

وحتى لا يتم طمر جزء مهم من تلك الذاكرة المفقودة مع فقدان الحساب الأول، آليت على نفسي أن أعيد كتابتها من جديد حتى ولو أنها بلا شك، ستفقد بعضا من الشحنة الإيجابية التي كانت عليها النسخة الأصل التي عادة ما تكتب وسط طقوس معينة، وحتى ولو أني أعلم أيضا أنها ستكلفني كثيرا من الجهد والعناء، إلا أن كل ذلك ليس مهما قياسا إلى ما فيه من فوائد لتذكير أو إعادة تذكير الجيل القديم بما يعلمه وقد يكون سقط من ذاكرته، ومن عبر للجيل الجديد الذي ينبغي أن يعرف تاريخ بلدته وبعضا من رجالها ونسائها. وكان الأمر سيبدو ناقصا ومبتورا فيما يرتبط بالذاكرة التعليمية التي أتيت على استحضار جزء كبير منها بعدم مقاربة النوع، غير أنها ـ مع شديد الأسف ـ تخلو من أية امرأة تعليم باستثناء المرحومة الأستاذة خديجة موضوع ذاكرتنا الأمس واليوم..
لاشك أن النساء اللواتي اقتحمن عوالم الشغل خارج البيت وفي مختلف القطاعات والمؤسسات العمومية زمن ستينيات القرن الفائت وبداية سبعينياته، يُعتَبَرْنَ بلا تحفظ رائدات وبانيات المغرب الحديث، مغرب ما بعد الاستقلال وحاجته الملحة ساعتئذ للأطر التي ستخلف تركة المستعمر خاصة في القطاعات الحيوية والاستراتيجية كقطاعي التربية والتعليم والصحة.
في ذلك الزمن السبعيني الأول إذا ما صحت معلوماتي، سيسطع في ابن جرير اسم امرأة ارتبطت شهرتها بالمدرسة الابتدائية كواحدة من النساء الأوليات اللواتي ولجن سلك التربية والتدريس في وسط شبه قروي أو ما هو في حكم القروي، ووسط سياق ذكوري بامتياز إلا فيما ندر من الحالات النسائية التي كانت تشكل نسبة ضعيفة للغاية، والأمر يتعلق بالأستاذة المرحومة خديجة حشادي التي اشتهرت بمدام تركية نسبة إلى رفيق حياتها الأستاذ ولاعب الكرة الشهير زمن ستينيات وسبعينيات القرن الماضي السي أحمد تركية.
لم تستند المرحومة في صيتها الذي ذاع بين التلاميذ وآبائهم، على شهرة زوجها، بل جعلت لنفسها شخصية ذات "كاريزما"، انطلاقا من تلك الصرامة المقرونة بالجد والمثابرة والالتزام بأداء الواجب المهني على أكمل وجه ممكن، وذلك من خلال تدريسها لمادة اللغة الفرنسية التي لم تكن تدرس إلا انطلاقا من القسم الثالث الذي كان يسمى وقتها بالابتدائي الثاني أو (بداي الثاني) اختصارا كما كان يُجمِعُ على تسميتها كثير من تلاميذ جيلنا ومنهم من لازال يرددها إلى حدود اليوم.
ومما لاشك فيه أن الأستاذة المرحومة بتلك المواصفات، كانت لها تقنياتها الخاصة في التربية والتدريس، كما كانت لها تقنياتها الخاصة في التواصل مع جماعة القسم كمجموعة متخالفة في درجة الفهم والاستيعاب والتعلم، أو كأفراد لهم خصوصياتهم ومراجعهم السوسيو ثقافية التي تميز هذا عن ذاك. وحتى إن كان تلاميذ ذلك الوقت الذين درسوا على يد المرحومة، يسترجعون بعض لحظات الصرامة التي كانت تبدو لهم وقتها فيها بعض الإفراط، إلا أنهم وكغيرهم ممن تتلمذوا على يد أساتذة بتوصيفات شبيهة بمثيلتها عند المرحومة، فإنهم لا يترددون في الثناء والتقدير والعرفان لما أسدته لهم من خدمات، حتى ولو أنها لا تخرج عن الواجب المفروض في كل موظف يتقاضى أجرا لقاء ذلك الواجب.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن بصمات نوعية التربية والتدريس التي كانت تنتهجها المرحومة قيد حياتها، قد برزت بشكل واضح في محيطها الأسري الصغير، بما يملكه أبناؤها وبناتها من دماثة الأخلاق وحسن معاملة الغير، والتفاني في العمل وإجادته والإقبال عليه بكل الجدية والانضباط، كما برز ذلك في إتقانهم للغة الفرنسية تحدثا وتدريسا بالنسبة لمن نعرفهم عن قرب.
لما كان السي أحمد تركية لازال يعمل مديرا للمؤسسة التي كنا نشتغل فيها معا، كنا تلحظ في عينيه حزنا عميقا دفينا على الحالة الصحية لزوجته الأستاذة خديجة التي عاش وإياها عمرا كانت فيه بمثابة الشمس التي تضيء البيت، وتوزع على ساكنيه الدفء والراحة والمحبة والطمأنينة والسلوك الحسن وأدب موليير وفيكتور هوكو ولامارتين وألفونس دوديه وغيرهم.
والمؤسف أن كثيرا من أطرنا القديمة المناضلة في مجال اشتغالها، طواها نسيان العقوق ولم تنصفها ثقافة المجتمع الجاحدة ، ولم تعرها تكريما وهي على قيد الحياة، ولا تكريما حتى وهي تحت التراب.
ستفعل جمعية الأعمال الاجتماعية لرجال ونساء التعليم أو بعض الجمعيات النسائية خيرا، إن بادرت إلى تكريم بعض الوجوه التي شكلت الاستثناء في زمنها الاستثنائي. ومدام تركية واحدة ممن تستحق أن يتم الالتفات إليها.
وفي انتظار ذلك، على روحها كل الرحمات، ولزوجها صديقنا وأستاذنا السي أحمد وأبنائه كل الصبر وكل الفخر أن والدتهم توفقت في المهمتين ولاشك في ذلك: مهمة تربية وتعليم أبناء الصلب، وتربية وتعليم من هم على نفس الدرجة والمقام من أبناء الصلب..
(في الصورة السي أحمد تركية وما تبقى في يده من رباط مقدس).
لست ربوت