في معركة "الهري" الشهيرة بمنطقة خنيفرة بالمغرب سنة 1914، أذاق الثائر المغربي موحى أوحمو الزياني الجيش الفرنسي هزيمة قاسية.
عن هذه المعركة كتب المقيم العام حينها، الجنرال الفرنسي كِيوم، في مؤلَّف يوثق لهذه الحقبة: "لمْ تُمنَ قُوَّاتنا قط في شمال أفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة".
صراع الزعامة
يُعرف باسم موحى أوحمو الزياني، لكن اسمه الكامل هو محمد بن حمو بن عقى بن أحمد، المزداد سنة 1857، في منطقة خنيفرة بجبال الأطلس المتوسّط.
نشأ موحى الزياني وسط عائلة أمحزون الأمازيغية، التي تنتمي إلى قبيلة آيت حركات، المنتمية بدورها لقبائل زيان الأطلسية، لذلك انتسب لقبيلته الكبرى زيان.
عُين موحى الزياني قائدا على قبائل زيان عام 1887، بعد وفاة شقيقه سعيد، وهو دون العشرين من عمره، واشتهر بالفروسية، ومحاربته للقبائل المناوئة للسلطان مولاي الحسن الأوّل.
لكن قبائل من زيان لم تقبل بتعيينه في منصب "أمغار"، وهو لقب أمازيغي يطلق على شيوخ القبائل. اعتراض القبائل عليه كان بسبب صغر سنه، لذلك انتفضت هذه القبائل ضده، لكنه واجهها حتى خضعت له.
في هذا الصدد، يقول الباحث المغربي في التاريخ، أحمد عصيد، إن موحى الزياني "خاض صراعات مسلحة ضد قبائل من زيان رفضت زعامته عليها، وتعرض لغدر كبير، لكنه استطاع أن يصمد وأن يُخضع الجميع".
المواجهة مع فرنسا
دخلت فرنسا سنة 1907 إلى المغرب بوصفها "قوة حامية" في وقت تكاثرت فيه الأطماع الاستعمارية تجاه المغرب.
بيد أن فرنسا وجدت نفسها في مواجهة مع الشعب المغربي، وكان أحد أبرز قادة من تصدوا لها، موحى أوحمو الزياني، الذي راح يحشد القبائل.
انقسمت القبائل في الأطلس المتوسط بين داع للمقاومة ورافض لها، على خلفية فتاوى بعض الفقهاء التي حرمت الاعتراض على سلطات الحماية، لكن موحى لم يلتفت إلى تلك الفتاوى، وخاض أولى معاركه ضد الجيش الفرنسي سنة 1908، عندما دفع بقواته إلى معارك الشاوية ومديونة.
يؤكد هذا الطرح الكاتب المغربي أحمد عصيد، موضحا، في حديث لـ"أصوات مغاربية"، أن موحى الزياني "تعرّض لخيانة من القبائل التي كانت تعارض سلطته، حيث هادن بعضهم الاستعمار وتآمر البعض الآخر معه، من أجل القضاء على الزياني، لكنهم فشلوا".
تلت معارك الشاوية معارك القصيبة سنة 1913، وأظهر فيها الثائر الزياني صلابة في مقارعة الجيش الفرنسي، ما دعا المقيم العام الفرنسي، الجنرال ليوطي، إلى محاولة استمالته.
أرسل ليوطي وفدا أمازيغيا إلى موحى الزياني، محملا بالهدايا النفيسة والوعود، مقابل وقف المقاومة، فرفض، ثم أرسل إليه الوزير إدريس البوكلي، وبعده الباشا الحاج إدريس الشرقاوي، فرفض أيضا.
معركة تاريخية
خطط الجنرال ليوطي لسحق قبائل زيان في معاقلها حتى يُنهي أسطورة موحى أوحمو، وصرح ليوطي في 2 ماي 1914، قبيل بداية حملته على الزيانيين، قائلا: "إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن إصرار هذه المجموعة (يقصد الزيانيين) في قلب منطقة احتلالنا، وعلاقاتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، خطر فعلي على وجودنا".
ويضيف ليوطي: "فالعصاة والمتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجأ وعتاد وموارد، وقربُها من خطوط محطات الجيش ومناطق الاستغلال جعل منها تهديدا دائما بالنسبة لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا هو إبعاد الزيانيين الساكنين بالضفة اليمنى لأم الربيع".
بدأت محاصرة زيان من طرف قبائل موالية لفرنسا، وأطلق ليوطي سلسلة هجمات على خنيفرة، واستحوذ عليها بالكامل، بعد معارك ضد الزيانيين قادها العقيد هنريس في 12 يونيو 1914، وتكبّد الزيانيون خسائر كبيرة في الأرواح.
تفطّن موحى إلى أن قواته تُستنزِف، فانسحب إلى الجبال المجاورة في الأطلس، وظن الجيش الفرنسي أن الزياني دُحر، لكنه بدأ يشن حملات مباغتة استنزف بها الجنود الفرنسيين، ثم انقض عليهم برجاله لحظة انسحابه، فكانت موقعة "الهري".
وحول هذه الواقعة يذكر الباحث المغربي في التاريخ، أحمد المنصوري، في كتاب له، ما يلي: "فهبطوا من أطلسهم وعلموا مواقع المدافع المنصوبة التي تحمي الجيش.. ففتكوا برجالها، وها هي الحملة التي روعت الحُلّة وغزت خيامها تجد المنايا شاخصة خلفها وأمامها.. فتاه الجيش في مجاهل البرية تلتقطه أسنة الفرسان البربرية".
خسر الفرنسيون كل شيء في معركة "الهري"، وحسب المنصوري فإن خسائر الزيانيين كانت تقدر بنحو ثلاثمائة قتيل وحوالي ألف من الجرحى، أما خسائر الجيوش الفرنسية فكانت كثيرة جدا، حسب الباحث ذاته.
"يكفي أنه لم يرجع منهم إلا الثلة الأولى من الفرسان، واشتهر على ألسنة الجواسيس، التي تأتي من ناحية المعسكر، أن خسائر المعسكر الفرنسي تقدر بأكثر من ثلاثة آلاف جندي وضابط، ويقولون إن الضباط تجاوزوا المئة، أما الخسائر المادية من المعدات الحربية والمدافع، فإن كل ما خرجوا به لم يرجع منه شيء .."، يردف أحمد المنصوري.
تاوجكالت.. مكان الرحيل
بعد الانتصار المدوّي في معركة "الهري"، انتقل موحى أوحمو الزياني إلى منطقة تاوجكالت لتعزيز قواته قصد مواصلة هجوماته على الجيش الفرنسي.
وفي سنة 1921، خاض موحى الزياني، إلى جانب أبنائه، أشرس معاركه ضد فرنسا، وهي معركة "أزلاك نتزمورت" بجبل تاوجكالت، وهو في الرابعة والسبعين في العمر، حيث كان يراقب سير المعركة من ربوة.
قُتل موحى الزياني في مواجهة ضد قوات الجنرال بوميرو في 27 مارس 1921، بعدما تلقى رصاصة في الرقبة، لكن الرصاصة لم تكن من جندي فرنسي، بل مصدرها سلاح أحد أبنائه صوبها تجاهه عن طريق الخطأ.
وعن هذه الحادثة كتب المؤرخ أحمد المنصوري: "مما يُؤسف له أن معركة وقعت في 27 مارس 1921 في تاوجكالت، ولكن سرعان ما كان مصابهم عظيما، حيث رأوا والدهم، الشيخ الهرم، يسقط تحت رصاص أولاده، الذي إنما جاء ليراقب مدى المعركة وآثارها، فلم يستقر قراره على ربوة، حتى رموه برصاصة جاءت عليه، وكان مصاب أولاده عظيما".
دفن موحى أوحمو الزياني في منطقة تاملاكت قرب تاوجكالت، منهية حكاية رجل من قلب جبال الأطلس أرعب جيش الفرنسيين