بينما كنت أسير في أزقة ابن جرير ،تائها في عبق امسها القريب، تغمرني الرغبة لأدرك ما حلّ بها من تحولات سوسيو اجتماعية ، لأتنقل بعد ذلك في شوارعه المكتظة بالعربات والسيارات والمارّة من كل حدبٍ وصوب، وصولاً إلى الشارع الرئيسي. كانت أحاديث الطّلاب ليست كالمعتاد ، فهذه الأيام الكل مشغول بالامتحانات وبالحديث عنها ، ولكني دهشتُ عندما رأيت أغلب الطلاب وقد استبدلوا الكتب بالمجلات الرياضية ، وسمعت بعضهم يناقشون النصر الذي حققه فريقهم وتمكنه من العودة من الى قسم الهواة ، حملت اندهاشي وتوجهت الى شارع الحي الجديد، فلعلني اجد ّ فئة قليلة من الطلاب!. ولكن لم تكن الحال هناك بأحسن منها هنا .
كانت المقاهي تعج برّوادها ، وبدا من السهل عليّ أنْ أميز أنَّ معظم الجمهور كان شباباً يافعاً في مقتبل العمر، بل إنّ من بينهم من أعرف أنهم شباب جامعيون يدرسون اختصاصات مختلفة ، ولسوء الحظ أدركت أن الغالبية الساحقة كانت من شباب الاحياء الهامشية اسحية القرع الحي الجديد ، رأيتهم يضعون أمامهم صرعة العصر ( ]"السبسي [، يتباهون بها وسيلة من وسائل إظهار الشخصية وإثبات الوجود .
حين نظرت حولي رأيت الجميع منشغلاً بذاك التلفاز الصغير الذي يبث عبر تلك الشاشة الواسعة المسقطة على مختلف نواحي المقهى مباراة الريال و البارصة. الجميع كان متحمساً والجميع ينادي بفوز فريقه المفضل،بينما توحدت آراء البعض ، لأن الريال فريق يُعقد عليه آمال عديدة ، لاسقاط خصمه الازلي بفضل حنكة مدربه الداهية وان احتلفت التوقعات وتباينت الاراء .
خرجت لأجد المسيرات قد ملأت الشوارع والتهبت الحناجر بالهتافات. فتذكرت أني ومنذ بضع سنوات كنت جزءاً من هذا المشهد عندما حقق المغرب الفوز على البرتغال، حيث أقمنا المسيرات وملأنا الشوارع بهتافاتنا، وأصبح خيري والتمومي وبودربالة وغيرهم رموزاً يحتدى بها وترفع صورها ؛ ولا أحد ينسى تلك الاحتفالات التي رافقت عودة أولئك اللاعبين مذ وطئت أقدامهم أرض الوطن حتى حطَّ بهم المطاف في مكان الإقامة ، ومازلت أذكرُ كيف كنتُ أتابعُ النتائج وكيف كان الشبابُ يرسلون أصواتهم لتشجيع الفريق الوطني ، وكيف أنَّ كل دولة انحاز شعبها لفريقهاا في هذا المونديال ، وربما تدخل من هو في موقع المسؤولية لدعم فريق بلاده ، رغم أنَّ المونديال لم يكن إلا برنامج مسابقات أخرج لنا فريقا فائزا . في تلك اللحظة تولدت في ذاكرتي حكايا وقصص (الحلايقي ) في ساحة جامع الربح بلغة المراكشيين او الفنى كما عرف لدى القرويين،عندما كان يبث في عقول الناس خرافات وأساطير، فتموج الساحة بأصوات الرجال المتفاعلين مع هذه الروايات البعيدة كل البعد عن منطق العقل وأسلوب الرّواية العلمية ، فالحلايقي اة الحكواتي كان وسيلة الإعلام الأقوى والأكثر تأثيراً في مجتمع تسوده الأمية والجهل والتخلف ، ومع ذلك ربما كان الحلايقي او الحكواتي احيانا يريد أن ينشر بعض الصفات الأخلاقية التي امتاز بها بعض أبطال حكاياته كعنترة بن شداد ، أو سيف بن ذي يزن ، أو غيرهما .
وحين أعود لأنظر اليوم إلى واقع الانفتاح الإعلامي، فنحن نستطيع أن نرى الحدث بكليته في لحظة حدوثه ، ولكننّا نبحث عن الحقيقة في قلب الحدث المصور فلا نكاد نعثر عليها . فمن تونس نقلت لنا وسائل الإعلام العربية وغير العربية تباشير ربيع عربي في صورة باقة اعلامية متميزة ، ولكن هذه الباقة تحمل وروداً أتت عليها الحشرات فلم تبق ولم تذر. وإلى الآن لم تتبن الكثير من حقائق هدا الربيع العربي على الرغم من تعدد ألوان الإعلام ؛ من اللاعلام المرئي والمسموع والإنترنت والأقمار الصناعية .
وفي خضم هذه التناقضات العظيمة التي أغرقنا فيها الإعلامُ بشكلٍ عام ، وهذه التكنولوجيا الباهرة ، كان لابّد للأسئلة أن تزدحم في رأسي ، وتبعث فيَّ عواصف من التساؤلات التي تحمّلُ نفسي عبء البحث عن إجاباتٍ منطقية لها!!..
كان فوز المغرب بالمباراة الرياضية أمراً جميلاً ، ، ولكن أين فوز عقولنا عندما تسلبنا التكنولوجيا الحديثة بمختلف معطياتها _ بدءاً من التلفاز والهاتف الجوال ووصولاً إلى الإنترنت _ ، قدرتنا على المحاكمة والتحليل وحقَّ الكتبِ علينا في قراءتها ؟!
تساءلتُ ما حال ثقافة طلبة الجامعات وتلاميد المدارس في ظلِّ هذه العولمة الثقافية ؟ وإلى متى سيبقى شبابنا يستهلكُ الثقافة والتكنولوجيا كما يستهلك البطاطس" و"الهامبرغر" والمشروبات الغازية !!، وهل أدتْ هذه العولمة إلى محو شخصيات شبابنا،وضياع هويتهم فأصبحتْ موضوعاتهم واهتماماتهم وتوجهاتهم واحدة ومتشابهة ؟؟ يفرحون ويرقصون على نغمات رولاندو ويبكون لاندحار ميسي وغوارديولا غير ابهين بالاف الجوعى والايتام والمشرردين من ابناء جلدتهم وصور اطفال حولها اسد سوريا الى اشلاء متناثرة ومنازل دكها باعثى اسلحة الدمار بمباركة حزب الله وصمت قوى الطغيان وتكالب دول الطوق نيابة عن اسرائيل وحماية لامنها القومي
هل يدركون بانهم يواجهون صعوباتٍ وتحديات ثقافية ؟؟ وهل لديهم ما يكفي من الوعي لمواجهة هذه الصعوبات وتلك التحديات في ظلِّ هذه العولمة التي تجتاحنا رغم إرادتنا و نحيلها أداةً تخدمُ ثقافتنا وهويتنا ؟؟ أم تُرانا أصبحنا أمام واقع جديد انطوى فيه العالم الأكبر في (قرية صغيرة) _ كما يقال _ وجرَّ معها صعوباتٍ وتحدياتٍ ثقافية تصعب مواجهتها ؟! .
كانتْ هذه من أكثر الأسئلة ، التي شغلتني و دفعتْ بي إلى محاولةٍ جادةٍ للبحثِ عن خيط نور ينيرُ لي قتامة الصور التي تداخلت في مخيلتي .وارهقت دهني ولاسيما انني جزء من هده الفئة احيا حياتها وامارس هواياتها واعيش همومها وقضاياها وتعنيني توحهاتها وافاقها
لست ربوت