كان القدر يعدّ للمستعمر الفرنسي بالمغرب رجلا لا ككلّ الرجال، سيظلّ يذكره على الدوام.
سيذكر المستعمر أن هذا الرجل هزمه شر هزيمة في معركة "بوكافر"، رغم تفوقه العددي والآلي عليه، فمن يكون صاحب هذا التاريخ الكبير؟
النضج بين الكبار
وُلد عسّو أوبسْلام في عمق جبال الجنوب الشرقي بالمغرب، في قصر "تاغيا" بإقليم تنغير الأمازيغي سنة 1890 ميلادية.
صادفت الفترة التي ولد فيها أوبسلام إنشاء ما سمي حلف "تافراوت نايت عطا"، وهو تحالف لقبائل أمازيغية كبيرة، هدفه الدفاع عن هذه القبائل ضد الاستعمار الفرنسي.
نشأ عسّو أوبسلام في أسرة ومنطقة متديّنتين مشهورتين بالتصوّف، وكان والده من وجهاء قبيلة "إيملشان"، إحدى فروع قبيلة "آيت عطا" الأمازيغية الكبيرة.
نضج الفتى بين كبار قومه وفي مجالسهم، ما أورثه الثقة في النفس، وتعلم المشورة والقيادة، وطُرق حل النزاعات بين القبائل، ومعرفة بكل القبائل وكبارها وطبائعها.
قيادة القبائل
كان للتربية، التي تلقاها عسّو في قبيلته، دور هام في تمهيد طريقه نحو سيادة قبيلته، وفي سنة 1919 عيّنه كبار قومه شيخا على "إيملشان"، وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
يقول الباحث المغربي أحمد عصيد لـ"أصوات مغاربية"، عن بدايات هذا المقاوم الأمازيغي "لقد صار قائدا لقبيلته ثم لقبائل آيت عطا كلّها، والتي شكّلت أكبر كونفدرالية أمازيغية (تجمع قبلي) لمواجهة الاستعمار، إذ كان مسموع الكلمة في قبائل آيت عطا، يجيد تسيير شؤونهم، ويتعامل مع الجميع بمنطق المساواة وفق قوانين الأمازيغ".
كانت فرنسا قد دخلت إلى المغرب كقوة محتلة، وفرضت عليه الحماية سنة 1912، وكان طبيعيا أن تنخرط قبائل آيت عطا في المقاومة، بقيادة عسّو.
وقد كتب القبطان الفرنسي جورج سبيلمان (شارك في معركة بوكافر وما قبلها)، عن قوة تأثير أوبسلام في كتابه "آيت عطا الصحراء وتهدئة آفلاّ-نْ-دْرا" (أيت عطا الصحراء وتهدئة درعة العليا)، قائلا "الأخوان عسو وباسو أوبسلام هما زعيما إيملشان الثائران، ومحركا مقاومة هذه الكتلة المركزية، بل يصل تأثيرهما أيضا إلى مجموعة آيت إيعزا وآيت أونبكي، والحاصل أن كل شيء ينذر بمقاومة قوية في أرض ذات طبيعة جبلية، تساعد كثيرا على الدفاع وتحُول دون نشر قوات مهاجمة ضخمة".
المقاومة ومعركة بوكافر
وصلت قوات المستعمر إلى مناطق آيت عطا في الثلاثينيات، فاجتمعت قبائل آيت عطا بقصر "تاغيا" في 1932، وانتخبت عسو أوبسلام قائدا عاما للمقاومة.
حاولت القوات الاستعمارية التوغل في الجنوب الشرقي المغربي، وإخضاع منطقة صاغرو وقبائل آيت عطا لها، لكن عسّو قهرها في جبال الأطلس الصغير، إذ دخل معها في معارك كبد فيها قوات الاستعمار خسائر فادحة في الأرواح، ومن أشهر تلك المعارك: "تاوزا" و"النيف" و"تازارين" و"ناقوب".
بدخول سنة 1933 اندلعت مناوشات بين المستعمر وقوات عسو، غير أن الأمر تطوّر إلى معركة كبيرة، ستُعرف تاريخيا بـ"معركة جبل بوكافر"، هزم فيها عسو 83 ألف جندي فرنسي، إذ خسر الغزاة 3500 رجل ومئات الجرحى، لكن خسائر كبيرة جدا طالت نساء وأطفال آيت عطّا، حيث لم تفرق قوات المستعمر بين مدني ومقاوم.
ويذكر القبطان جورج سبيلمان خسائر الفرنسيين في بوكافر قائلا "بدأ الهجوم على بوكافر في 21 فبراير، فأصيب المقدم شاردون بجروح بليغة وتوالت هجمات عديدة.. وأصبحت خسائرنا القليلة ثقيلة، بمقتل الكثير من الضباط أبرزهم النقيب هنري دوليسبيناس بورنازيل، وهكذا كشف بوكافر عن مناعته".
الاستسلام والوفاة
بعد انتهاء معركة بوكافر بهزيمة فرنسا، عاود المستعمر حشد صفوفه بأعداد أكبر وعتاد متطور وفتاك خلال شهر مارس من السنة نفسها، فحاصر المقاومين برا وجوا عن طريق القصف لمدة فاقت الأربعين يوما.
يقول أحمد عصيد "لاحظ عسو أوبسلام أن المحتلّ عاود الهجوم، لكن هذه المرة بقصف عنيف بالطائرات وباستعمال المدافع الرشاشة، ما أوقع أعدادا كبيرة من الضحايا وسط المقاومين وسكان آيت عطا، فاتخذ القائد أوبسلام قرارا بالاستسلام حقنا لدماء قومه".
ويضيف عصيد "قال أوبسلام لقبائل آين عطا: لقد قررت الاستسلام حتى لا أعرّضكم لعقوبة السجن، حفاظا على كرامتكم وعلى أرواحكم".
ويعترف القبطان سبيلمان ببسالة أوبسلام ورجاله في المصدر السابق، حين يقول "كنت أتأمل بحزن جبل بوكافر، وهو آخر معقل للمحاربين الشجعان، الذين يفضلون أن يُمزَّقوا إربا إربا على أن يستسلموا، وكانوا مرفوقين بزوجاتهم وأبنائهم وماشيتهم".
بعد هذه البطولات، توفي عسو أوبسلام عام 1960، بعد صراع طويل مع مرض السكري، ودفن في مقبرة أجداده بجماعة تاغيا إيملشان.