ليس الذكر كالأنثى

إعلان الرئيسية

ليس الذكر كالأنثى
نحاول في هذا البحث أن نسلط الضوء على موضوع من المواضيع الساخنة، حاول فيه أهل الباطل والمتبعون لأهوائهم الإدلاء بما في جعبهم دون استناد إلى الحق، ولا سماع لأهله الذين هم ورثة الأنبياء؛ لأن «العلماء ورثة الأنبياء»(1).
ولا شك أن الذين ينطقون بالحق الذي يريده الخالق ليس كمن ينطق عن الهوى، قال الله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 50].
وفي هذا الموضوع الحساس لابد من ركيزة صلبة وأساس حقيقي يستند إليه المتطلع للحق؛ لأنه ربما يظن أحد طرفي النزاع أن الحق على لسانه ولا شيء مع المقابل، ولذا فإننا سنعود إلى أصح كتاب في هذا العالم، لم يتغير أي نص فيه منذ أن أنزله الله سبحانه قبل ألف وأربعمائة عام، ألا وهو القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال تعالى فيه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4] لمناقشة هذا الموضوع؛ لأنه ولسنوات طويلة سعت المجتمعات المعاصرة، التي انسلخت من المرجعية الدينية إلى أن تقنعنا بأن الفوارق بين الذكور والإناث هي هرطقات لا أساس لها من الصحة، وأنها عادات اجتماعية غرست في مراحل التربية لاعتبارات سياسية وغير سياسية.
ونتيجة لهذا التصور رأينا هذه المجتمعات تفرض الاختلاط في التعليم وترفض التمييز في تنشئة الذكور والإناث وجندت المرأة في الجيوش وفي الصفوف الأمامية، فالمرأة أو الأنثى هي نصف المجتمع، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال»(2)، ولها وعليها من الحقوق والواجبات ما نص عليه كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ما من شأنه أن يرفع الخلاف ويحسم النزاع، لأن من قرر هذه الأمور هو الذي خلقها ابتداءاً وخلق بمقابلها الذكر فهو أعلم بحال كل منهما، فلا يمكن أن يأتي اليوم أو غداً من يعيد للمرأة حقوقها المسلوبة -بزعمهم-، وسنقسم هذا البحث إلى عناوين جانبية، أبدأ فيها بذكر بعض أهم النصوص الشرعية وأعرج على أقوال العلماء والمفسرين حول هذه النصوص ثم انتقل إلى أقوال علماء العصر كالنفسانيين والأطباء وغيرهم، لتتكون لنا بعد ذلك حصيلة علمية دقيقة حول هذا الموضوع بإذن الله تعالى.
أسباب أفضلية الذكر على الأنثى من الجانب الشرعي:
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 35-37].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى أسرعوا إلى كفالتها فكيف غيرها من النساء، وهذا أمر معروف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة مالا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها، ولهذا كان لباسها المشروع لباساً يسترها، ولعن من يلبس منهن لباس الرجال(3).
وقال البخاري: أي في القيام على خدمة بيت الله تعالى ومن يأتونه للعبادة فالذكر أقدر على ذلك، وهي تقول هذا اعتذاراً إلى الله عز وجل ظناً منها أنها تعرف أنها لم توف بنذرها على الوجه الأكمل، لأنه كان في نفسها أن يكون حملها ذكراً(4).
ولا شك أن الذي وهبها الأنثى هو الله سبحانه على خلاف مرادها حيث كانت ترجو الذكر، ولعلها بفطرتها أرادت هذا لما في الذكر من المزايا التي ربما غابت عن بال كثير ممن ينادون بإزالة الفوارق بين الذكر والأنثى فضلوا وأضلوا، يقول ابن عاشور: والله أعلم بما وضعت، إنها جملة معترضة، وقرأ الجمهور وضعت-بسكون التاء- فيكون الضمير راجعاً إلى امرأة عمران، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي، والمقصود منه؛ أن الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأن من فوض أمره لله لا ينبغي أن يتعقـب تدبيره(5).
فالمعنى واضح بإذن الله، لأن الأفضلية نفهمها من حيث ما يقدمه الشخص من نتاج وقدرات مقارنة بغيره من بني جنسه، فكما أنه لا يصح أن نقارن بين نتاج نخلة وبين نتاج نحله، لاختلاف الجنسين؛ فكذلك لا يصح أن نقارن بين نتاج أنثى وبين نتاج ذكر للسبب نفسه، يقول ابن حزم: "وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز وجل وليس الذكر كالأنثى فقلنا فأنت إذاً عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء إناث، فإن قال هذا أُلحِق بالنوكي وكفر، وإن سأل عن معنى الآية، قيل له: الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى والأنثى أيضاً ليست كالذكر؛ لأن هذه أنثى وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة، وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل"(6).
فالذكر عموماً يمتاز بأمور وهبها له الله سبحانه لا ليكون أفضل من الأنثى؛ ولكن لأن الله قد هيأه لأمور فيها من المشقة ما لا يستطيعها إلا بهذه الامتيازات التي فاق بها شقه الآخر، ولقد أخبر الله تعالى آدم بذلك وهو في الجنة حين حذره من إبليس فقال له: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]، فلا يشمل الشقاء الأنثى بنص الآية، ولا أريد أن أذكر أوجه الشقاء للذكر تجنباً للإطالة، ولأن واقع الحياة خير شاهد على ذلك.
يقول الرازي: إن مرادها تفضيل الولد على الأنثى، وسبب هذا التفضيل من وجوه:
الأول: أن شرعهم لا يجوز تحرير(7) الذكور دون الإناث.
الثاني: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى؛ لما كان الحيض وسائر عوارض النسوان.
الثالث: الذكر يصح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى؛ فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة.
الرابع: الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى.
الخامس: أن الذكر لا يلحقه من التهم عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى(8).
ثم أضاف قولاً آخر في هذه الآية قائلاً: إنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه(9).
إن الحق قد قال أنت تريدين ذكراً بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها الشعائر،، ففيه إبعاد وبشكل جيد لاحتمالات الدونية التي قد ترد إلى الذهن عند أول قراءة للآية، حتى لا تظن أن الذكر الذي كانت تتمناه سيصل إلى مرتبة الأنثى التي لها شأن عظيم، ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين في الشهادة والميراث والدية فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام فكان الأولى أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة كما أن عتق الأنثيين يقوم مقام عتق الذكر(10).
وبسبب هذا التفاضل استدل بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها(11).
ولو جئنا إلى أهم فرض أوجبه الله على المسلمين وهو الصلاة حيث لم يستثن الشرع أحداً في وجوبه مهما كانت الظروف والأحوال فلا يستثنى مريض ولا مجاهد ولا مسافر ولا مقعد ولا... من الصلاة بل ولا حتى عن ترك الجماعة في أدائها؛ نجد النصوص جاءت متراخية في حق الأنثى ومتساهلة معها، كسقوط الصلاة عنها في الحيض وذلك لأن الله الذي خلقها يعلم ضعفها وما يرافق ضعفها من الأمور التي معها تكون صلاتها في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد الذي لو تركه في المقابل الذكر لكان آثما ومحاسباً، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات»(12)، (وليخرجن تفلات): هو بفتح المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات(13).
وقال أيضاً: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وليخرجن تفلات»(14) وهذه طائفة من أقوال علماء الإسلام في فهم هذه الأحاديث.
قال السيوطي نقلاً عن النووي: هذا نهي تنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي:
1- أن لا تكون متطيبة.
2- ولا متزينة.
3- ولا ذات خلاخل يسمع صوتها.
4- ولا ثياب فاخرة.
5- ولا مختلطة بالرجال.
6- ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها.
7- وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها وإذا لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط(15).
وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة في المسجد يوم الجمعة قال: "صلاتك في مخدعك أفضل من صلاتك في بيتك، وصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في مسجد قومك، وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة".
وسئل الحسن البصري عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن أن تصلي في كل مسجد تجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين، فقال الحسن: تصلي في مسجد قومها؛ لأنها لا تطيق ذلك لو أدركها عمر رضي الله تعالى عنه لأوجع رأسها، وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الواجب؛ لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد(16).
وقال أبو عمرو الشيباني: سمعت ابن مسعود حلف فبالغ في اليمين ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله تعالى من صلاتها في بيتها إلا في حجة أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة، كما قال الله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، ومعنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن ونهاهن عن التبرج(17)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"(18)، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب، والمعنى أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه(19).
وقال الطيبي: والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس فإذا خرجت طمع وأطمع لأنها حبائله وأعظم فخوخه(20).
بل ذهب الشارع الحكيم إلى أبعد من هذا صيانة لهذه الأنثى من أن تنالها يد العابثين، فأمرها أن تجتمع في الصلاة ولا تجافي بين أعضائها وأمرت أن تغطي رأسها فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقاً لله عليها وإن لم يرها بشر(21).
ولعلنا نختم هذا الموضوع بآية من كتاب الله لئلا يطول بنا المقام، قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾ [البقرة: 228]، فهذه الدرجة التي امتاز بها مطلق الرجال على مطلق النساء جاءت نكرة فهي إذن درجة بحسبها، أي قد تكون درجة عظيمة تفوق بعظمها الأنثى لما فيها من عظيم العمل والمشقة من قبل الرجل، وقد تكون حقيرة لأن القائم بها قصّر في حقها حتى فاقته الأنثى فصارت بعملها أفضل منه، وصار أجرها في منزلة عند الله بمكان لا ترتقي درجة الرجل التي نالها أن تساوي ذلك العمل، يقول ابن كثير: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي في الفضيلة في الخَلق والخُلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34](22).
وقال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال، وقال قتادة: بالجهاد، وقيل بالعقل، وقيل بالشهادة، وقيل بالميراث، وقيل بالدية، وقيل بالطلاق، لأن الطلاق بيد الرجال، وقيل بالرجعة، وقال سفيان وزيد بن أسلم: بالإمارة وقال القتيبي: معناه فضيلة في الحق(23).
وقال الآلوسي: "زيادة في الحق لأن حقوقهن في أنفسهن، فقد ورد أن النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوامون عليهن، وحراس لهن يشاركوهن في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن"(24).
فالأنثى يجب أن تولد كل مرة على شكل ولادة السيدة العذراء، لتزداد المرأة بهاء وصموداً وتحدياً أمام زحف التقاليد الراكدة والفهوم المتحيزة لنوع دون الأخر، تلك الولادة المنتظرة للمرأة الإنسانة المكرمة ستحدث زلزلات متلاحقة، ستصل بين ولادة مريم الرمزي في عمق التاريخ القديم وولادة المرأة المسلمة في بداية الدعوة الإسلامية، هذه الأخيرة التي مُنِحَتْ كل التكريم ووجهت كل العناية لها، وصاغت تصوراً للتكريم الرباني لهذه المخلوقة، فقـط، لكي ترتقي إلى الصف الذي يجب أن تكون عليه؛ صف المساواة والاحترام المبنيان على نظرة إسلامية -إنسانية لها(25).
تقدم لفظ الأنثى على الذكر في الآية:
لو حصل إنسان على شيء هو أدنى من الذي طلبه أو تمناه سيقول: ليس الذي حصلت كالذي أردت، ولا يقول ليس الذي أردت كالذي حصلت، أي إنه يقدم الأدنى على الأعلى، هذا معروف عند أهل العربية، وفي الآية قدم الذكر على الأنثى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾ [آل عمران: 36] فهل يعني هذا أن الأنثى أفضل من الذكر بنص الآية؟
يقول ابن عاشور: "نفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفضيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب: ليس سواء كذا وكذا وليس كذا مثل كذا ولا هو مثل كذا كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وقوله: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء﴾ [الأحزاب: 32]".
وقول السموأل: فليس سواء عالم وجهول، وقولهم: (مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصدى)، ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به؛ إذ لم يبق للتشبيه أثر ولذلك قيل هنا: وليس الذكر كالأنثى، ولو قيل: وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود، ولكن قدم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم(26).
من يقول الأنثى أفضل من الذكر:
إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافاً في الباب الذي اشتركا فيه، ألا ترى أنه لا يقال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح، ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة؛ بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة، وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة، وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة(27).
وقد أورد ابن حزم مجموعة من الأدلة تدعم أفضلية الأنثى على الذكر من وجهة نظره حاولت سردها والرد عليها أولها قوله:
فإن شغب مشغب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن»(28).
قلنا: إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة، فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر، وإن قال لا سقط اعتراضه واعترض بأن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء، فإن سأل عن معنى هذا الحديث قيل له قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ذلك النقص، وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم، وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط، إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم ديناً وعقلاً غير الوجوه التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عليه السلام لا يقول إلا حقاً، فقد علمنا أن أبا بكر وعلياً لو شهدا في زناً لم يحكم بشهادتهم، ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين، وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن نقف فيها عندما حده النص فقط، ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل ديناً ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين(29).
قلت: قد جعل ابن حزم نقصان العقل والدين من الوجهين المذكورين في الحديث فقط، ونحن لا نزيد على الوجهين المذكرين ولكن النتيجة هي نقصان تكون به أدنى درجة من الذكر وهو الذي حوله ندندن، وهو وجه من وجوه الامتياز الذي فاق به الذكر على الأنثى في الآية: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] وأما أن من الإناث من هي أفضل من كثير من الذكور فهذا لا شك فيه ولكن هذا الفضل يكون من باب الخصوص لا من باب العموم، وبعبارة أخرى لو أخذنا عدداً من الرجال وعدداً من الإناث وأجرينا سباقاً لشد الحبل، ثم فاز الرجال لقلنا الرجال أفضل من النساء، ولكن هذا لا يعني أنهم عموماً أفضل من النساء لأن فيهن من هي أقوى لو نافست أحد الضعفاء من بين فريق الرجال لسبقته لأنها أقوى منه منفرداً، فكانت أفضل منه بوجه خاص.
ثم قال فإن قيل: كان القياس في الكلام أن يقال: وليس الأنثى كالذكر لأنها دونه فما باله بدأ بالذكر؟
والجواب: أن الأنثى إنما هي دون الذكر في نظر العبد لنفسه؛ لأنه يهوى ذكران البنين وهم مع الأموال زينة الحياة الدنيا وأقرب إلى فتنة العبد، ونظر الرب للعبد خير من نظره لنفسه فليس الذكر كالأنثى على هذا؛ بل الأنثى أفضل في الموهبة ألا تراه يقول سبحانه: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً﴾ [الشورى: 49] فبدأ بذكرهن قبل الذكور وفي الحديث أيضاً: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه-»(30)، فترتب الكلام في التنزيل على حسب الأفضل في نظر الله للعبد والله أعلم بما أراد(31).
قلت: أما البدء بهن في الآية فهو من باب الاهتمام بشأنهن لضعفهن، ألم تر أن الله بدأ بالوصية قبل الدين في قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن﴾ [النساء: 11] رغم أن أداء الدين واجب والوصية مندوبة كما جاء في الحديث: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتي بجنازة فقالوا: صل عليها فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة فقالوا: صل عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليّ دينه، فصلى عليه»(32).
إذن فتقديم الوصية اهتماماً بشأنها لما كان سداد الدين واجباً، وله من يطالب به على العكس من الوصية ففي الغالب تكون لمن لا يعلم بها ولا يطالب بها.
وأما استدلاله بحديث الجاريتين فهو حجة عليه، وذلك لضعفهن واهتماماً بشأنهن كذلك؛ أوصى لهن وحض على إعالتهن ورتب الأجر على ذلك ترغيباً بهن وبالإعتناء بهن لضعفهن ولنقصان درجتهن دون درجة الرجال الذين لا يحتاجون إلى ما تحتاج إليه الأنثى كما لا يخفى.
وقال أيضاً: فإن اعترض معترض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون»(33)، فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة. قلت: من أين له أنهن شاركن الرجال في النبوة؟ والله يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾ [يوسف: 109]وهو خاتم الأنبياء، فمتى سيشارك بعض النساء في النبوة؟
وقال أيضاً: فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام: «لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة»(34) فلا حاجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلالاً وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم، والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك، ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم(35).
قلت: ولكن هذا خبر من الصادق المصدوق الذي يوحى إليه أنه لا يفلح القوم إذا ولو أمرهم امرأة، وفي هذا حض لإسناد الأمور لرجل واحد ممن توفرت فيهم أهلية الرياسة والقيادة حتى تستقر الأمور لأن سنة الله قائمة على أن يكون للقوم رأس واحد لا رؤوس كثيرة، ومع ذلك لم نر أن رسول الله قد أسند أمور القيادة والحرب والجهاد لفاطمة أو عائشة أو أم سلمة مع فضلهن بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ثم أضاف قائلاً: فإن اعترض معترض بقول الله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، قيل له: إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات، ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام، ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: 18] إنما ذلك في تقصيرهن في الأغلب عن المحاجة لقلة دربتهن وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن(36).
وهنا وقفة حيث لا يوجد وجه مقارنة بين المؤمن وبين الكافر، أليس الله يقول: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221] فمطلق الإيمان أفضل من كل الكفر بشهادة الله فلا يبقى وجه لأفضلية الكافر والفاسق على المؤمنين لأن الله جعل المؤمن أفضل من العاصي فضلاً عن الكافر والمشرك فتكون الأنثى المؤمنة أفضل من اليهودي والمجوسي، وكذلك يقال في أنهن لسن في الخصام في شيء مع إخوانهن من الرجال لا من حيث الأفضلية بل لضعفهن.
ليس الذكر كالأنثى من الجانب العلمي:
مع هذه النهضة العلمية المتسارعة صار بالإمكان التعرض للجنس البشري بشيء من اليسر من حيث إمكانية التشريح والدراسة والتشخيص وصار بالإمكان أن يتدخل العلم ليقول قولة الحق في مجال الفروق السيكولوجية بيين الذكر والأنثى والتي كانت عبارة عن ضرب من الخيال قبل ذلك. فقد أثبتت الدراسات العلمية اختلاف الرجل عن المرأة اختلافاً كبيراً في كل ناحية من النواحي وفي مختلف المناشط وذلك بالرغم من أن النطفة التي يتكون منها جنين الذكر تشابه وتماثل النطفة التي يتكون منها جنين الأنثى في سبعة وأربعين كروموزم أو صبغي ولا تختلف النطفتان إلا في كرومزوم واحد (صبغي واحد)... هذا الجزء من ثمانية وأربعين جزءاً الذي يختلف فيه الذكر عن الأنثى يسبب اختلافاً كبيراً وشاسعاً وعميقاً بين الذكر والأنثى في الشكل الظاهري والتركيب الداخلي والعوامل السيكولوجية.
فلقد أثبتت الدراسات التشريحية في علم وظائف الأعضاء التناسلية أنها لا تقتصر وظيفتها على التناسل وإنما هي تفرز إفرازات خاصة بكل جنس وتؤثر تأثيراً مباشراً على كافة أوجه النشاط الفسيولوجي والروحي، ولقد أثبتت التجارب العلمية أن إزالة الخصى من ذكور أي صنف من الكائنات الحية يقلل من نشاط الكائن، ويزيل من صفاته كل ما يتميز به كذكر.. فالثور الذي يخصى تتولد فيه صفات البلادة بدل النشاط والهدوء بدلاً من العنف والاستكانة بدلاً من الوحشية، كما أثبتت أن المبيض للأنثى له أثر مماثل لتأثير الخصى في الذكر فإن إيقاف عمله يغير من صفات الأنثى تغييراً كاملاً، فكلا الجهازين يؤثران تأثيراً مباشراً في حياة الغدد.
وأثبت العلم أن المبيض لا يعمل إلا خلال جزء من حياة الأنثى، فإذا وصلت إلى سن اليأس بطل عمل المبيض بينما الخصية تظل عاملة إلى مدة طويلة.. وبذلك فإن المرأة تُحرم من إفرازاتها قبل الرجل بمدة أطول وهذا من أوجه الاختلاف بين الذكر والأنثى(37).
من الفوارق بين الذكر والأنثى:
ويزيد الدكتور الكسيس كاريل على ذلك إذ يقول: "ولا ترجع الفوارق القائمة بين الرجل والمرأة إلى اختلاف شكل الأعضاء التناسلية عند كل منهما كشكل الرحم ونمو الثديين وغير ذلك فحسب، وإنما ترجع إلى سبب أعمق كثيراً وهو غمر الكيان العضوي كله بمواد كيمائية تنتجها الغدد التناسلية التي تختلف طبيعتها وتركيبها وخواصها في الذكر عن الأنثى. والواقع أن المرأة تختلف عن الرجل جد الاختلاف، فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها وهذا أيضاً شأن أجهزتها العضوية وعلى الأخص جهازها العصبي... وإن دور الرجل في عملية التكاثر دور قصير الأجل ومحدود جداً، بينما دور المرأة يطول إلى تسعة أشهر تخضع فيها المرأة إلى هذا الكائن الجيني فتظل حالتها الفسيولوجية دائمة التأثر به والإناث لا تبلغ تمام نموها إلا بعد أن تحمل مرة أو أكثر فإذا لم تلد تصبح أقل اتزاناً وأكثر عصبية".
ويقول الدكتور تيودر وايك: "لقد مارست التحليل النفسي خمساً وأربعين سنة وأظن أنني يمكنني أن أقرر فيم يختلف الرجال والنساء".
إن عواطف الغيرة في المرأة أكبر مما هي في الرجل، وقد يعتقد البعض أن الغيرة قد لا تكون شيئاً هاماً بحيث يلتفت إليه، ولكن ثبت أن الغيرة تصحبها انفعالات قاسية وتغييرات نفسية وجسدية معاً مما يؤدي تأثيراً مباشراً على اتزان الفكر ودقة الحكم، وفي حالة التكاثر يستمر الأمر بالنسبة للمرأة لمدة طويلة تبلغ تسعة أشهر في أثنائها تكون عواطفها موزعة بين جنينها وبين باقي الأفراد الذين تمارس معهم شؤون الحياة.
كما اثبت التحليل النفسي أن الرجال أكثر استعداداً للاعتراف بالأخطاء من النساء، والاعتراف بالخطأ له تأثيره الكبير في خطة العمل في الحياة. ولا يقتصر الاختلاف بين الذكر و الأنثى في ذلك فقط بل إنه يتعدى ذلك إلى السلوك في العمل فقد أثبتت التجربة لاسيما أخيراً بعد أن شاركت المرأة بنصيب كبير في العمل أن هناك من الأعمال ما تجيده المرأة عن الرجل، خصوصاً تلك التي تحتاج إلى صبر ووقت طويل وهناك من الأعمال مالا تستطيع المرأة وإن قامت بها كان إنتاجها فيها أقل من الرجل.
إن تطوراً حصل في عام 2001م وهو أن زوجة الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون، وهي امرأة ليبرالية لا تهتم كثيراً بقضية القيم الدينية، تبنت مع سناتور أخر مشروع قانون يسمح بقيام مؤسسات تعليمية غير مختلطة وقد تمت الموافقة على هذا المشروع بالإجماع، ومنذ ذلك التاريخ زاد عدد المؤسسات التعليمية غير المختلطة في الولايات المتحدة بثلاثة أضعاف، كما وإن شعبية هذا التعليم هي في تزايد في دول أخرى كالمملكة المتحدة، وإيرلندا واستراليا ونيوزيلاندا(38).
لماذا الفوارق بين الجنسين مهمة؟
إن أغلب الكتب التي صدرت في ما يتعلق بتنشئة الأبناء كانت تنطلق من افتراض بأن أفضل وسيلة للتربية هي بأخذ الحياد في ما يتعلق بجنس الطفل أي بمعنى آخر عدم التركيز على أن الأنثى تحتاج هذا الأسلوب والذكر يحتاج ذلك الأسلوب في التدريس أو في التربية أو في الوظيفة أو في اختيار الألعاب إلى آخره غير أن هذا الافتراض لم يكن مبنياً على نظريات علمية مؤكدة.
ومما زاد من الشكوك في صحة هذا الافتراض هو أنه في منتصف التسعينيات عرضت كثير من الحالات لأولاد في الصف الثاني والثالث الابتدائي أحضرتهم أسرهم من المدارس بتقارير تدعي أن لديهم "نقص في الانتباه في الصف"، واكتشف العلماء أن ما يحتاجه هؤلاء الأولاد ليست العقاقير وإنما مدرس مدرك لطبيعة الفوارق التي ولد بها كل من الطلبة والطالبات، واتضح إن المدارس المعاصرة لم تعد تعطي هذه الفوارق أية أهمية وهنا يكمن بيت الداء. إن هذا الإهمال للفوارق بين الجنسين كان مؤذياً وضاراً في الثلاثين سنة الأخيرة فالإحصائيات المتوفرة تشير إلى أنه بينما تمثل المخدرات والمسكرات أهم المشكلات التي تواجهها الطالبات في الغرب فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه الأولاد هي ضعف التحصيل التعليمي. وتؤكد هذه الإحصائيات أن القدرة الكتابية لطالب الصف الحادي عشر مساوية للقدرة الكتابية لطالبة في الصف الثامن. ونفس المؤشرات تم تدوينها في دول أخرى كأستراليا ونيوزيلاندا وكندا، إن الدوائر الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية تقدر بأنه في العام 2011م سيكون هناك 140 خريجة جامعة لكل 100 خريج أي إن هناك انحسار للطلبة في النظام التعليمي(39).
صورة لمخ الذكر
اختلاف تنظيم الدماغ عند كل من الرجل والمرأة:
إن الأبحاث العلمية خلال العشرين سنة الماضية تشير إلى إن الجانب الأيسر من دماغ الرجل مخصص للغة والمخاطبة بينما الجزء الأيمن من هذا الدماغ متخصص في التخيل والتأمل، ونتيجة لهذه التجزئة فإن حصول جلطة في الجانب الأيسر من دماغ الرجل يشلذ في الغالب قدرته على التحدث أو القدرة على المخاطبة بينما حصول هذه الجلطة في الجانب الأيمن من دماغه لا يعطل قدرة المخاطبة وهذا يؤكد إن الجانب الأيسر من دماغ الرجل هام جداً للمخاطبة والتحدث بينما الجانب الأيمن ليس بهذه الأهمية للتحدث؛ ولكن هل ينطبق هذا التصنيف الدماغي على المرأة أم ماذا؟
إن تنظيم دماغ المرأة مختلفاً عن الرجل وذلك لأن التجزئة المشاهدة في دماغ الرجل، والتي ذكرناها سابقاً، غير موجودة عند المرأة التي تتصف وظائف الدماغ عندها بالانتشار في كل الدماغ وعدم التركيز، ونتيجة لذلك فقد لوحظ أن حدوث جلطة في الجزء الأيمن من دماغ المرأة يقلل قدرتها على التخاطب بنسبة قليلة جداً وكذلك الحال لو حصلت الجلطة في الطرف الأيسر من دماغها وهذا سببه أن المرأة تستخدم جانبي الدماغ في المخاطبة وليس جانباً واحداً كما هو الحال في الرجل.
كما أن هناك تفاوتاً في نمو أجزاء المخ في الجنسين حيث إن بعض هذه الخلايا ينمو وينضج بمعدلات أكبر عند الإناث كخلايا اللغة، بينما هناك خلايا تنمو وتنضج بمعدلات أكبر لدى الذكور كخلايا التصويب(40).
صورة لمخ الأنثى
الأولاد أكثر مخاطرة من البنات:
ومن انعكاسات هذا الاختلاف في تنظيم الدماغ هو كون الأولاد أكثر ميلاً للمخاطرة من البنات، وذلك لأن الأولاد لديهم ميل للمبالغة في قدراتهم بينما العكس هو صحيح في حالة البنات ومن أمثلة ذلك أن كثيراً من الذين يغرقون في المياه هم من الذكور وليس من الإناث لأن الذكور يبالغون في تقديرهم لقدرتهم على السباحة، ويعزو العلماء هذا السلوك إلى فوارق في تركيبة نظام الأعصاب لدى الجنسين(41).
والأولاد أكثر ميلاً للمصادمة خاصة بالأيدي حيث وجد بعض الباحثون أن احتمال حصول الصراعات بين الأولاد يزيد على 20 ضعف عنه في حالة البنات غير أن الصراع بين الأولاد يوجد بينهم انسجام أكثر وتتعمق صلاتهم بعد هذا الشجار، أما البنات فان شجارهن يكون قليلاً وفي الغالب بالكلمات بدل الأيدي ولكن آثاره على علاقاتهن تستمر لمدة أطول(42).
تحمل الآلام والضغوط النفسية:
والأكثر من ذلك أن اتضح من بعض التجارب المختبرية والدراسات أن هناك تفاوتاً بين الأولاد والبنات في تحمل الألم والضغوط النفسية سواءاً كان هذا الألم نتيجة صدمة كهربائية أو تعرض للهيب الحرارة أو أي مصدر آخر، وهذا ما قد يفسر ميل الأولاد إلى المخاطرة أكثر من البنات مما دفع كثير من العلماء في السنوات الأخيرة إلى محاولة تطوير عقاقير مختلفة لمعالجة الآلام في كل من الجنسين. كما إن تجارب وكالة الفضاء الأمريكية تؤكد على أن أغلب النساء عندما يعدن من رحلة فضائية يشعرن بدواخ وانخفاض في ضغط الدم لعدة أيام بعد الهبوط على الأرض ولم تشاهد هذه الآثار على الرجال إلا في حالات نادرة(43).
هذه الفوارق وغيرها هي فوارق طبيعة ينبغي الاعتراف بها وقبولها والاستفادة منها في العملية التعليمية وليس محاولة تجاهلها أو اقتلاعها كما يحاول بعض الليبراليون المعاصرون، إذن هناك فوارق بين الذكور والإناث في الاستجابة للعنف وفوارق في معدلات نمو خلايا المخ وفوارق في أساليب التعامل وفوارق في الوصف وهذه كلها فوارق تحتم علينا أساليب مختلفة للتعامل مع الأبناء والبنات وعدم وضعهما في درجة واحدة.
خطورة تجاهل الفوارق بين الجنسين:
بعد ذكر هذه الفوارق المختلفة بين الجنسين وانعكاسات ذلك على التربية والتنشئة والتعامل نكتشف خطورة التجاهل لهذه الفوارق في السنوات الثلاثين الماضية خاصة في الدول الغربية حيث تم تمييع هذه الفوارق في الأدوار الاجتماعية وتجاهل هذه الفوارق في المقررات الدراسية وتنازل الوالدين عن سلطتهما التربوية لأولادهم.
ونستشهد بتقرير حول حالة الأطفال منذ عام 1950م وحتى الوقت الحاضر والذي يشير مؤلفه إلى أن طفل اليوم أكثر قلقاً وهمّاً من طفل الخمسينيات، ويعزو الباحث هذا التحول في نفسية الطفل إلى عدة أمور منها:
افتقار طفل اليوم لبيئة الأسرة الممتدة وتفاعله مع الجد والجدة والخالة والعمة وبقية أفراد الأسرة مما يولد لديه شعوراً بالراحة والانتماء، ومنها زيادة خوف الطفل من إمكانية فقدان والديه ومن عنف البيئة المدرسية.
ومنها عدم اهتمام المجتمع بإظهار التميز الجنسي، أي عدم إشعار الطفل بأنه رجل وأن للرجل مواصفات مختلفة ولابد من الاعتزاز بها وتطويرها، كأن يذهب مثلاً إلى الصيد مع أقاربه أو يعمل في المصنع أو في المزرعة مع أبيه أو يمارس الرياضة مع الأولاد الآخرين، وكذلك الحال مع الطالبة حيث تشجع على الخياطة مع بنات جنسها أو العجن وإعداد الخبز أو أي نشاط أخر.
وجه الإعجاز:
إن الواقع المزري للمرأة في ثقافة ذكورية تؤمن بالوأد والاستغلال الجنسي والاجتماعي...وتوضع في ترتيب أقل من غيرها وتحاط بها أشكال الإقصاء المختلفة، وضعتها وشكلت حولها أسواراً وقلاعاً تحميها من اللاشيء وتأخذ منها كل شيء، بدءاً بحريتها وانتهاءً بتشكيل ثقافة- مانعة وضاربة في القدم - تعتبر المرأة جنساً وكائناً أقل درجة من شقها الأخر، رغم أن الشق يعني المساواة وحضور بعد التوازن والميزان...مع شقه الأخر.
فالتكريم الإلهي رفعها ورد إليها إنسانيتها وأحقيتها في الحياة والعيش الكريم، وللقارئ الكريم أن يلحظ مدى التوافق بين منهج الشرع في التفريق بين الذكر والأنثى، مع إعطاء كل ذي حق حقه، وبين نتائج العلماء المعاصرين الذين أثبتوا أن الفوارق بين الذكر والأنثى لا بد من أخذها بنظر الاعتبار إذا ما أرادوا الوصول بالمجتمع إلى الحالة المثالية له، وبالعكس فإن مساواة الذكر بالأنثى ونسيان أو تناسي الفوارق بينهما كفيل بأن يحدث في المجتمعات أمراضاً تنعكس أضرارها ومساويها على الأنثى بالدرجة الأساس فضلاً عما تحدثه من اختلالات في المجتمعات يحتاج علاجها إلى كثير من الوقت قد تصل إلى أجيال وأجيال، ولعل الرجوع إلى منهج قويم وسوي، فيه الحق واليقين ويرضي جميع الأطراف ويغني عن كثير من البحوث والدراسات والتجارب المخبرية ويختزل علينا الكثير من الوقت لمن الأهمية بمكان أن نعود إليه خاضعين راضين، فليس الذكر كالأنثى قالها ربنا على لسان محمد عليه الصلاة والسلام قبل ألف وأربع مائة سنة، فجاء العلم اليوم ليشهد أن هذا القرآن حق وهو من عند خالق السماوات والأرض وأنه مهما حاول أعداء الحق تشويهه، فإن الله الذي حفظ القرآن قادر على أن يسخر له من أعداءه من يشهد أنه من عند الله العليم الخبير.
إعداد: قسطاس إبراهيم النعيمي
مراجعة: علي عمر بلعجم

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button