(أمامك عرس طغاةو
مرثاة أم حزينة
وخلف الستائر، أقمارنا
بقايا عفونة
وزنزانتي ..موصدة !
ملونة يا كؤوس الطفولة
بطعم الكهولة)
"الكبير م/ د".
الزمن السبعيني اللافح اللاهب المستعر، الصاخب الهادر في الثانويات يوم كان للثانويات شأن، ويوم كان للجامعات شأن، ويوم كان للتلاميذ شأن، ويوم كان للمدرسة المغربية شأن يجري على لسان الدروس والعروض والمحاضرات والأندية السينمائية ومختلف الأنشطة الموازية التي يؤطرها أساتذة حامولون لقضية اسمها الوطن قبل أن يكونوا حاملين لأرقام للتأجير تمكنهم نهاية الشهر من استخلاص أجورهم لقاء ما يقومون به من واجب، ذلك الزمن السبعيني بكل آماله وأحلامه وانتصاراته وانكساراته، بعنفه وبطشه وافتراسه من طرف نظام مطلق مستبد بالسلطة والمال وكل وسائل التنشئة الاجتماعية من إذاعة وتلفزيون ومدارس ومساجد وفضاء عام، هو ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية بسنوات الجمر والرصاص التي راح ضحيتها آلاف من المواطنين رجالا ونساء، شبابا وشيوخا نتيجة حملات القمع والملاحقة والنفي والتعذيب الوحشي النفسي والجسدي، من أجل اجتثات كل تعبير مخالف، وكل رأي مخالف، وكل مطلب مشروع، وكل حلم مشروع في بناء وطن مختلف، وذلك من أجل خلق حالة من الاستسلام الجماعي لتلك القوة الشبيبية الممانعة التي كانت في ذلك الزمن، واحدة من محركات الحركة النضالية في المغرب.
في ابن جرير التي تعنينا فيما يرتبط بالسيدة خديجة البخاري شقيقة المرحوم المناضل الحقوقي والسياسي السي البشير البخاري، فقد عرفت حالات محدودة من الاعتقال السياسي في إطار حركة اليسار الجديد، والتي كانت تعبيراته هي "منظمة إلى الأمام" و" لنخدم الشعب" و" منظمة 23 مارس" التي ستتحول فيما بعد إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي اندمجت مع مكونات يسارية أخرى هي إن شئنا امتداد للمنظمات سالفة الذكر وأنتجت ما يسمى اليوم بالحزب الاشتراكي الموحد. وهذه الحالات المعزولة تتعلق بالمرحوم االسي محمد الموفق (البركة) ذي القرابة مع "آل الموفق"، ومناضل آخر أخمن أنه يتحدر من أحد الدواوير المجاورة ل" سبت لبريكيين" يقال له عبد الكريم الدرقاوي، بالإضافة طبعا إلى السيدة خديجة البخاري التي كانت ساعتها شابة في مقتبل العمر، تفيض حماسا ونشاطا وحيوية إلى جانب عديد من رفيقاتها ورفاقها الذين ارتبطوا في مشوارهن الدراسي بالثانويات بالنقابة الوطنية للتلاميذ (ولعل كثيرا من جيل اليوم، لا يعلم أنه كان للتلاميذ نقابة يدافعون من خلالها عن حقوقهم ).
حين انطلقت حملة القمع الشرس، كانت خديجة قد وقعت في حباله ضمن المجموعة الثانية التي ضمت ست مناضلات يساريات هن: لطيفة الجبابدي ومارية الزويني وبودا أنكية ووداد البواب وفاطنة البيه. هذه المجموعة هي التي تلت المجموعة النسائية الأولى التي كان من معتقلاتها فاطمة عكاشة وربيعة لفتوح إضافة إلى الشهيدة سعيدة المنبهي التي استشهدت يوم 11 دجنبر 1977بعد الإضراب الشهير عن الطعام الذي خاضه مجموع معتقلي حركة اليسار الذين سموا بمجموعة 139، وذلك من أجل فرض حقوق المعتقل السياسي
أمضت المناضلة خديجة فترات رهيبة من التعذيب الجسدي والنفسي في المعتقل السري سيء الذكر في درب مولاي الشريف حيث سماها الجلادون الغلاظ القساة تمويها (عبد الله )، وقد كثفت رفيقتها فاطنة البيه كل تلك المعاناة والجرائم التي تعرضت لها شابات في مقتبل العمر في روايتها التي تنتمي لأدب السجون والمعنونة ب " حديث العتمة" والتي تقول في بعض من فقراتها: (“قضينا أربعة أشهر بهذا المعتقل السري، كنا سبع فتيات من بين أزيد من مائة معتقل، كنا ننام في الممر، بينما ينام الذكور داخل القاعات. وللتمويه على وجود إناث داخل المعتقل، كان ينادى علينا بأسماء الذكور، فكنت أدعى سعيد أو الطويل أو الدكالي” ص123 ) وتتابع بنفس الحرقة والألم: (جردوني من اسمي و أسموني رشيد” قالت وداد: .”مع ملاحظة أن الحراس عينة من البشر، تنعدم لديهم أدنى المشاعر الإنسانية، قال أحدهم مرة لصاحبه، أرأيت هؤلاء الفتيات، يردن أن يدخلن عالم السياسة، وأن يقمن بأعمال الرجال، اختر معي أسماء رجال لهن. وهكذا اختاروا لكل واحدة منا اسم رجل” ص115).
درست خديجة البخاري بكوليج بنكرير، ومنه انتقلت إلى ثانوية محمد الخامس بمراكش حيث نالت شهادة الباكالوريا سنة 1975/ 1976، ثم تابعت دراستها الجامعية بالرباط شعبة الفلسفة (تخصص علم الاجتماع)، إلا أن كماشة القمع اختطفتها سنة 1977 لتلقي بها إلى السراديب السرية والمعتقلات التي كان آخرها سجن مكناس الذي اقترنت خلال اعتقالها بزوجها الفقيد السي محمد الكلعي. بعد فترة السجن ستتابع دراستها حيث حصلت على الإجازة، والتحقت بشكل متأخر بمركز تكوين المعلمين والمعلمات الذي كان وقتها مفتوحا في وجه الطلبة المجازين. بعد تخرجها اشتغلت أستاذة للتعليم الابتدائي بالدار البيضاء إلى أن أحيلت على التقاعد.
ستصاب السيدة خديجة منذ بضع سنوات خلت في وفاة رفيق دربها الفقيد السي محمد الكلعي، وقبل أسابيع منصرمة، ستفجع في وفاة شقيقها المناضل الفقيد السي البشير البخاري الذي فجعت فيه ابن جرير بكل أطيافها.
قبل اعتقالها، كانت خديجة زمن العنفوان الشبيبي الماركسي اللينيني، تمضي بعض فترات الصيف في الدوار، وتنخرط فيما ينخرط فيه الرجال من أعمال الحصاد وما يدخل في عداده بعد أن تكون لبست نفس لباسهم البروليتاري، وكانت بحماسها ذلك، لا تتردد في فتح النقاش مع بعض رجالات الدوار ومنهم شقيقها المرحوم السي البشير، والمرحوم السي عبيدة المستعين الذي فاجأ ذات يوم الصديق عبد الله نجباح الذي كان ساعتها في البدايات الأولى لوعيه السياسي أي خلال الموسم الدراسي 75/ 76، كتاب لينين " ما العمل" وقال له: هذا الكتاب هدية من خديجة البخاري إليك.
سلاما لخديجة يوم أدخلها النظام المستبد إلى عتمات الظلام والتعذيب والقهر..سلاما لها امرأة من زمن مر عاصف دموي ..سلاما لها فيما ترك رفيق الدرب الزوج الراحل وفيما ترك رفيق الصلب الراحل السي البشير...سلاما لها لما تبقى من بذرة الحب من ذلك الزمن الدافئ/ القاسي: عمر وغسان.
(في الصورة لطيفة الجبابدي بالقميص الرمادي، وفاطنة البيه بالأصفر فيما تعذر علي الحصول على صورة للسيدة خديجة).
لست ربوت