(بوشان العالمة، بوشان المقاومة، تستحق أن تكون في وضع أفضل مما هي عليه الآن، لكن مغرب ما بعد الاستقلال ظالم وجاحد).
ثقافة العقوق والجحود ملازمة لنا ومتأصلة فينا، فنستكثر على الواحد منا قيد حياته التفاتة ما، إحساسا ما، كلمة ما، ولا نردد في حقه بعض الكلام المجامل، إلا بعد أن نكون طمرناه تحت التراب، وعدنا إلى موائد العشاء، لنعدد بعض مناقبه بعدما نكون فرغنا من ازدراد الطعام، وتلا أحد الفقهاء دعوات الختم له بالرحمة والمغفرة والرضوان، وقد ننتظر أحيانا أربعين يوما إذا ما كان بيننا عاقلون، لنعيد بعض الطقوس في حضرة عائلة الفقيد وأصدقائه.
وفي مخيالنا الجمعي، فالمقاوم لا يمكن أن نعتبره مقاوما ونمنحه الصفة إياها، إلا إذا علمنا أنه أعدم رميا بالرصاص أو ملفوفا على حبل المشنقة، دون ذلك فصفة المقاوم نبقيها بين المزدوجات والأهلة والأظافر، كما هو الشأن بالنسبة لصفة المناضل، فهو ليس كذلك ولن نعتبره مناضلا، إلا إذا "تمرمد" في الساحات والميادين، وتم اعتقاله لآماد طويلة، وانقطع رزقه، وشردت عائلته. هكذا نحن.
وثقافة العقوق تلك لا تستهدف الإنسان فحسب، بل تطول المجال والأمكنة والأحياء والمعالم والمدارس ذات الرمزية التاريخية والتاريخ نفسه وكل شيء لا نرى حرجا أن ندوس عليه أو نبول عليه حقيقة أو مجازا كحيطان المآثر والنصب التذكارية إن وجدت.
في زمن الاستعمار ليس من السهل، أن يحمل شخص بضعة مسدسات في جرابه أو داخل ثنايا ملابسه، ويسافر بها 170 كلمترا، ليسلمها إلى قيادة المقاومة بالدار البيضاء. هي ولاشك مغامرة لن يقدم عليها إلا من كان مؤمنا بالقضية التي من أجلها قد يموت لا محالة.
في المقرات المتربة بالدوار الجديد بابن جرير، كنت كلما حضرت نشاطا ما لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لما كان في طيات اسمه ورمزه ورموزه ولونه الانتخابي وجريدته، كثير من الآمال والأحلام في صد الاستبداد واقتلاع أوتاده هنا وهناك عبر ربوع الوطن الأسير، أجد رجلا بجلبابه وطاقيته، يتحدث عن الديمقراطية والعدالة بصوت خافت يخرج من الحنجرة بصعوبة تعود لمشاكل في جهازه التنفسي. كان يبدو هو الأكبر سنا من بين الحضور. فكنت أستغرب هذا الأمر وأتساءل مع نفسي كيف لهذا الرجل المتقدم في السن والذي يعاني ويبذل كثيرا من الجهد ليبسط ما يريد من رأي ووجهة نظر فيما كان يجري ويدور في زمن تلك السبعينيات القاسية العنيفة إن على المستوى الوطني وإن على المستوى المحلي الذي كانت فيه الحركة الشعبية تضع رقاب الناس بين أيديها وتسوسهم بالمزاج والمال والعربدة بالتواطؤ المكشوف مع رجالات السلطة في ذلك الزمن الموغل في الاستبداد.
كان ذلك الرجل هو المرحوم السي صالح العصامي أحد مناضلي الاتحاد في زمنه الوطني أو في زمنه الاشتراكي مع القوات الشعبية، وأحد رجال المقاومة بمنطقة بوشان إلى جانب رفاقه السي لحسن زغلول المعروف ب" ولد الكابران" والسي محمد العربي ميدة والسي أحمد ياسين.
يتحدر من بوشان بالرحامنة على بعد أربعين كلمترا غرب ابن جرير. درس بمدرسة ابن يوسف بمراكش، وبعدها عمل معلما في أزيلال. اعتقلته سلطات الاستعمار سنة 1952، حيث أمضى ثلاثة شهور في السجن، طرد بعدها من سلك التعليم، وعاد لابن جرير بالدوار الجديد حيث فتح محلا كان يزاول به تجارة بعض المواد، فتم اعتقاله مرة أخرى لمدة عشرة أيام أودع فيها بسجن "بولمهارز" بمراكش في زمن الاستقلال بدعوى أنه لازال يتحوز بعض قطع السلاح. عانى داخل المعتقل من مضاعفات مرض السل الذي كان مصابا به، فأطلق سراحه في ساحة جامع الفنا، ثم عاد إلى ابن جرير ومنها إلى بلدته ببوشان.
سبق أن اشتغل عدل توثيق بأزيلال، إلا أنه لم يكمل عامه بعد أن قدم استقالته لرفضه ما كان أحد القضاة يطلبه منه قبل تحرير العقود.
كانت له علاقة وطيدة مع المقاوم لحسن زغلول (ولد الكابران) بحكم الجوار السكنى. قام السي صالح رفقة زغلول بجمع أموال لفائدة المقاومة، ولما ذهبا إلى البيضاء للقاء الفقيه البصري وتسليمها إياه، أرجعها إليهما، وقال لهما: ( نحن بحاجة إلى السلاح وليس إلى المال)، فعادا أدراجهما، وتمكنا من شراء خمسة مسدسات، تكلف السي صالح العصامي بما تحمله تلك المهمة من مخاطر بإيصالها إلى البصري.
انخرط السي العصامي مبكرا في حزب الاستقلال، وانضم بعد انشقاقه إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صحبة محمد العربي ميدة وأحمد ياسين ولحسن الوردي الذي كان أصغرهم سنا، وكان من مؤسسي أول مكتب فرع لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ومنه انضم إلى الاتحاد الاشتراكي الذي شارك معه في الانتخابات التي أجريت سنتة 1976 مرشحا للانتخابات الجماعية، كما ترشح عن نفس الدائرة الانتخابية لانتخابات 1983.
استمر مناضلا في صفوف الاتحاد الاشتراكي وحضر عددا من الأنشطة التي نظمت سواء بالمقر أو بدار الشباب، كحفل التكريم الذي أقيم بدار الشباب وحضره المناضل الفقيه البصري إلى جانب أصدقاء المرحوم السي صالح كمحمد العربي ميدة وأحمد ياسين.
في منتصف العشرية الأولى من الألفية الثالثة، فاضت روح السي صالح العصامي بمستشفى المامونية (ابن زهر) بمراكش.
لست ربوت