مجحف هو التاريخ أحايينا كثيرة، يتواطؤ في مسح بعض من التاريخ البطولي، وإهمال الكثير من الحقائق التي لا يمكن إخفاؤها ولا القفز عليها، معركة الهري، واحدة من البطولات المغربية التي لم تأخذ نصيبها من التأريخ، معركة أبطالها أمازيغ كبدوا المستعمر الفرنسي أفدح الخسائر وأرغموه على الاعتراف ببسالة أبطال سلاحهم الإيمان بالأرض، وأدواتهم الخناجر والفؤوس، أمام جيوش مدججة بأحدث الأسلحة يومئذ.
"بوابة افريقيا الإخبارية" تفتح صفحة لـ"معركة الهري" أول معركة ينتصر فيها الأمازيغ والمغرب عموما على المستعمر الفرنسي، وتوردُ حقائق ضمنها المستعمر ذاته في مراجعه المؤرخة لتلك الأحداث. أسال الموقع الجغرافي والاقتصادي لمنطقة خنيفرة ولهري لعاب المستعمر، لكونه منبعا لكثير من الأنهار والمصبات بفضل كثرة الثلوج المتساقطة على المنطقة، والتي تتحول إلى مجار وينابيع وعيون مائية تنساب في الكثير من الأنهار كنهر أم الربيع ونهر ملوية ووادي العبيد. مما جعلها تساهم - هذه الأنهار والأودية - في إنشاء السدود وتوليد الطاقة الكهربائية، فضلا عن توفر الأطلس المتوسط على خط المواصلات المباشر الذي يربط بين مراكش وفاس عبر أم الربيع ومدينة خنيفرة. يوم 12 يونيو 1914 دخلت القوات الفرنسية مدينة خنيفرة بقيادة الكولونيل هنريس، بجيش تجاوز تعداده ثلاثين ألف محارب، فاضطر القائد موحا أو حمو الزياني إلى إخلائها والاحتماء بالجبال المجاورة للمدينة، حيث دخل مع المحتل في مناوشات واصطدامات كثيرة انتهت بخسائر جسيمة في صفوف الجيش الفرنسي. بعد معارك ضارية في منطقة تادلا وبالضبط بمركز القصيبة إلى جانب رفيقه في المقاومة موحا أوسعيد نايت واسُّو، تراجع موحى أوحمو الزياني إلى مدينة خنيفرة التي كان قائدا لها، فجمع الزيانيين ووحد القبائل الأمازيغية بعد أن تحالف معها بالأطلس المتوسط، كون بها جيشا قويا مدربا بعتاد بسيط وأدوات حربية محلية. وربط موحا أوحمو مع أتباعه في مخيم بمنطقة لهري التي تبعد عن مدينة خنيفرة بمسافة 15 كلمترا تأهبا لأي هجوم مباغت بعد أن تركوا خنيفرة التي سيطر عليها الكولونيل هنريس.
يقول الجنرال گيوم معترفا :" لاتكمن قوة الزيانيين في كثرة عددهم بقدر ما تكمن في قدرتهم على مواصلة القتال بالاعتماد على ما كانوا يتحلون به من بسالة وتماسك وانتظام، وأيضا بفضل مهارة فرسانهم البالغ عددهم 2500 رجل، فكانوا بحق قوة ضاربة عركتها سنوات طويلة من الاقتتال. كما كانت أيضا سرعة الحركة والإقدام إلى جانب القدرة العفوية على المخاتلة في الحرب من الصفات المميزة لمقاتليهم." في إحدى ليالي شتاء 13 نوفمبر 1914، قام هنريس بمباغثة المقاومين داخل مخيمهم بعد أن أباد الأطفال والشيوخ والنساء بدون رحمة. وهكذا، بادر الجيش الفرنسي بقوات حاشدة بلغت حسب بعض الوثائق التاريخية 1300 جندي، (بادر) إلى تطويق المقاومة وحصرها بشكل رهيب. لقد كان الهجوم على معسكر الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف شاملا، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تحوي الأبرياء العزل، وقام الجنود بأمر من "لاڤيردور" بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما استغل البعض الآخر -الجنود- الفرصة لجمع القطيع الموجود من الأغنام والأبقار، واختطاف النساء توهما بالنصر. هذا في الوقت الذي كان فيه حشد آخر يقصد الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة لهري إلى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة،
وظن قائد الحملة العسكرية على لهري أن النصر حليفه، وأنه وضع حدا لمقاومة الزياني. ليس إلا لحظات معدودة حتى حضرت القبائل الأمازيغية المجاورة والمتحالفة مع موحى أوحمو والتي بلغها صدى المجزرة وهي قبائل إشقرين وآيت نوح وآيت بويشي وآيت شارط وآيت بومزوغ وآيت خويا وآيت إحند وآيت يحيى وآيت سخمان وآيت إسحاق تسكارت وآيت بوحدو ولمرابطين وقبائل زيان. وقد حاصرت هذه القبائل جميعها الجنود الفرنسيين من كل النواحي، وطوقتهم بشكل مباغث ومفاجئ، فواجهتهم بكل الأسلحة البدائية والبسيطة الموجودة لديهم وغالبا ما كنت بنادق وفؤوس ومناجل وخناجر. قُتل الكثير من الجنود والضباط الفرنسيين؛ أجبر القيادة العسكرية على طلب المزيد التعزيزات والوحدات الإضافية، وهو الطلب الذي أجهضه موحى أوحمو إذ لم يترك لهم فرصة الانسحاب، فتتبع قواتهم الفارة، فحاصرها من كل النواحي إلى أن فتك بالكولونيل "لاڤريدور" عند نقطة بوزال؛ أخضع بعده باقي الجيش للاستسلام له. يقول الجنرال كيوم" " Guillaume في كتابه "البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط (1939/1912): "لم تمن قواتنا قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة" وقد أشار محمد المختار السوسي في كتابه "المعسول" إلى الخسائر التي تكبدها المحتل الفرنسي بتخوم خنيفرة على يد الزعيم موحى أوحمو الزياني وأورد قائلا: " ومن أكبر الوقائع في الحروب وقعة الهري التي استوصل (قتل) فيها رؤساء جنود الفرنسيين أكثر من 20 فيهم الكولونيلات والقبطانات والفسيانات، وتفصيلها أن العسكر الفرنسي تقدم بقوة عظيمة وتوغل في تلك الجبال إلى أن وصل الهري المذكور، فانقض عليه عسكر زيان بزعامة موحا أوحمو الزياني ومن معهم وسدوا عليهم المسالك التي سلكوها وجعلوا يقتلونهم كيف يشاؤون ويأسرون إلى أن أفنوهم".