ليس من السهل أن نجعل الشخص يتكلّم في حال لم يكن يرغب في ذلك، أو في حال كان يتكلّم من دون أن يقول شيئاً فعلياً، أو يتفوّه بكلمات مقنّعة خوفاً من أن يتفوّه بأكثر من اللازم. إنّ استجواب شخص معيّن للحصول على معلومات واضحة ودقيقة يتطلّب التمتّع بمعارف وكذلك بالدراية، والمهارة، وحتّى الحنكة. في ممارسة الصحافة، تُعتبر المقابلة فنّاً.
عشر أسرار لإجراء المقابلة
1. خلق جوّ من الثقة
كلّ مقابلة هي عبارة عن مباراة. يتّخذ الشخص الذي يُجري المقابلة دائماً موقع الدونية لأنه هو مَن يطلب هذه المقابلة. لكي تكون المباراة ودّية، ينبغي التقرّب من الشخص الذي تتمّ مقابلته بلطف. إنّ البدء بالتواصل خطياً مطمئن أكثر من التواصل عبر الهاتف. من الضروري إقناع الشخص الذي نتحاور معه أنّ شهادته قيّمة وأن نضمن له أنّه بالتأكيد لن يتمّ نشر أيّ من كلامه دون موافقته. عندما أراسلُ ليوليوس قيصر بهدف جعله يتفاعل مع اكتشافاتي حول تمويل رحلاته العسكرية، أحاول بذلك أن أقنعه. أضع نصب أعيني أنّه، من خلال إجراء المقابلة معه، أمنحه فرصة للردّ على التشهير الذي طالَه في روما بشأن الوسائل التي يعتمدها…
2. الاحتفاظ بكلّ الأوراق الرابحة
لا نحاوِر بالطريقة نفسها الشخص المنتَخَب، أو الموظف في القطاع العام، أو مدير المؤسسة أو الكاتب. لكن كائناً مَن كان هذا الشخص، لا تكون المقابلة مثمرة إلا إذ تمّ الإعداد لها بعناية. أطلبُ إجراء مقابلة مع قيصر عندما أشعر أنني جاهز لإدارة المواجهة. وأكون جاهزاً عندما أجمع القدر الأكبر من المعطيات الوثائقية حوله وحول أصدقائه وأعدائه، وعندما أضع “دليل مقابلة” جيّد، أيّ بتعبير آخر، قائمة بالأسئلة المفصّلة والدقيقة نسبياً من أجل مواجهة مساعيه الرامية إلى الخروج عن الموضوع وحثّه على الخروج عن صمته…
3. اختيار الاستراتيجية المناسبة
هناك ثلاث أنواع من المقابلات التي لا تعطي النتائج نفسها.
* المقابلة التوجيهية التي تقضي بطرح أسئلة دقيقة جداً مع رفض الخروج عن الموضوع والإجابات المراوغة. إنها طريقة عدائية تَصلح في المقابلات القصيرة كالاستفتاءات الشعبية مثلاً: ثلاثة أسئلة، ثلاثة إجابات من خمسة أسطر لكلّ إجابة…لا نُخضع قيصر لاستفتاء شعبي!
* المقابلة غير التوجيهية تقضي بطرح سؤال تمهيدي مفتوح جداً، ومن ثمَّ السماح للشخص الذي نحاوره بأخذ زمام الكلام على سجيّته. هذه الطريقة المتراخية مفيدة من أجل اكتشاف شخصية هذا الشخص عندما لا نكون نعرف شيئاً عنه، لكنها نادراً ما تكون مُنتجة من حيث المعلومات. إنْ تركتُ قيصر يتحدث لوحده فلن يقول شيئاً، بطبيعة الحال، حول تمويلاته السرية.
* المقابلة شبه التوجيهية هي الأنسب لممارسة مهنة الصحافة. تقضي هذه المقابلة بالمزج بين الأسئلة المفتوحة والأسئلة المغلقة، وبين الأسئلة العامة والأسئلة المفصّلة. يسمح هذا المزج بإعادة إطلاق الحوار، وبتشجيع التبادلات، كما أنّه يُقيم علاقة تشاركية وتعاونية حتّى. سأستخدم هذه الاستراتيجية “الإحتوائية” مع قيصر. سأطرح في البداية أسئلة عامة: “كيف تموّلون حملاتكم؟”. من ثمّ، سأتركه يعبّر بكلّ حرّية ولن أتدخّل. فإنصاتي له باهتمام وبشاشة سيُريحه. بعد ذلك، عند خروجه عن الموضوع، سأعيد الحوار إلى مساره الصحيح بكل هدوء من خلال طرح أسئلة دقيقة تترافق مع مراجع تُثبت مهنيّني: “كنتُ الأسبوع الماضي في روما وتناولتُ الغداء عند لوسولوس مع أصدقائي المصرفيين، وعلمتُ أنّه منذ وصولكم إلى الغال، ضاعفتم ثروتكم 10 مرّات…هل هذا صحيح؟”…
4. اختيار المكان المناسب
لا نقوم باستجواب الأشخاص في أيّ مكان. فلا نُجري مقابلة مع قيصر في الحانة الواقعة عند زاوية الشارع. عندما نكون نحن مَن طلب إجراء المقابلة، نتوجّه إلى مكان تواجُد الشخص الآخر. ينبغي تجنّب الأماكن العامّة وبشكل خاص الحانات أو المطاعم. فالضجيج قد يعطّل المحادثات كما أنّ وجود شهود قد يُزعج الشخص الآخر. من هنا، ينبغي اختيار مكان هادئ وصافي ويُفضّل أن يكون مكتباً أو صالوناً. قد تكون الأماكن العامة مناسبةً إذا كانت الغاية الدردشة بشكل غير رسمي مع “أشخاص ثانويين” أو مع بعض المُخبرين الذين لا يستطيع الجمهور التعرّف إلى هويّتهم.
5. اختيار النبرة الصائبة
المقابلة هي مباراة لكنّها ليست مباراة ملاكمة. هي على العكس عبارة عن لقاء مُبهَم، وجهاً لوجه، يسعى فيه كلّ شخص إلى إغواء الآخر. إنّ العدائية من جانب الصحافي لا تكون مُنتجة. فليس من خلال الظهور بمَظهر العدائي نستطيع الحصول على الأسرار. فالشخص المُستجوَب ليس عدوّ الصحافي. من هنا، لا ينبغي استفزازه ومواجهته أو صرعه. بل يجب إقامة علاقة مبنية على الاحترام المتبادل معه، أقلّه خلال المحادثة. بالتالي، فالنبرة المناسبة هي النبرة الحيادية والمتسامحة، أو الخيّرة. أنا لا أتقاسم أفكار قيصر لكنني أعترف بحقّه في التعبير عن هذه الأفكار بحريّة، وإنْ حدثَ أن اعترضتُ على ما يَرِد في حديثه، أقوم بذلك بلباقة.
6. معرفة كيفية طرح الأسئلة
لا نكسب ثقة الشخص الذي نحاوره من خلال طرح الأسئلة المنحازة، والتي تحمل معنييْن، أو الخارجة عن الموضوع. فالطريقة المناسبة لإجراء المقابلة تقضي ببلورة أسئلة واضحة ودقيقة تكون فيها كلّ كلمة موزونة، ويكون تسلسل الأسئلة منطقياً، ويدور حول الإشكالية المركزية؛ أمّا محتوى الأسئلة فيُظهر لمَن نحاوره، إذا كان متسّقاً ودقيقاً، أنّ الصحافي على معرفة جيّدة بالموضوع أو بالملفّ الذي يجري التداول فيه. من هنا أهمية “دليل المقابلة” المُعَدّ مسبقاً والرامي إلى إحكام السيطرة على المقابلة حتّى إنْ مالَ مَن نحاوره إلى الإجابة “خارج الموضوع”…إذا طرحتُ على قيصر أسئلة حول قيمة عمليات السلب التي قام بها في الغال، عليّ أن أملك نقاطاً صلبة للمقارنة، مثلاً أرقام جرى التحقق منها، تدلّ على الثروات التي أحضَرها من إسبانيا عن طريق “عرّابه” بومبي، وإلاً فلن يأخذني الشخص الذي أحاوره على محمل الجدّ.
7. طرح الأسئلة المناسبة
السؤال المناسب هو السؤال الواضح والدقيق والمفهوم والحيادي المُصاغ بشكل لا يحثّ الشخص الآخر على الإجابة بالإكراه، غير أنّ السؤال يكون دسماً من حيث المعنى لدرجة تجعل فيها الإجابة الصحافي يتقدّم نحو ما يسعى إلى الحصول عليه مِن مَن يتحاور معه. قد يكون هذا “سؤالاً فرعياً”. يفترض طرح “السؤال الفرعي” المناسب في الوقت المناسب معرفة تامة بالموضوع. يتوصّل الصحافي إلى ذلك، مع تقدُّم طرح الأسئلة، من خلال طرح الأسئلة الأبسط لينتهي بطرح الأسئلة الفرعية الأكثر تعقيداً. لديّ “سؤال فرعي”سياسي جيّد أطرحه على قيصر عندما يُثبت لي تضاعف ثروته 10 مرّات منذ حملته الأولى في الغال: “بواسطة مثل هذه الثروة، قد يحلم أيّ قنصل روماني بأن يصبح أمبراطورا.ً هل يراودكم مثل هذا الحلم؟…”
8. رفض الرقابة الذاتية
تواجَه الأسئلة الجيدة أحياناً بالتهرّب أو برفض الإجابة. غير أنّ الصحافي لا يجب أن يستسلم. فمَهمّته القاضية “بالبحث عن الحقائق” تفرض عليه إعادة استلام مهامه بطريقة مهذّبة، وهادئة، وواضحة، أقلّه لمرّة واحدة. إنْ لم تولّد إعادة إطلاق الحوار نتيجة أفضل، يصبح رفض الشخص المُحاوَر بمثابة خبر بليغ…ينبغي نقله إلى القارئ. أتوقع ألاّ يجيب قيصر على “سؤالي الفرعي”. إذا ما أعرب عن طموحه بأن يُكلّل إمبراطوراً، فسيقوم مجلس الشيوخ الجمهوري في روما بإزالته من منصب القيادة على الفور. لكن إذا رفض الإجابة على سؤالي فسأخبر قرّاء صحيفتي بذلك…
9. النقل دون التشويه
يُحرِّر تسجيل المقابلة الصحافي من موجب تدوين الملاحظات باستمرار ويكفل لمَن تتمّ مقابلته عدم تحوير أقواله. لكن، لا يجري استخدام المسجِّل إلاّ بموافقة مَن يجري استجوابه، مع القبول بقطع التسجيل كلّما رغب هذا الأخير بذلك. نقوم أنفسنا بقطع التسجيل بطريقة مهذّبة عند أدنى تدخّل في الحديث، مثلاً في حال إقحام مكالمة هاتفية في الحوار. لا يعفي اللجوء إلى المسجِّل الصحافي من تدوين الملاحظات، على امتداد الحوار، خاصة للإتيان على ذكر ما لن يَرِد في التسجيل: الضحكات، وحركات الوجه، والتردّد، والتشنّجات اللاإرادية… إنّ مسألة معرفة ما إذا كان ينبغي الاتفاق على طمس بعض الصياغات الشفوية عند نقل المعلومات في نهاية المقابلة.
10. ختام المقابلة دون غموض
في نهاية المقابلة – حتى وإن كان قد جرى الاتفاق على كافة قواعد المباراة مسبقاً – يؤكّد الصحافي لضيفه الغاية الصحفية للكلام الذي أدلى به، وذلك لتفادي أي سوء تفاهم: نشر كلامه كما ورد على شكل “أسئلة – إجابات”، أو نشر كلامه جزئياً على شكل مقتطفات حرّة أو مُختارة بموافقة الطرفيْن، أو نشر الكلام بعد خضوعه لإعادة القراءة، إلخ. يعود للصحافي أن يقرّر عن وعي أيّ صيغة سيعتمد، على أن يوضح ذلك لضيفه. كالعادة، تكمن قيمة اتفاقي مع قيصر في كونه جلياً: يأذن لي دوماً بتسجيل كلّ أقواله ونشرها على كيفي… مع الاحتفاظ بحقّ إنكار الإدلاء بهذه الأقوال. كلمته مقابل كلمتي، يبدو لي أنّ هذه التسوية مشرّفة