( حينما أكتب عن ابن جرير القديمة وشخوصها وأحداثها وأمكنتها وأفراحها وأتراحها وتقاليدها وعاداتها وطقوسها وسياسييها ونخبها، أشعر أنني فعلا أسترجع ذاكرة حية لازالت تنبض ساحاتها وبيوتها الواطئة وحيطانها وغبارها وسحنات أهلها، بالحياة نعم بالحياة على الرغم من أن الحيطان لم تعد هي الحيطان والناس لم يعودوا هم الناس الذين عرفناهم منذ أكثر من نصف قرن).
تتميز كل بلدة وكل حي وكل دوار ببعض شخصياته المتفردة التي تطغى أسماؤها على من نسميهم بالشخصيات العمومية، وعادة ما ينحدر هؤلاء من الهامش أو أحيانا من هامش الهامش. ولأسباب نفسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو كلها مجتمعة، تتصدر أسماؤهم المشهد المحلي ، فيصيرون جزءا من معالم تلك البلدة وذلك الحي وذلك الدوار، وبالتالي فهم أيضا جزء من معمار البلدة البشري الذي لا يستقيم الحديث عن ذاكرة ذلك المجال دون استحضارهم.
في ابن جرير القديمة كثير من شخوص العالم السفلي الذين كانت أسماؤهم تجري على كل لسان، في مركز البلدة (القشلة) أو في أطرافه (الدوار الجديد ولفريقية والزاوية وشايب عينو والشعيبات والجلودين (باري ولاكار) بل حتى خارج النطاق الترابي لجماعة ابن جرير. ومن هؤلاء الذين كانوا من رواد القشلة وحملة عرشها من طلوع الشمس إلى الهزيع الأخير من الليل بل أحيانا حتى مطلع فجر اليوم الموالي، المرحوم عبد القادر خصمان الشهير ب" الفوكس" شقيق لاعب الكرة الأنيق الطيب الودود الأستاذ محمد خصمان.
عاش "الفوكس" مسارا حياتيا مضطربا غير مستقر خاصة في فترة العمر الزاهية حين يكون العظم صلبا والعنفوان غضا طريا. فأحيانا تكون الخطوة الأولى في المسار المعوج، اختيارا لا يستطيع المرء أن يتراجع عنه إلا عندما لا يصير في الجسد طاقة للتحمل. وإذا كانت هذه الجزئية غير ذات بال فيما يعنينا من أمر المرحوم "الفوكس"، فإن ما يجعله جديرا بأن يكون موضوعا للذاكرة، هو أنه ظل قيد حياته خدوما بالمعنى الإجتماعي لكسب الرزق من جهة وإسداء الخدمة لمن يطلبها مهما تحمل فيها من مصاعب ومشاق. اشتغل في كل شيء في القشلة، وقدم الخدمة لعدد كبير من مالكي المقاهي وزبنائهم ومحلات البقالة وغيرها.
يتحدر الفوكس من دوار "الحنيشات" التي كانت تابعة وقتئذ لجماعة صخور الرحامنة، وبها رأى النور حوالي سنة 1944 ابنا بكرا لأبويه. بعد انتقال الأسرة إلى ابن جرير، سيلج الطفل عبد القادر المدرسة وسيجاور عددا من الأسماء في خمسينيات القرن الماضي، إلا أنه لسوء حظه سينقطع مبكرا عن الدراسة، وسيكون تردده على "حانة" ( Madame MATHIEU) التي كانت تسيرها امرأة اسبانية تدعى "مدام ماتيو" والتي ستتحول فيما بعد إلى المقهى المسماة اليوم (قهوة الحسين العريبي المعروف برجاء الله). انغمس المرحوم عبد القادر في عوالم "الحانة" وجالس كثيرا من الأجانب في مقهى اليوناني الشهير " TASSO" الذي استمرت الحانة التي كان يملكها تحمل اسمه إلى يومه هذا.
ونظرا لطبيعة تلك العلاقات التي كانت تربطه بأولئك الأجانب، ونظرا لما كانوا يرون فيه من بعض السلوكات المميزة لشخصه، فقد كانوا ينادونه ب" الفوكس" أي الثعلب كما تعني في اللسان الأنجليزي ( FOX).
انتقل المرحوم إلى الدار البيضاء بحثا عن لقمة العيش، فاشتغل بداية في أحد المطاعم. كما عمل بعد ذلك في أحد الحمامات. غير أن المقام لم يحلُ له هناك، فعاد الطائر إلى عشه، وإلى نفس عوالمه الخاصة.
ولأنه "الفوكس" باسمه الغريب وبشهرته، فقد كان يخيل لعديد من الناس أن الرجل قاطع طريق خطير، والحال أنه مسالم خدوم منفتح على كل الناس الذين تربطه بهم علاقات يتردد صداها في فضاء القشلة بين كل نوادل المقاهي وبائعي السجائر بالتقسيط وماسحي الأحذية والأساتذة وسائر الموظفين من جيله.
كان الفوكس يتردد كثيرا على مركز الدرك في الستينيات والسبعينيات، ما كان يثير الاعتقاد من كون الرجل دائم "الضيافة" عند الجدارمية، أنه عنصر يجب الحذر منه لأنه قد يكون خطيرا أو هكذا كان يتمثله الصغار والفتيان الذين لا يعرفونه، بينما وجود الفوكس هناك كان بحكم أنه كان يقدم بعض الخدمات للمركز وللعناصر الموجودة فيه مما يحتاجونه من بعض الحاجيات والأغراض الخاصة والمنزلية.
سيتقدم العمر والجسد المترهل بالمرحوم عبد القادر، وسيتأخر به الزمن في مقهى "انوال" التي كان يضع نفسه رهن إشارتها لتقديم بعض الخدمات. وهناك نسج علاقات متعددة مع جيل آخر من رواد المقهى ومالكها ومسيرها عبد الله إخرازن وبعض المستخدمين فيها كعبد الكريم الماحي والنادلين المتقاعدين المشهورين "الحبيب المنتاكي" وعلي العلواني.
لعل أهم ما أحتفظ به من ذكرى عن المرحوم الفوكس، هو في مناسبة كان قدم فيها الصديق المحجوب الكاسمي (ولد السي الضو) الاستاذ الجامعي الحالي بفرنسا سنة 1979 فيما أعتقد، صحبة زوجته الفرنسية وشقيقاتها اللواتي يعرفهن أخي عبد الجبار لما كان يتابع دراسته هناك بنفس المدينة التي كان فيها المحجوب، وقمنا بخرجة جماعية بكل "مستلزماتها" خارج ابن جرير نواحي البحيرة وضيعاتها ، كان من الحاضرين فيها المرحومان عباس ملموس وعبد النبي بهلولي وعبد اللطيف أمين إضافة إلى أخي أحمد الذي كانت تربطه بالفوكس علاقة خاصة. وكان الفوكس حاضرا بعفويته وشغبه ودعاباته وقفشاته، فما كان منه إلا أن خاطب أحد الفرنسيين قائلا: ( aih monsieur Jacques l’ami de moi comme le chien).
في يوم 21/ 11/2009 سينتهي مسار حياة "الفوكس". لروحه السكينة التي افتقدها قيد حياته.
( في الصورة، المرحوم عبد القادر خصمان " الفوكس" صحبة المستخدم بمقهى أنوال عبد الكريم العلواني).
في الصورة الثانية المرحوم عبد القادر صحبة شابين.
لست ربوت