

حتى تسعينيات القرن الماضي كانت المطاعم المدرسية، تقدم لتلاميذ المدارس الابتدائية، بعض المواد الغذائية التي تتوفر على نسبة من الجودة مما تجود به بعض الجهات الأجنبية كالدقيق الأمريكي والخضر والفواكه المجففة من أمريكا وكندا، والتمور من العراق، والبن والحليب المجفف والقطنيات وغيرها مما كان ـ على الأقل ـ يعتبر مقبولا في الإطعام. وبعد الفضائح التي سجلت إثر الاختلالات الكبيرة التي عفنت ملف الإطعام المدرسي، وفاحت منه روائح الاختلاس والبيع ومبادلة المواد الأجنبية ببعض المواد المحلية متدنية الجودة، لم يتبق من المطاعم سوى الاسم، ووصلت سمعتها إلى الحضيض بعد أن صار الخبز المحشو بالعدس أو ببعض السمك المصبر الرديء، هو الوجبة الغالبة على قائمة الإطعام.
ومما لاشك فيه أن التلاميذ الذين مروا في الزمن البنكريري الأول، تختزن ذاكرتهم بعض الأسماء التي ارتبطت بالمطعم المدرسي، إلا أن أشهرها هو تلك السيدة التي انتشر اسمها كنار على علم في ذلك الزمن البسيط المترب المغبر "الجميل". إنها "مي هنية" "شاف" المطعم المدرسي بابن جرير.
لما عدت إلى أرشيف ذاكرة ابن جرير التي اشتغلت عليها منذ ما يقارب الثلاث سنوات، بدا لي أن بعضها الأول الذي ساقه حظه إلى نقطة البداية، لم أوفه كل ما يستحق من حق، وكان ما تعلق منه ببعض الرموز المحلية، مجرد بورتريهات عابرة خاطفة كما هو الشأن بالنسبة لسيدة اليوم والأمس المرحومة " هنية عيسى" المعروفة في زمننا المدرسي الأول في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ب "مي هنية".
لا ترتبط "مي هنية" في أذهاننا ـ نحن ذلك الجيل ـ بكونها كانت المشرفة على المطعم المدرسي فحسب، بل بكونها جدة زميلنا على مقاعد الدراسة وفي نفس حجرة الدرس على امتداد السنوات الأربع من السلك الإعدادي ب"الكوليج" المرحوم عبد المالك بنبراد، ذلك الفتى الطيب الودود لاعب الكرة الرشيق الأنيق المربوع القوام، الذي خطفه الموت الغادر مبكرا، وبكونها والدة أستاذنا المرحوم السي المهدي بنبراد لاعب الكرة القديم مع جيل ستينيات القرن الماضي، وشقيقته المرحومة فاطمة والدة عبد المالك والتي استلمت مشعل المطعمة بعد وفاة والدتها " مي هنية".
من هذه الزاوية تبدو "مي هنية" رمزا نسائيا من الرموز الخالدة التي ارتبطت بأذهان كل التلاميذ الذين مروا من على مقاعد تلك المدرسة الابتدائية المحاذية للكوليج ولمركز الدرك والمفتوحة من جهة على مدرسة المحطة التي كانت تسمى مدرسة البنات، ومن جهة أخرى على "الجردة الكبيرة" والتي كان أول ما يستقبلك في محيطها أشجار "الإبزار" ونبات "الصابرا" الشوكي من الرأس كسيف بتار.
.مي هنية، هي مطعمة الجياع من أبناء الفقراء واليتامى والنازحين من خارج ابن جرير، وكذا "المجازين" ممن أفلحوا في حفظ جدول الضرب أو حل مسألة رياضية ، أو تصريف فعل في المضارع المؤكد بنون التوكيد الشديدة، فنالوا "تيكيت" يخول لصاحبه الالتحاق بالمطعم والاستمتاع بأكل خبز الكفار النصارى لقاء إنجازه ومثابرته..
هذه السيدة التي تأخرت محدودبة الظهر بزاوية منفرجة، وبجبهة كستها بعض التجاعيد، كانت أسنانها ترصع حرف السين بنقط الشين ، فتصبح 'الحسوة" "حشوة" والسي الفارسي، الشي الفارشي، والسي بوعلي ، الشي بوعلي. هذه السيدة كانت بمثابة منظمة غوث اللاجئين ،توزع أرباع خبز الدقيق الأمريكي بكل الهمة والنشاط والصرامة التي تضطرها أحيانا إلى "قرنعة" هذا و"نهصرة" آخر.
هذه السيدة كانت تحوز حب الصغار بسراويلهم الممزقة والمرقعة، وبنعالهم البلاستيكية التي فقدت الأصل من كثرة التلحيم، وبرائحة النوم والشياه وغازات خبز الشعير والذرة ، التي تصرف بالتقسيط سرا أو جهرا كلما انقطعت فرامل المحرك.
فيا أيها "الجياع" القدامى سلموا على "مي هنية" والتمسوا بركة يديها . ويا أيها "اللصوص" الصغار، اطلبوا منها الصفح عن كل "زلافة" من "الحسوة" ضاعفتموها بلا موجب حق، وعن كل "ربع كوميرة بيضاء امريكية شهية، خبأتموها داخل جلابيبكم المعطرة بإرويك" الحاء والزاي والقاف.
على روحها وروح السي المهدي بنبراد والسي عبد المالك بنبراد، كل الرحمات..
لست ربوت