في بداية الزمن السبعيني الذي كان فيه المغرب يغلي جراء الصدام الدموي بين جهات من بعض القوى المعارضة اليسارية تارة ومن بعض جنرالات العسكر تارة أخرى، وبين القصر ممثلا بالتحديد في الملك الراحل الحسن الثاني، كان المشهد الثقافي بشكل عام يعيش هو الآخر احتداما بين نمطين من الثقافة: واحد للسلطة السياسية التي لا تريد أن تسود بالاستغلال الاقتصادي والقمع والترهيب فحسب، بل تسعى من جهتها كما هو شأن دول الاستبداد، أن تسود باستغلال كل فضاءات التنشئة الاجتماعية من مدارس ومساجد ووسائل إعلام مسموعة ومقروءة ومرئية وما تنتجه تعبيراتها وأبواقها من مسرح وأنماط غنائية، وظيفتها الإشادة بالسلطة السياسية والإيغال في تعداد مناقبها وأمجادها. وواحد كانت تمثله القوى الديمقراطية وعلى رأسها تعبيرات اليسار السياسية وما كان يعتبر حقلا مملوكا لها أيضا من دور للشباب وفي الأندية السينمائية ومسرح الهواة وفي الثانويات والجامعات والجمعيات الثقافية وغيرها مما كان متاحا وتحت نفوذها.
كانت ابن جرير القروية كغيرها تتأثر بما يجري في البلد، وخاصة مع ظهور لون غنائي آخر جديد على الحقل الفني، تجسد فيما يعرف بالظاهرة الغيوانية التي ابتدأت مع بروز مجموعة ناس الغيوان وما تلاها بعد ذلك من مجموعات أخرى على غرار "جيل جيلالة" و"لمشاهب" و"تكادة" و"ألوان" في مراكش وغيرها مما يعرفه الجمهور في ذلك السياق السبعيني المتوتر.
وتحت حيطان مقهى المرحوم العياشي وفران الرباطي أو بالقرب من قهوة "السي عباس" بدوار/ حي لفريقية، كان شباب بالسراويل المفتوحة أسفل القدمين فيما كان يعرف ب"أرجل الفيل" ( Les pattes d’élèphant) أو كما سماها لاحقا أحد الأصدقاء ب"أكمام الطاحونة" تشبها بقطعة القماش التي كانت توضع عند مخرج ماكينة حبوب القمح والشعير المطحونة في طاحونات ذلك الزمن السبعيني والتي استمرت إلى سنوات متأخرة، وبذلك الشعر الطويل المنسدل على الكتفين، كان ذلك الشباب يحاكي ذلك اللون الغنائي الذي خرج من القمقم كالمارد، وصار معشوق الناس كبارا وصغارا لما يحمله من جديد/ قديم متجدد في أدواته الموسيقية وفي ألحانه وخاصة في كلماته التي يحمل بعضها ما يعتمل في الدواخل المكبوتة المسجونة في الصدور من حنق وسخط على الأوضاع العامة للبلد، والتي تكاد تقترب مما يمكن أن نسميه تمردا صامتا على أوضاع القهر والاستبداد التي عاشها إنسان تلك الفترة من تاريخ المغرب.
كان عبد الجبار التابي والمرحوم عباس ملموس والحاج عبد الرحيم حداني والمرحوم عبد النبي بهلولي وعبد اللطيف أمين، يغنون للعشق تارة بعضا من أغاني نجاة الصغيرة في رائعتها " ف وسط الطريق"، (غالي غالي والجرح الغالي، ذي جراحي العمر، لا الصبر ينفع فيه ولا الزمن يداويه ولا الليالي) وبعض المقاطع من "أغدا ألقاك" لأم كلثوم حين تقول:
(أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك فى ليل عيوني
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني)
وفي الأطوار الكثيرة يرددون في المجامع الخاصة في البيوت: أولى أغاني الغيوان :" الحصادة" و" يا صاح" و"واش حنا هوما حنا" و"أه يا وين وين" للغيوان، و (الكلام المرصع) و"ها العار أبويا" لجيل جيلالة..
سينضاف إلى عبد الجبار وعباس، شاب آخر كان يتردد على لفريقية هو عبد الصادق سهيل الذي كان يعزف على آلة " الهجهوج" أو"السنتير" وذلك تمثلا بعازفيها الأولين عند الغيوان وجيلالة: مولاي عبد العزيز الطاهري وبدرجة أكبر المرحوم المعلم عبد الرحمان قيروش المعروف ب"باكو" الذي سماه المغني الأمريكي الشهير "جيمي هاندريكس" بطبيب الأرواح.
لم يشكل هؤلاء الشباب مجموعة غنائية بمعنى دقيق، ولا غنوا في حفلة أو عرس، بل كانوا يلتقون بعض الأحيان في بعض الخلوات الخاصة، ويغنون لأنفسهم على سبيل الاستمتاع ولا شيء غير ذلك.
إلا أن هؤلاء لم يجتمعوا بشكل علني وأمام الجمهور، إلا في مناسبة واحدة فيما أذكر وهي التي كانت في الملعب القروي (البلدي حاليا) بمناسبة تجمع جماهيري نظمه حزب الاستقلال سنة 1973وأشرف على تأطيره الأمين العام السابق للحزب المرحوم امحمد بوستة، ولا أتذكر إن كان قبل وفاة علال الفاسي أو بُعَيْدَ وفاته بقليل. وذلك الحضور لتلك "المجموعة" لا يعني أن أولئك الشباب كانت تربطهم علاقة تنظيمية ما بالحزب أو بشبيبته، ولكن كانت خلفيتها استغلال تجمع جماهيري حاشد لترويج بعض الكلام ذي النزعة اليسارية الصاعدة.
بعد ذلك في النصف الثاني من السبعينيات وبداية الثمانينيات، ستظهر مجموعة غنائية شبابية، تتكون من بعض الأفراد كالحسين الخيدر وجمال القدميري عنيزة والحسين بلخراز وعباس الطاهري ، برئاسة عبد السلام السويدي. قد تكون هذه المجموعة أول مجموعة في تاريخ ابن جرير التأمت بشكل منتظم في إطار جماعي، وتغني في بعض الأعراس التي كان أصحابها قد بدؤوا يستأنسون بهذا اللون الشبابي الجديد والمرتبط دائما بموجة الظاهرة الغيوانية الثانية التي أعقبت الوفاة الفاجعة لأحد أعمدتها المرحوم بوجمعة ابراهيم أحكور الشهير ب (بوجميع). ستطعم المجموعة الأولى نفسها بعناصرأخرى كحميد براكش وولد الطالياني وعازف البانجو عبد المجيد فتاحي ، ثم التحق فيما بعد الحبيب الحميد عازف العود الذي التحق بالديار الإسبانية وارتبط فنيا بمغنية غجرية عاشقة للموسيقى تعمل باحثة في ذات المجال.
بعدها سيظهر عبد الحق عبيدة عازف :لوتار" والكمنجة صحبة أخويه، وهو بالمناسبة كان إلى جانب الصديق عبد العالي بلقايد عضوين مؤسسين لجمعية تعنى بالفن الشعبي سميت ب" جمعية عشاق الفن".
ولعل أشهر المجموعات الشبابية التي عمرت طويلا ولازالت تمارس نشاطها منذ ثمانينيات القرن الفائت، هي مجموعة "ولاد حادة" التي تختلف عن المجموعات السابقة كونها تغني اللون الغنائي الشعبي في حفلات الأعراس التي يحييها بعض الناس.
تاسست المجموعة في الثمانينيات بدوار الجديد ف (ديور لكشاردة) قرب السوق الأسبوعية. ومن مؤسسيها عزيز الرزود الملقب ب "ولد حادة"، إلى جانب عازف الكمنجة كبور وعازف البندير حليوة حمد المعروف ب( الكح) وعبد اللطيف من دوار الحمريطي والطرايري عبيدة.
تعاقب على المجموعة "كوامنجية" آخرون بعد كبور وحمدّ، منهم العلمي. ويقوم اليوم بالمهمة ابن أخت عزيز الرزود الشاب المسمى رفيق الذي عمل على لم شمل المجموعة وإسنادها ماديا من ماله الخاص ومال خاله.
منذ تأسيسها دأبت المجموعة على غناء بعض الأغاني لفنانين محليين وكذا إعادة غناء لبعض المشاهير ك"بوركون" وعبد العزيز الستاتي وغيرهم، وكذلك العيوط مثل (دامي ورجانا ف العالي ) وبعض "البراول" وبعض الأغاني الحوزية. وأحيانا كانت المجموعة تصاحب بعض الشيوخ كالغنامي وحسن السوكور وولد العود والمحجوب، إلى بعض الدواوير في حال غياب عنصر من المجموعات سالفة الذكر.
لازالت المجموعة تشتغل بالمقر المجاور للسوق والذي هو عبارة عن كراج كان في ملكية المرحومة السيدة حادة والدة عزيز وجدة رفيق، وبه تمارس تمارينها منذ تاسيسها. لكن بعد وفاتها تم تقسيمه إلى جزئين: جزء للمجموعة والجزء الآخر لعزيز وابن أخته رفيق. ولكي تكون للمجموعة الصفة القانونية، أسست جمعية تحمل اسم " جمعية ولاد حادة للتراث الشعبي".
الأكيد أن الحال لن تبقى هي الحال كما هي مشيئة التاريخ، ستخبو انشغالات واهتمامات وأذواق وميولات جيل، وستطفو على السطح انشغالات واهتمامات غير التي كانت شغلت زمنها وناسها، وستظهر مجموعات وثنائيات وأفراد بلوك جديد وبأدوات جديدة وبكلام جديد وبغايات جديدة، وسيأتي يوم وزمن من يؤرخ لذاكرتها، لاشك فيه أنها اليوم تنتظم في مجموعات شبابية تتشط في الحفلات والأعراس، منها من يساير موجة عصره ومنها من يمزج بين القديم والجديد وذلك تقديرا منها لاختلاف المستمع المستهلك وتلبية ل"رغبات المستمعين" أو ما "يطلبه المستمعون" على غرار أحد البرامج الإذاعية الشهيرة زمن الراديو.
يؤسفني شخصيا أنني لا أعرف من تلك المجموعات، سوى المجموعة التي ينشط فيها الصديق "كريم الفردوس" بحكم أنني جاورته لما كان أحد نشطاء الجبهة الموحدة التي خاضت طيلة شهور طويلة سلسلة من الوقفات والمسيرات في ابن جرير أو في اتجاه العاصمة، وأسابيع عديدة من الاعتصام في البرد والقر والمطر والليل والعراء، ليس من أجل الغناء، ولكن من أجل استقرار اجتماعي وفرصة شغل قار وبلد يتسع للجميع ويحظى ذلك الجميع بحفنة فوسفاط من ذلك التراب الذي لا يبقي لأصحاب الأرض منه سوى التشققات في الحيطان والنفوس.
لست ربوت