يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين والاخلاص لواجباتنا نحو الآخرين، وهذا المدلول للعدالة يتضمن وجود الإنصاف والنزاهة والمساواة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
والعدالة وثيقة الصلة بالمساواة، وهذه الأخيرة ارتبطت دوما بفكرة الحق. وترتبط كذلك العدالة بالإنصاف، بوصفه الحكم العادل الصادر عن احترام روح القوانين، وليس عن التطبيق الحرفي لها. فالعدالة باعتبارها إنصافا تدل على إعطاء كل فرد ما يستحقه، وفق مبدأ تكافؤ الفرص.
تبدو لنا العدالة إذن كقيمة أخلاقية عليا، فضيلة شخصية تقتضي من الفرد أن يطبق في حياته قواعد أخلاقية ثابتة، ان هذه العدالة الأخلاقية تتجاوز كل الاعتبارات التشريعية القانونية والاجتماعية ما دامت متجسدة في أفعالنا وأفكارنا وأقوالنا.
إشكال المحور
هل تتحقق العدالة بالمساواة أمام القوانين أم بإنصاف الجميع...؟
هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي، بحيث يكون الجميع أمامها سواسية...؟ أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين...؟
موقف آلان (إميل شارتيي)
يقول آلان "القوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية ... سواء كانوا رجالا أو نساء أو اطفالا، أو مرضى أو جهالا، أما أولئك الذين يقولون ان اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا".
من هنا فهو يؤكد على اعتبار أن المساواة هي ذلك الفعل الذي نعامل به الناس بشكل متساو في جميع مجالات الحياة، بغض النظر عن تفاوتهم واختلافهم في السن أو الجنس أو اللغة أو العرق أو المعرفة أو غيرها. وبالتالي لا يمكننا الحديث عن الحق أو عن العدالة إلا في إطار المساواة تامة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون فيها الناس سواسية.
ففي حالات البيع والشراء مثلا، فالسعر العادل، هو السعر المعلن داخل السوق، والذي يجعل الناس متساوين، ولا يمكن بالتالي إغفال أحد، فيما يعتبر السعر غير المعلن، غير عادلا لأنه سعر يعيق التكافؤ بين الطرفين كأن يكون أحدهم عارف بقيمة وسعر المنتوج وأحدهما لا معرفة له. وبالتالي، لا تتحقق المساواة إلا إذا عرض الباعة نفس السلعة وبثمن محدد.
وهكذا إذن، إن العدالة باعتبارها قوانين يتساوى أمامها كل الناس، هي أساس الحق، فالعدالة والحق لا يمكن الحديث عنهما في غياب المساواة
موقف جون راولس
يرى راولس من خلال كتابه "نظرية العدالة" أن المساواة وحدها غير كافية لتحقيق العدالة، وأن النظام العادل لابد وأن يقوم على مبدأي المساواة واللامساواة معا.
مؤكدا على أن العدالة تقوم على قاعدة الإنصاف، وهي قاعدة تقتضي من جهة، حق استفادة كل الأفراد من نفس الحقوق الأساسية على قدم المساواة، ومن جهة ثانية، اعتبار اللامساواة الاجتماعية مقبولة عقليا، ومعنى هذا الكلام عدم وضع عوائق أمام أولئك الذين سمحت لهم مواهبهم وظروفهم الاجتماعية ببلوغ أعلى المراتب الاقتصادية والاجتماعية (الثروة والسلطة)، على أن يفسح المجال أيضا للذين هم أقل منهم، في إطار تعاون جماعي إرادي، لبلوغ نفس المراتب واقتسام الثروات، وفقا لمبدأ تكافؤ الفرص.
إن العدالة، حسب راولس، قائمة على قاعدة الإنصاف، فهي تقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، وعلى مبدأ الإنصاف في الثروة والسلطة.
موقف أرسطو
يرى أرسطو أن بأن المنصف أفضل من العادل، وهذه المفاضلة ترتكز على قاعدة أن كل منصف عادل ولكن ليس كل عادل منصف. لهذا يميز بين مفهومين للعدالة: الأول عام، والثاني خاص، فالعدالة بالمعنى الأول تعني الخضوع للقوانين وللضمير الأخلاقي، حفاظا على المصالح العامة، وبذلك تكون العدالة مرادفا للفضيلة. أما العدالة بالمعنى الثاني فتعني المساواة وفي هذه الحالة تسمى العدالة بالإنصاف، وحينما تصبح العدالة انصافا نكون أمام نوعين من العدالة، عدالة توزيعية وتعني توزيع خيرات وثروات المجتمع على أفراده حسب طاقاتهم وأعمالهم. وعدالة تعويضية وتتمثل في تنظيم المعاملات بين أفراد المجتمع على أساس القوانين والأعراف. وهدفها هو تصحيح السلوك الخارج عما تحدد القوانين، فهي عدالة تعاقب المجرم وتعوض أولئك الذين يذهبون ضحايا تطبيق القوانين.
إن العدالة، في منظور أرسطو، ليست مساواة فقط، بل هي أيضا إنصاف، فإذا كانت قوانين العدالة تتميز بعموميتها، فإن الإنصاف وحده يكيفها ويجعلها تستقيم مع الحالات النوعية والخاصة.
خلاصة المحور
يتضح في نهاية هذا المحور الطابع الإشكالي لمفهوم العدالة، فهي ليست المساواة أمام القوانين بتعبير (آلان)، بل هي كذلك إنصاف، من اجل تصحيح ما يلحق العدالة من أخطاء (أرسطو)، فهي لا تعني التطبيق الحرفي للقوانين بشكل يضمن تساوي الأفراد في الحقوق والواجبات الأساسية فقط، بل تعني أيضا الأخذ بروح القانون وتكييفه مع الحالات الخاصة، ومن ثمة فسح المجال لذوي المواهب والمؤهلات العقلية والجسدية والنفسية لنيل ما يستحقونه اقتصاديا واجتماعيا(راولس).