أكد القرآن الكريم أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريماً للإنسان، وجاء ذلك في حوار بديع، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة: 30].
إنّ الإنسان هو المقصودُ غايةً وهدفاً في ابتعاث الرسل، واختيار الأنبياء، وإنزال الكتب والصُّحف، وإنّ الله سبحانه وتعالى الذي جعل آدمَ خليفةً في الأرض، اقتضت حكمته ومشيئته ورحمته بالإنسان ألاّ يخلقه عبثاً، وألاّ يتركه سدًى، وإنّما تكفّل بهدايته وإرشاده، وأخذ بيده إلى الطريق الأقوم، والمنهج الأمثل، وطمأنه منذ استقراره في الأرض أنه لن يدعه طعاماً سائغاً لوساوس الشيطان، ولن يتركه نهباً للوهم، والخبط، والضلال، والشهوات، ولن يسلمه للجهالة والحيرة والضياع، وإنما أكرمه بالهداية والرشاد بالتي هي أقوم، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [البقرة: 38]. وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *} {مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *}[طه: 123 ـ 124].
وهكذا توالت الرسلُ، وتتابع الأنبياء، وأُنزلت الكتب، وكلّها تدور على محور واحدٍ، هو الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاءت الشرائع لتأمينِ مصالح الناس بجلب النفع لهم، ودفع المضارّ عنهم، فترشدهم إلى الخير، وتهديهم إلى سواء السبيل، وتدلّهم على البر، وتأخذ بيدهم إلى الهدى القويم، وتكشِفُ لهم طريق الخير، وتحذّرهم من الغواية والشرّ، ويظهر التكريمُ الإلهيُّ للإنسان في عِدّةِ أمورٍ، منها:
تكليف الملائكة بالسجود لآدم
لم يقتصر الأمر الإلهي باختيار الإنسان خليفة في الأرض، بل تأكد ذلك في السماء والجنات العلا، واقترن بالفعل والتطبيق، وأعلن الله تعالى ذلك في الملأ الأعلى بإرادته عن خلق آدم، واتخاذه خليفة، وسجل ذلك في اللوح المحفوظ، وأنزله وحياً يتلى على البشر، ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً، واحتراماً له؛ لأنّ الإرادة الإلهية تعلقت باختياره، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ *} [ص: 71 ـ 74]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *}[الحجر: 28 ـ 31]. وكرّر القرآن الكريم هذا الأمر، وهذه القصة في عدة سور قرآنية لتذكير الإنسان بفضل الله تعالى أولاً، وليعرف مكانته من الوجود والكون ثانياً، وليحذره من غواية إبليس ثالثاً.
تفضيل الإنسان عن سائر المخلوقات
صرّح القرآن الكريم بهذا التفضيل والتكريم، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الإسراء: 70].
تسخير ما في الكون للإنسان
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وصرّح القرآن الكريم بأنّ الله تعالى خلق الأنعام، وملَّكها للإنسان، ثم ذلّلها له للركوب، والأكل، والمنافع، والمشارب، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ *وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ *} [يس: 71 ـ 73]، ووجّه القرآن الكريم الإنسان إلى البحث في الكون، والتعرف على خواصّه وأسراره، والانتفاع به في الحياة.
فقال تعالى عن الثروة المائية: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *} [الأنعام: 141].
وقال تعالى عن الثروة الحيوانية: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ *وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [النحل: 5 ـ 8].
وقال تعالى عن الثروة الصناعية: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحديد: 25]. وقال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [سبأ: 10 ـ 11].
تكريم الإنسان بالعقل
فالعقل هو الأداة الكبرى للمعرفة، ويتفرّع عنه التفكير، والإرادة، والاختيار، وكسب العلوم؛ لذلك كان الإنسانُ مسؤولاً عمّا يصدر عنه، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء: 36]، وعدّ القرآن الكريم الإنسانَ الذي يعطل حواسه وعقله أضلّ من الأنعام والحيوان؛ لأن لديه وسائل المعرفة، لكنه عطلها عما خلقت له. قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ *} [الأنفال: 22].
وقد تعدّدت الآيات القرآنية صراحةً وإشارةً في مخاطبة العقل، ودعوته للتفكير، والنظر والبحث في الكون، وجعل التفكير فريضة إسلامية. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} [آل عمران: 190 ـ 191]. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *}[الروم: 24] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *}[البقرة: 164] وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *}[الرعد: 4]. وآيات كثيرة تثيرُ العقلَ وتحثّه، وتؤدي بالعقل إلى الإيمان بالله تعالى، واليقين بأنّه الخالق المدبر.
وبالمقابل إذا فشل العقل في أداء هذه الوظيفة فقد وجوده، وسلب الإنسان إنسانيته، وهذا ما أكّده القرآن الكريم بنفي العقل عن الكفار، وحكم عليهم بأنّهم لا يعقلون، وذلك لعدم الاستفادة من السمع والبصر للانتفاع من آيات الكون التي تنطِقُ بوجود الله تعالى، وتوجب طاعته، وعندئذٍ ينسلخ الكافر من إنسانيته، ويتساوى بالحيوان ثم ينحدر عنه، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *}[الفرقان: 43 ـ 44].
تكريم الإنسان بالأخلاق والفضائل
تظهر كرامة الإنسان والدعوة إلى تكريمه بدعوة الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة، وترغيب الفرد والمجتمع بمعالي الأمور، والتسامي عن المادة، والحض على الخير والفضيلة بين الناس؛ لذلك وصف القرآن الكريم نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأعلى أوسمةِ الفخار والثناء، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القلم: 4]. وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق».
فدعا الإسلامُ الناسَ جميعاً إلى البِرِّ، والرحمة، والإخاء، والمودة، والتعاون، والوفاق، والصدق، والإحسان، ووفاء الوعد، وأداء الأمانة، وتطهير القلب، وتخليصه من الشوائب، كما دعا إلى العدل والمسامحة والعفو، والمغفرة والصبر والثبات، ودعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحَثَّ على النصيحة وغير ذلك من مكارم الأخلاق والفضائل، والأخلاق الفاضلة تزين الإنسانيةَ، وتُعلي شأنها، وتُنسق بين أفرادها، وتصون العلاقات الجماعية، وتوجيهها إلى الخير والكمال، لتصوّر الحياة البشرية في أجمل صورها، وأحسن أحوالها، وتتجنّب الرذيلة، والفساد الخُلُقي والاجتماعي.
تكريم الإنسان في تشريع الأحكام
وهذا بابٌ واسعٌ يُغطي جميعَ الأحكام الشرعية، ويدفع لمعرفة العلة فيها والحكمة من تشريعها، ولذلك نضربُ بعض الأمثلة فقط كنماذج، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الروم: 21]. أي: تأنسوا {مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، أي: جنسكم {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي تأنسوا بها، فإنَّ المجانسة من دواعي التضامن والتعاون، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، أي: تواداً وتراحماً بعصمة الزواج بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم.: 6] أمر الله عزّ وجلّ في هذه الآية بأن يقي المؤمنون أنفسَهم النار بأفعالهم، وأهليهم بالنصح، والوعظ، والإرشاد، وهذا يتطلّب الالتزام التام بأحكام الشرع أمراً ونهياً، وترك المعاصي، وفعل الطاعات، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة، وحث الزوجة والأولاد على أداء الفرائض، واجتناب النواهي، ومراقبتهم المستمرة في ذلك. ومن ذلك: إرشاد القرآن الكريم إلى كتابة المداينة بين الأطراف، ثم أمر بالإشهاد عليها، وبيّن الحكمة والغاية من ذلك: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]. ثم قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. ثم بين تعالى الحكمة والغاية، فقال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].
كما أنّ الله حرّم الغشّ والاعتداء على أموال الآخرين، واغتصاب حقوقهم؛ لأن ذلك يخلّ بالكرامة السامية للطرفين، قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البقرة: 188]. وقال تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، لقد احترم الإسلام الإنسان، واعتبر إرادته أساساً في التعاقد، والتعامل حتى سبق تشريعات العالم في سلطان الإرادة العقدية، ثم اعتدّ بالإرادة الإنسانية في سائر التصرفات، وأبطل التصرفات التي تقع بالإكراه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عن أمتي الخَطَأُ والنسيانُ وما استُكْرِهُوا عليه»، وجمع الحديث بين الخطأ والنسيان، والإكراه؛ لأنّ الإرادةَ مفقودةٌ حقيقةً في هذه الحالات، كما حرّم الإسلام أكل مال الإنسان إلا عن طيب نفسه.
وفي تبيان الحكمة من تشريع العقوبات، فقد قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة: 179]. لقد حرص المشرّعُ الحكيم على التكريم الإنساني حتى في باب العقوبات، فقصد حفظ الدماء، والأنفس، والحياة عامة، وراعى الكرامة الإنسانية، فنصّ على الأشياء الممنوعة والمحرمة، وحذّر منها، ورهب من ارتكابها، فإن حصل الخلل، ووقع الخطأ، أو العدوان والإثم، شرع العقاب المناسبَ للجريمة بما لا يمسُّ كرامة الإنسان، فشرع القصاصَ، ومنع المُثلة والعدوان، واعتبر العقوبة تأديباً، وإصلاحاً وزجراً وردعاً، وقد ورد في النصوص الشرعية أدلةً كثيرةً في رعاية الجانب الإنساني مع المتهم، والمجرم، والجاني، سواء في معاملته، والتحقيق معه، أم في محاكمته، وتأمين حقوقه الإنسانية، ومنحه الحق في الدفاع عن نفسه، أم في معاقبته، وتنفيذ الحكم عليه بالسجن وغيره.
وبعد: فإنَّ القرآن الكريم أعطى الإنسان كرامته وقيمته الحقيقية، وأقرها وعرفها بالطريقة الصحيحة التي تربطه بالخالق وبالكون من حوله فيما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة. وإن جميع الأحكام الشرعية مُراعًى فيها الناحية الإنسانية؛ لأنَّها ما شرعت أصلاً إلا لمصلحته، وإن الشريعة الغرّاء راعت إنسانيةَ الإنسان بالأحكام الحكيمة العادلة المناسبة له قبل الولادة وبعدها، وسمت برعاية اليتيم والأطفال خاصة، ثم الإنسان عامة، طوال فترة الحياة، ثم رعت شؤونه عند الموت، والتجهيز، والغسيل، والتكفين، والصلاة عليه، ومواراته التراب، وعدم الاعتداء على الميت، أو إيذائه بكلمة، أو غيبة، أو بالجلوس على قبره، وهي أحكام إنسانية بكل ما في الكلمة من معنًى، مما يدركه الباحث في العلوم الشرعية والمتفقه في الفقه وأحكام الإسلام، كما يتجلّى لنا التكريم الإلهي للإنسان في كل صغيرة وكبيرة، وفي جميع شؤون الحياة وأطوار الإنسان؛ ليكون المكرَّم، والمفضَّل، والمقدَّم عند الله، والخليفة في الأرض.
========================================
المراجع:
* علي محمد الصلابي، الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2010، ط1، صفحة 89:81.
* محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام، صفحة 21-22-28-54.
محمد جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، صفحة 13/4772.
* وصبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 28/316،320.
لست ربوت