكبرى في القطاع. يشار إلى أن مجموعة أخنوش الاقتصادية والصناعية التي لها حضور مهم في خمس مهن حققت مؤخرا رقم معاملات يفوق 25 مليار درهم.
بنجلون.. كل الطرق تؤدي إلى الثروة
عائلة قديمة من التجار تمكنت من بناء قاعدة ثروتها العائلية في التصدير والاستيراد مع مانشستر (بريطانيا) خلال فترة الحماية الفرنسية. يعتبر عثمان بنجلون، 80 سنة، من أول المغاربة الذين تلقوا دراساتهم في سويسرا بمدرسة البوليتيكنيك في لوزان في الخمسينات. كان عمره 28 سنة عندما عاد إلى المغرب حيث التحق بشقيقه الأكبر عمر، المتوفى الآن، الذي سبق له أن أستثمر أموال العائلة في عدة وحدات صناعية: الألمنيوم والحديد وتركيب السيارات. وكانت نشاطات الأخوان بنجلون تغطي كل شيء، وتمكنا من نسج شبكة واسعة من التحالفات الدولية مع شركات عالمية كبرى مثل: فولف وكوديار. وسيلمع نجم بنجلون، في نهاية الثمانينات، عند ما شعر بأن ريحا جديدة ستهب على عالم المال. وهكذا وضع يده على «الوطنية المغربية للتأمين»، وهي شركة أسسها الوطنيون في 1949، من بينهم والده الحاج عباس بنجلون. وفي 1995، تمكن من السيطرة على البنك المغربي للتجارة الخارجية، الذي كان، إلى حدود تلك السنة، مؤسسة بنكية تابعة للدولة، وجعل منه بنكا خاصا بأفق عابر للحدود.
بنصالح.. عائلة بطعم المياه المعدنية
أسست مجموعة هولماركوم في السبعينات بعدما تمكن عبد القادر بنصالح من شراء عدة مقاولات تشكل قلب المجموعة: المياه المعدنية «ولماس»، ومركب الحديد والصلب المغربي وأوربونور للنسيج وأوربونور للحبوب. يشرف الآن على تسيير المجموعة ابن مؤسسها محمد حسن بنصالح، 43 سنة، الذي جعل مجموعة هولماركوم حاضرة في التأمينات (أطلنتا وسند) والمشروبات والتجارة والتوزيع (مركب الحديد والصلب المغربي) وحبوب المغرب. وتملك المجموعة كذلك أسهما تشكل أقلية في الشركة الجوية مخفضة السعر «العربية-ماروك»، وقامت بتطوير عدة مشاريع عقارية. ووصل رقم معاملاتها إلى حوالي 3,5 مليار درهم في 2011. أيضا تتولى ابنة مؤسس المجموعة، مريم بنصالح شقرون، منصب رئيسة منظمة الباطرونا: الاتحاد العام لمقاولات المغرب.
الشعبي.. قصة ملهمة للأجيال
إلى حدود اختياره من طرف مجلة «فوربس» كأغنى رجل في المغرب، لم يكن ميلود الشعبي بالضرورة في حاجة لتأكيد ذلك من طرف مؤسسة إعلامية عالمية، لأنه كان مصنفا في قائمة أشهر الباطرونات الكبار. فمجموعته (يينا هولدينغ) التي أسسها في 1948، تعتبر دعامة الرأسمالية العائلية. يغطي نشاطه عددا كبيرا من القطاعات: الصناعة والعقار والإسمنت والحديد والتوزيع والفنادق، وكذلك الطاقة المتجددة. يعتبر ميلود الشعبي، مليارديرا متفردا داخل الرأسمالية المغربية، ورجلا عصاميا داخل عالم الثروة، فهو الرجل البدوي الذي خلخل عالم الأثرياء، وكان مصدر إلهام لجيل بكامله من الشباب. يبلغ حاليا من العمر 83 سنة، وعمل على إشراك العديد من أبنائه في تدبير المجموعة التي ارتفعت مداخيلها إلى حوالي 10 ملايير درهم في 2011.
الصفريوي والعمراني والآخرون.. ويستمر نجاح العائلات الكبرى
مازال إلى الآن عدد كبير من رجال الأعمال الأكثر ثراء والأكثر نفوذا في المغرب من ورثة العائلات الكبرى في فاس، ويندرج ضمنهم أنس الصفريوي، أحد كبار المنعشين في مجال العقار، إلى جانب كريم العمراني، رئيس مجموعة سفاري متنوعة النشاطات، والجيل الجديد من الشباب الذي يمثله مولاي عبد الحفيظ العلمي. فهذه الأسر التي غادرت فاس، أو مراكش كما هو الحال بالنسبة إلى العلمي، نحو الدار البيضاء سرعان ما جعلت من المدينة قطبا اقتصاديا.