
(آش كالو اليوم ف لخبار).

"سموني وحش الفلا
واسمي سيف ذو يزن
رموني أهلي للخلا
وحماني الخالق الرحمان"
(من مقدمة السلسلة الإذاعية "الأزلية" بصوت الممثل الكبير الفقيد محمد حسن الجندي، والتي كانت تستأثر بانتباهنا في ذلك الزمن السبعيني البنكريري).
لا يمكن تحديد أي تاريخ لامتلاك الراديو في ابن جرير، اعتبارا لكون البث الإذاعي في المغرب يعود إلى سنة 1928على عهد الحماية، فالراجح أنه سيكون مرتبطا ببعض الأسر الميسورة التي كان بمستطاعها امتلاك ما يدخل في نطاق غالبية الأجهزة إن لم يكن كلها، كالهاتف (التلفون) والتلفزيون الذي لم يبدأ أول بث له بالمغرب إلا سنة 1962 وذلك تزامنا مع الثالث مارس الذي يصادف عيد عرش الحسن الثاني.
في ابن جرير التي نعرف بعضا من تفاصيلها زمن الستينيات والسبعينيات، صارت أجهزة الراديو مشاعة وفي متناول غالبية الناس، كما صارت أشكاله وأحجامه متنوعة عكس تلك الصناديق الخشبية القديمة التي كانت في حجم بعض أجهزة التلفاز، والتي اعتبرت حين دخلت بعض البلدان العربية أنها رجس من أعمال الشيطان.
كان شراء جهاز راديو في ذلك الوقت، إنجازا عظيما يستحق أن تجتمع بعض نسوة المحيط القريب المجاور، ويشتركن في قالب سكر أو اثنين ويحملنه للسيدة التي أنعم الله والزوج عليها بذلك الكائن الصغير الذي تخرج من داخله أصوات عفاريت مسلمة قزمية لا تُرى تقرأ القرآن، وعفاريت نصرانية ترقص وتغني بأصوات "منكرة"، وبجوارهما جرات آلات موسيقية أمازيغية.
لم يكن بإمكان السواد الأعظم من ساكنة ابن جرير القروية وقتها، مشاهدة أية وسيلة مرئية خارج بعض النطاق العمومي لبعض المقاهي القديمة التي كانت تتوفر على أجهزة التلفاز بالابيض والأسود ك( مقهى بن قدور وقهوة الزيات قرب السوق وقهوة السي محمد الزعراوي بدرب البشريين وقهوة العياشي ب لفريقية إلى جانب قهوة السي عباس دون أن ننسى طبعا مقاهي القشلة كقهوة الهاشمي وقهوة الحاج قدور وقهوة الطلبة ) كما أن قافلة الإشهار التي كانت تفد على ابن جرير في أحيان نادرة ومتباعدة، لإشهار منتوجها (زيت كريسطال) من جهة، وتتويجه بتقديم عرض سينمائي قد يكون شريطا من أشرطة التسلية والأكشن والكرة من جهة أخرى، كانت كوة يطل منها سكان ابن جرير على عالم الإعلام المرئي.
فكان الراديو الأنيس والرفيق والصاحب الذي لا يستقيم المجمع العائلي إلا في حضوره، خاصة من خلال السلسلات المسرحية المباشرة لفرقة الإذاعة على عهد الممثلين محمود حسن الجندي وأحمد حسن البصري وحبيبة المذكوري والهاشمي بنعمرو خاصة في ما كان يحظى بالمتابعة اليومية ك"الأزلية" و"العنترية" و"المعلم عزوز"، أو فيما كان يقدمه المرحوم القدميري مع المعلم قيبو ومسرحيات وسكيتشات عبد الرؤوف التي كانت تستهوي الكبار والصغار.
وكانت الساعة الناطقة"عند الإشارة تكون الساعة"، لحظة تشد انتباه جميع الفئات لمتابعة نشرات الأخبار مع لطيفة القاضي ومحمد بنددوش الوجهين الإعلاميين اللذين كان يعرفهما آباؤنا وأمهاتنا، الذين يعرفون أيضا الشيخ محمد المكي الناصري وما يقدمه من تفسير للقرآن في الصباح المبكر أو عند المساء حين نكون بصدد تحضير تلك القهوة المدقوقة المنسمة بالزنجبيل لنتناولها للمجة ما قبل غروب الشمس.
ولارتباطنا الشديد بالراديو، فقد كنا جميعنا ومعنا آباؤنا وأمهاتنا نعرف أسماء كثير من المطربين والمطربات المغاربة ونحفظ بعض أغانيهم كالفنان الشعبي المراكشي حميد الزاهر مع (لالة فاطمة ولالة زهيرو ) ومحمد الإدريسي مع (عندي بدوية، عندي في بيتي بلا زواق اللي فيها، مضوية علي وعل المكان) و(محجوبة آش هاد الشي اللي درتي، درتي الصاية فوك الركبة مقزبة أوعدي، كتكلسي وتنوضي معدبة أوعدي، آش هاد الموضة زعما مواتياك كولي لي، أو تسحليت الغربي عاجبك كول لي )، ولم تغب الأغاني الشرقية عن أسماع أمهاتنا فهن يعرفن الصبوحة "صباح" والقديسة فيروز التي يقتتحن بها أصباحهن كل يوم وهن يحضرن لنا فطور الصباح قبل انطلاقنا إلى المدرسة، بالإضافة إلى فريد الأطرش و"مي كلثوم" كما كانوا ينادونها، وفهد بلان مع ( تحت التفاحة و"جس الطبيب لي نبضي، فقلت له يا سيدي إن التألم في كبدي، أدرك يدي يا سيدي أدرك يدي) والرائعة الجميلة مع محمد العزابي (الأولة آه على القلب اللي ما تهناش، والثانية آه على اللي صابر بس بختو ما جاش). إلا أن ما كان يزعجهم ويزعجنا، هو تلك الوصلات من الطرب الأندلسي التي كانت تأتينا رتيبة مملة بعد الظهيرة، وكان الناس ينادون الأجواق العظيمة للرياس الكبار ( محمد البريهي وعبد الكريم الرايس ومحمد العربي التمسماني) ب" مالين غريبة" أو "صحاب كسكسو".
ولعل ما كان يجذبنا للراديو في ذلك الزمن وتلك الفترة من عمرنا، هي الرياضة وكرة القدم التي لم نكن نجد سبيلا لمشاهدتها على التلفاز باستثناء مباريات المنتخب داخل المغرب أما خارجه في افريقيا باستثناء دول شمالها، فكان غير ممكن بالمرة. وكنا نسرع الخطو في أوقات الدراسة بعد خروجنا من المدرسة في الثانية عشرة، لندرك برنامج "الحياة الرياضية" التي لم يكن تتجاوز مدته خمس عشرة دقيقة. ولا نجد طمأنينتنا وراحتنا إلا يوم الأحد ونحن نتابع برنامج الأحد الرياضي الذي كان ينقل بالمباشر مباريات البطولة الوطنية، ويسهر على وصفها ومتابعتها صحفيون لازالوا موشومين في ذاكرتنا من أمثال عزيز بلغازي ونورالدين كديرة ومحمد الزوين وقاسم جداين والحسين الحياني الذي رافق المغرب إلى مونديال 1970 بالمكسيك في أول مشاركة للمغرب، وكذا إلى الألعاب الأولمبية بميونيخ سنة 1972، والمرحوم أحمد الغربي الذي رافق المغرب إلى الكامرون ب(ياوندي وديرداوة) في أول مشاركة للمغرب في كأس الأمم الإفريقية سنة 1972، كما كان شاهدا على ملحمة أديس أبابا بإثيوبيا لما جاءنا صوته طويلا طويلا بعد تلك اللحظة التاريخية التي سجل فيها لاعب الدفاع الحسني الجديدي أحمد مكروح الشهير ب (بابا مفخمة) هدف التعادل والظفر بالكأس الأولى والأخيرة، وكنا ساعتها متحلقين في انتباه وتوتر ب"الدراع" حيث يوجد اليوم إسمنت جنان الخير.
وحتى وإن كنا لا نرتاح كثيرا للواصف الرياضي عبد اللطيف الشرايبي الذي كان يبدو لنا دائم التحيز لفريقي النادي المكناسي والمغرب الفاسي، فإننا كنا نطمئن لصوته الذي يأتي عبر الأثير سريعا جدا وحماسيا وهو يتابع طواف المغرب للدراجات إلى جانب الحسين الحياني.
عبر جهاز راديو قد يكون "فليبس" تابعنا ونحن صغار كثيرا من الأحداث المهمة العالمية كحرب 67 بين العرب وإسرائيل وسمعنا مدافع الهاون والبازوكا في سيناء والجولان، وعبره سمعنا بصعود الأمريكان إلى القمر سنة 1969 عن طريق المركبة الفضائية "أبولو 11". وبواسطته تعرفنا على كثير من شخصيات العالم السياسية كزعماء الدول من المارشال تيتو إلى الامين العام للأمم المتحدة "كورث فالدهايم" إلى الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" والسوفياتي "ليونيد برجنيف". عبره تعرفنا على كل لاعبي البطولة الوطنية ، كما تعرفنا قبل الأوان على كثير من الفرق العالمية التي كانت تشارك في كأس محمد الخامس (كريال مدريد وبرشلونة وريفير بلايت وبوكاجنيور والنجم الأحمر لبلغراد وسانت إيتيان وريمس وغيرها كثير). عبر الراديو تعرفنا قبل الأوان على غالبية رؤساء وعواصم العالم. عبر الراديو كان يأتينا صوت الحسن الثاني كل صباح بعبارته المشهورة قبل السابعة موعد نشرة الأخبار: (وإننا إذ نطلب منه وكرمه سبحانه وتعالى، أن يبقى يعطينا فنرضى فنشكره، ويعطينا فترضى فنشكره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها). وعبر الراديو سمعنا ايضا محمد بنددوش أو الموسيقار الكبير عبد السلام عامر، يردد مكرها وتحت تهديد بنادق العسكر ذات عاشر من يوليوز سنة 1971 في المحاولة الفاشلة للانقلاب: (الجيش، الجيش أقول الجيش قام بثورة لمصلحة الشعب، فعليكم باليقظة).
عبر الراديو الصغير، شعرنا بكثير من الدفء، واخترقت مسامعنا الصغيرة كثير من الأغاني العذبة الرقيقة وأرقها وأعذبها لسيدة جبال لبنان صاحبة الصوت الملائكي فيروز:
عم بتضوي الشمس ع الأرض المزروعة
عم بتضوي الشمس و الدنيي عم توعى
مع ضرورة الإشارة أنه ليس كل ما كان يخرج من جوف الراديو يلمع. (وا ناري شحال دوزو علينا ديال تمارة ف دوك الأغاني والملاحم والأشعار ديال التكسب الريعي بحال : أحنا معاك وراك دايمن مشيين ف طريقك يا حسن يا حبيب الجماهير دايمن سامعين لكلامك). و(تسارى تسارى بلادنا عرض وطول، تلقى فيها الكثير من المباني تغني وتكول بناني بناني الحسن الباني)
لست ربوت