( السيسوان ومن معه، ليس القصد منها تفضيلا للرجل على الآخرين بأية صفة تفضيل كانت، فقد نقول أيضا ولد شكيل ومن معه، أو المخلوفي ومن معه، أو المحجوب ومن معه أو الحركاني ومن معه، ولكن القصد هو فقط من أجل الاختصار فقط مادام الأمر يتعلق بمجموعة قد تشترك في كثير من الخصائص، وتختلف في بعض الجزئيات المتعلقة بالطباع والمزاج وبالجوانب التقنية ذات الصلة بأهل الاختصاص).
إذا كانت نظرة المجتمع فيما سلف من زمن، تنظر بعيون فيها قليل من الرضا عمن "يحترفون" "المشيخة" أو "تشياخت" عند النساء بشكل فظيع وعند الرجال بدرجة أقل فظاعة، فإننا ونحن على بعد مسافة من الزمن مقدارها حوالي نصف قرن، فمن اللازم أن تتغير رؤيتنا وتمثلاتنا التي ورثناها من تلك الثقافة الشائعة التي كانت تصنف أولئك المواطنين فيما لا ينبغي أن تصنف فيه تلك الفئة العاملة النشيطة التي لا تختلف عن باقي من "يحترفون" الغناء العصري أو التراثي بكل ألوانه وبكل لهجاته، أو الغربي الوافد من بلدان أخرى وثقافات أخرى. وعليه لا ينبغي أن تلبسنا السكيزوفرينيا، فنعشق الأغاني الشعبية بعيوطها ومختلف أنغامها ومصادرها وآهاتها وترنحاتها، وفي نفس الوقت نتعامل بحذر وبتوجس وبتحفظ وأحيانا بتنقيص ساقط تجاه من يمتعنا بذلك الإبداع الذي لن يفنى ولن يموت، كما تفنى كثير من أغاني اليوم التي تشبه عبوات المشروبات الغازية التي يلقى بها إلى القمامة بمجرد الانتهاء منها. الفن الشعبي والفنانون الشعبيون خالدون، وليسوا بضاعة ترمى ويمكن التخلص منها: Jetable..
كل الفخر والمجد والاعتزاز بكل من حمل الكمنجة وكل من حمل البندير وكل من حملت الطعيريجة الصغيرة وكل من غنت ورقصت من أجل كسب الرزق الحلال ومن أجل إسعاد الناس، ومن أجل ضخ الحياة ليستمر ذلك التراث المغربي الأصيل تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.
ولعل تلك التمثلات الخاطئة، يتأثر بها الأبناء الصغار لأولئك الفنانين وحتى أقاربهم الكبار أيضا، وتسبب لهم بعض الإحراج مع زملائهم في الشارع والمدرسة كما حدث مع أحد أبناء السيسوان أو ابن أخيه لا أذكر، لما كان تلميذا يدرس عندي في دوار المرابطين القريب من دوار لعريصة الذي كان يسكنه سيسوان الأب، وهو الشأن ذاته حدث مع الطفل الذي كان يعيش مع المرحوم الغنامي وكان يدرس عندي بمدرسة افريقيا للبنين، وأيضا مع ابن عمر الحسوني بنفس المدرسة.
شكلت لي ذاكرة المجال الفني الشعبي بابن جرير منذ مدة طويلة، حاجزا حال بيني وبين اختراق عوالمه، واستحضار تفاصيله بأشخاصه وسيرهم الذاتية ومراجعهم الحياتية ومساراتهم منذ الستينيات على الأقل. وبقدر ما كنت مترددا في استحضار ذاكرتهم كما كنت أشدد دوما في محادثاتي اليومية مع الصديق العزيز عبد العالي بلقايد، بقدر ما كانت تنتابني الحسرة والأسف، لأنني كنت أجد نفسي عاجزا عن الكتابة، وذلك لمبررين: واحد شخصي، لأنني خلال عقد السبعينيات والثمانينيات، لم أكن أولي أي انتباه وأي اعتبار لذلك اللون الغنائي الشعبي، لأن ميولات الذوق عندي وعند كثير من جيلي كانت مشدودة ساعتها للظاهرة الغيوانية أولا وللأغنية العصرية الشرقية و المغربية ثانيا وللأغاني التي كنا نصطلح عليها ب"الملتزمة" ثالثا، والتي كانت تتجسد بالأساس فيما كان يبدعه مارسيل خليفة وأميمة الخليل والشيخ الإمام الضرير/ المبصر، وما شابه ذلك من أغاني الثورة الفلسطينية ممثلة في فرقة العاشقين وغيرها. ما جعل كل مساحة القلب والوجدان خالية من أي حيز لأغاني الأهالي وباقي الفنون الطربية الأخرى من أندلسي وأطلسي أمازيغي وحساني وغيرها، والتي لم ندرك قيمتها وجماليتها وعمقها الإنساني إلا بشكل متأخر. والمبرر الثاني أعزوه لعدم تمكني من الحصول على ما يمكن البناء عليه كنبش يمتلك الحد الأدنى من المعلومات، وذلك نظرا لتفرق السبل بكثير من أولئك الفنانين الذين منهم من رحل عن هذه الدنيا ومنهم من أرغمته ظروف المرض والعجز البدني على ملازمة بيته، وآخرون غادروا إلى وجهات أخرى. إضافة إلى كوني لست في عين المكان بابن جرير، لأبحث وأتقصى المعلومات مباشرة من مصادرها المباشرة أو عليمة الاطلاع، حتى وإن كانت وسائل الاتصال متوفرة، إلا أنها لا تفي بكل الغرض المطلوب.
في سوق الغناء الشعبي تلك في ذلك الزمن البنكريري البسيط، لم يكن الغنامي وحده حتى ولو كان له اسم صنعته الحرفة وأشياء أخرى، بل كان هناك "شيوخ" منتشرون في البلدة لهم زبناؤهم وعشاقهم و"مريدوهم"، الذين يتغنون بخصوصياتهم التي تختلف من هذا الفنان إلى ذلك في طريقة العزف بالميمنة أو الميسرة وبطريقة الوقوف على "الركح" وباللباس وبقسمات الوجه وحركات الأطراف وترنح الرأس حين تصل ذروة التفاعل مع الجرة من جهة ومع الكلام المرصع من جهة أخرى أقصى درجاتها.
ولاستحضار أسمائهم على الأقل في هذه الذاكرة المشتركة، نذكر منهم: السيسوان الذي يتحدر من دوار لعريصة جماعة أولاد حسون، وولد شكيل من نواحي سيدي بوعثمان وقد استقر بشايب عينو، وكبورالحفيان يقطن بلفريقية وعمر حميدة بلفريقية، والمحجوب يتحدر هو الآخر من ولاد غنام وسكن دوار الجديد قبل أن ينتقل إلى لفريقية، والمخلوفي من المخاليف دائرة سيدي بوعثمان، وعمر الحسوني سكن هو الآخر لفريقية،، ورحال الجبالي سكن بدوار الجدي،د ولخويل سكن لفريقية ، دون أن ننسى اسحيتة عازف الكنبري الذي كان يغني وحيدا صحبة آلة الكنبري في سوق "الثلاث"، والذي كان هو الآخر مستقرا ب"لفريقية"، وآخرين ربما سقطوا سهوا ولاشك سيستحضرهم الأصدقاء المتتبعون. وقد رافق أولئك الفنانين الشيوخ، عدد من الشيخات النساء اللواتي وصمن تاريخ الغناء الشعبي ولا حاجة لإعادة ذكر أسمائهن مادامت موشومة في ذاكرة الجيل الذي تعرف عليهن عن قرب، واستمتع بما كان ساعتها آهاتٍ تحاكي أحيانا العشق الصوفي.
في تلك الأماسي الصيفية اللطيفة التي تعقب الحصاد وأيام الخير الفلاحي، حيث يتوج الموسم بالأفراح والليالي الملاح، كانت الأعراس خالية من مظاهر التصنع التي نشهدها اليوم، وكان كل شيء على سجيته من شراء "دهاز" الخطوبة من سوق الثلاث وتنقية حبوب القمح وتجهيز باقي المستلزمات، إلى صبيحة خروج النسوة في الصباحات المبكرة بذلك السروال المضمخ بتلك القطرات المقدسة من دم "الشرف" وهن ينشدن أ صباح صباح ماليه، ألمحة والسر عليه" وهكا يكونو بنات الرجال محضية، هكا يكونو مزوقات الشاشية). في تلك الأماسي كان السيسوان ومن معه، يملؤون سماء ابن جرير الواطئة، أغنيات لعرس في الزاوية مثلا، فتصل أصداؤه إلى دوار الجديد، أو في القشلة فيتردد رجع صداه في الشعيبات. سيسوان ومن معه كانوا يمثلون فناني القاع والهوامش التي لا تحتاج أعراس أصحابها إلى دعوات مخصوصة . فقط كان يكفي الناسَ أن يسمعوا الخيط الأول للجرة حتى يسرعوا إلى مكان العرس، ويتم استقبالهم بحفاوة ودعوتهم ل"لفراجة" إن أدركوا العشاء، تعشوا، وإن لم يدركوه، قالوا: باركا حنا جينا غير نتفرجو فالسيسوان أو في أحد ممن معه.
وبالعودة إلى مستقر هؤلاء الفنانين البسطاء بشكل عام، نجد غالبيتهم قد استقرت بدوار/ حي لفريقية، التي استوطنها كل شيء من الروانضية والقمارة والشفارة والرياضيين والجمعويين والسياسيين والمهتمين بالثقافة والفكر والمتمردين وغير ذلك من مختلف الاهتمامات.
ولعل ما يحز في النفس، هو المآل الذي انتهى إليه بعضهم كالشيخ كبور، الذي لم تعد الكمنجة تفيده حتى في الحصول على ثمن خبز وسكر ودقيق، ما اضطره إلى بيع السجائر بالتقسيط متجولا في القشلة وهو في أرذل العمر، وقد يكون حتى ذلك لم يعد متاحا بعد أن لم يعد قادرا على الخروج إلى الشارع. وقد يكون أيضا من يشبهونه في المصير سواء الذي رحلوا أو الذين لازالوا على قيد الحياة.
ولد شكيل ومن معه...كبور ومن معه...المحجوب ومن معه...السيسوان ومن معه وغيرهم من هواة الكمنجة، هم صورة لذلك الزمن البنكريري الفني بلا مساحيق ولا مكبرات الصوت وبلا لباس موحد وبلا أفيشات الإعلانات وبلا صور ملونة...هم صورة لزمننا المنسي وسط صخب الزعيق الذي أصبح يدر المال الوفير، الذي لا يظفر منه شاعر أو روائي أو مؤرخ أو باحث أو أستاذ أو طبيب أوممرض في الواجهة الأمامية لمواجهة العدو كورونا، مقدار قطمير.
على أرواح سيسوان ومن معه من الموتى رجالا ونساء كل الرحمات، وعلى أرواح من تبقى ومن معه من الأحياء رجالا ونساء كل الاحترام والتقدير.
( الصورة بعدسة الصديق عاطف الرقيبة، ويظهر فيها أمام الشيخ المرحوم المحجوب في حفل تكريم أقامه المجلس الحضري لابن جرير لفائدة المرحوم عبد الرحمان الغنامي وزوجته السيدة خدوج الدخيسي والمرحوم المحوب وذلك سنة 2013 خلال الولاية السابقة للمجلس).
لست ربوت