ليس القصد من استحضار ذاكرة بعض الشباب اليساري الذي كان ينشط في المنظمات الماركسية اللينينية، هو التصفيف الكرونولوجي للأشخاص حسب أسبقية الانتماء لهذا التنظيم السري أو ذاك، ولا حسب أسبقية الاعتقال لهذا المناضل أوذاك. بل القصد يأتي في سياق ترميم ذاكرة ابن جرير السياسية والثقافية والنقابية والجمعوية والمجالية والرياضية، ونفض الغبار عن عديد من الوجوه التي ساهمت بهذا القدر أو ذاك من جانب اهتمامها، ونفض الغبار عن آخرين ممن طمرهم النسيان، أو لا يعرفهم كثير من الجيل القديم أو الجديد على السواء، أو أحيانا يكون قد عرفهم وسمع عنهم ولكن بشيء من الالتباس والغموض وأحيانا بشيء من التحريف المقصود أو غير المقصود، وهو الغالب الأعم.
إذا كان لجيل اليوم اهتماماته الخاصة التي فرضتها التحولات المجتمعية وقيمها وأنماط عيشها وتفكيرها، كما هو الشأن في باقي المجتمعات التي لا يسير تاريخها بخط مستقيم لا عوج فيه، فإن الجيل الذي ينتمي إليه السي محمد الموفق، هو جيل تأثر أيضا بما كان يجري فيه ويتفاعل حوله في محيطه المحلي الخاص أو في محيطه الوطني والدولي. ولعل فضاءات التنشئة الاجتماعية (دور الشباب ـ الأندية السينمائية ـ مسرح الهواة وغيرها ) والتي استوطنها اليسار وجعلها ندا لما كان المخزن يجاهد بلا هوادة من أجل تسييده من ثقافة المحافظة والانحطاط، إضافة إلى المدرسة المغربية آنذاك بكل الفاعلين فيها، والتي كانت عاملا أساسيا ساهم في بلورة فكر الشباب، والانتقال بهم من مرحلة العفوية والتمثلات الشعبية البسيطة للمجتمع والدولة، إلى مرحلة من الاستقلال الفكري وامتلاك بعض أدوات التحليل والمساءلة والنقد لطبيعة السلطة السياسية والثقافية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع من طرف من يمسكها، لتبيث النفوذ وإدامة الاستبداد المطلق في ذلك الزمن الذي أعقب الاستقلال الناقص إلى اليوم.
المرحوم السي محمد الموفق الذي يتحدر من مراجع بدوية بدوار "ولاد السي بوحيى" (جماعة سبت لبريكيين) بمنطقة الرحامنة وتحديدا على بعد حوالي عشرين كلمترا غرب ابن جرير، درس بكوليج ابن جرير، ومنه انتقل إلى مراكش، حيث تابع دراسته الثانوية هناك. ذلك الهناك الذي كان صخب زمنه الشبيبي الثائر، يتعالى من ثانويات محمد الخامس وأبي العباس السبتي وغيرهما، ذلك الهناك الذي سيحتك به السي محمد، وسيدخله إلى عوالم الحلم بمغرب آخر غير مغرب الاستبداد والاستغلال الذي جثا على البلاد وأمسك رقاب أهلها وحاول تكميم أفواههم ليسوس البلد بالنزوات والرغبات الفردية الأرضية والسماوية.
انخرط السي محمد بشكل مبكر في التنظيم السري 23 مارس، ونشط فيه بنفس الحماس الذي نشط فيه جيله، إلى أن أذنت ساعة الحصاد الذي حاول فيها المخزن اجتثات سنابل الحركة الماركسية اللينينية من جذورها في حملة القمع والملاحقة والاختطاف واسعة النطاق، وكان السي محمد أحد ضحاياها، حيث اعتقل سنة 1974، وتم الزج به أولا في كوميسارية جامع الفنا بمراكش التي قضى في ضيافتها شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا من التعذيب، قبل أن يتم نقله إلى كوميسارية درب مولاي الشريف التي تحولت إلى معتقل سري رهيب تداس فيه كرامة الداخل إليه بطرق إجرامية بشعة، الغاية منها تدمير الإنسان وما يوجد داخل ذلك الإنسان من أنفة وكبرياء وشعور إنساني. هناك في الدرب الملعون، قضى السي محمد ثمانية اشهر كاملة تعرض فيها ورفاقه لمما لا يخطر على بال جيل اليوم من ممارسات همجية غاية في الفظاعة والوحشية، والتي كان هدفا لها عدد كبير من الشباب الذين كان أغلبهم في مقتبل العمر.
وخلال تلك المدة بالمعتقل سيء الذكر، وعلى الرغم مما كابده السي محمد من معاناة تفوق ما يحتمله البشر من كل ألوان التعذيب والإهانة والقيد الملازم لليدين والعصابة الملازمة للعينين الجوع والأوساخ وغير ذلك مما دونه بعض المناضلين في كتاباتهم التي ينبغي أن تقرأ وتعاد قراءتها، لأخد العبر منها وحتى يعرف شباب اليوم أن ما ينعمون فيه اليوم من بعض هوامش حرية التعبير والرأي، لم يأت "فابور" أو هبة من المخزن المستبد.
لم يعترف السي محمد بأي مناضل أثناء التحقيق والتعذيب، ولم يتسبب في اعتقال أي أحد من رفاقه، ما يؤكد تحمل كثير من المناضلين لكل الألم على ألا يشوا برفاقهم، رغم أن المسألة تتعلق بطبيعة كل شخص ودرجة تحمله اعتبارا للحظات الضعف البشري التي تختلف وقد تصيب الإنسان في بعض المواقف التي تهتز فيها طاقة التحمل، والتي لا يمكن الاعتداد بها وتصنيفها ضمن دائرة الخيانة وما شابهها من توصيفات قاسية أحيانا.
في سنة 1977 ،حوكم السي محمد في المحاكمة الشهيرة المعروفة بقضية "السرفاتي ومن معه"، ونال نصيبه من تلك القرون التي وزعها قضاء الحسن الثاني على المناضلين، حيث حكم عليه بعشرين سنة سجنا نافذا، قضى منها عشر سنوات بالسجن المركزي بالقنيطرة إلى أن تم الإفراج عنه سنة 1984.
وحتى وإن كانت حياة السجن في بداياتها فيها بعض القسوة والحرمان من أجل المزيد من الإيغال في تدمير المعتقلين، فإن المعاناة تزداد كثيرا بالنسبة لمن هم خارج السجن من أهل وعشيرة واقرباء وأسرة على وجه الخصوص وأمهات على وجه التحديد، واللواتي تحملن وصبرن وقاومن وتحدين كل الصعاب من أجل أن يكن قرب فلذات الكبد المحتجزين وراء القضبان لمدد ليست بالهينة. فكانت والدته الأم حادة (التي توفيت سنة 2015)، واحدة من أولئك الأمهات اللواتي ظللن يرابضن تحت المطر والقر والصهد والحر، أمام السجون لتلبية بما يشتعل داخل القلب من حب وآلام وآمال في انتظار أن ينعم أبناؤهن بتلك الحرية الموقوفة التنفيذ داخل السجن العمومي الكبير.
بعد الإفراج عنه سنة 1984، سيلتحق بعمله الأصلي ككاتب للضبط بالمحكمة. وبعد استكمال دراسته الجامعية، التحق للعمل بإدارة الجمارك، وانتخب لثلاث ولايات رئيسا لجمعية الأعمال الاجتماعية لنفس الإدارة، واستمر في عمله هناك ومسؤوليته في الجمعية إلى أن توفي في اليوم الثالث من شهر دجنبر سنة 2013.
سياسيا بعد خروجه من السجن، التحق بمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي ظل مناضلا في صفوفها إلى غاية الانشقاق سنة 1996، حيث اختار الاصطفاف جانب المجموعة التي صوتت على دستور 13 شتنبر 1996 ، و"أسست" حزبا آخر سمي بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي عرف اختصارا ب (PSD)، والذي سيحل بعد ذلك نفسه وسيذوب في الاتحاد الاشتراكي بعد عملية سميت "اندماجا"، وسينتخب السي محمد عضوا بالمجلس الوطني لذات الحزب.
سلاما له يوم انفتحت عيناه على مرابع دوار ولاد السي بوحيى، وسلاما له يوم ساهم بما يملك من طاقة الجسد والروح في سبيل هذا الوطن، وسلاما له يوم "أزهرت شجرة الحديد" في سجنه وسجن رفاقه ورفيقاته، سلاما لوالده ووالدته "مي حادة"، سلاما لزوجته عزيزة بوسحاقي وأبنائه سعد وشيماء وأنس. سلاما لكل الراحلين، سلاما لكل الذين لازالوا يناضلون من أجل ذلك المغرب المختلف الديمقراطي الآمن المطمئن الذي يتسع للجميع.
(الصورة الأولى يظهر فيها الفقيد السي محمد البركة إلى جانب الرفيق الشهيد عبد السلام المؤذن الذي أشرف على تأطير أول عرض سياسي لفرع منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بابن جرير بعد تأسيسه في ماي 1992، والصورة الثانية يظهر فيها السي محمد الموفق (الثاني بالقميص الأزرق من يسار الصورة في الصف الأوسط) مع مجموعة من المعتقلين السياسيين اليساريين في السجن المركزي بالقنيطرة)
لست ربوت