من ذاكرة أحوالنا الصحية في ابن جرير القديمة: "القابلة" و"الفراكة" و"الفقيه"، و"الطبيب" عبد العزيز الطرامباطي فيما ندر من الأوقات. بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من ذاكرة أحوالنا الصحية في ابن جرير القديمة: "القابلة" و"الفراكة" و"الفقيه"، و"الطبيب" عبد العزيز الطرامباطي فيما ندر من الأوقات. بقلم عبد الكريم التابي

من ذاكرة أحوالنا الصحية في ابن جرير القديمة: "القابلة" و"الفراكة" و"الفقيه"، و"الطبيب" عبد العزيز الطرامباطي فيما ندر من الأوقات. بقلم عبد الكريم التابي

لا يتوفر وصف للصورة.
حينما نسترجع ذاكرة زمننا البنكريري الأول خلال ستينيات القرن الماضي، وكيف كنا وكيف كانت أحوالنا وأحواله على مختلف الصعد، نحمد الله أن بعضنا الكثير أطال الزمن عمره لعقود ثم انصرف إلى حيث سننصرف جميعنا، وأن بعضنا الكثير الآخر لازال على قيد الحياة حيا يرزق، ما نعتبره إنجازا بشريا عظيما مع شديد التحفظ.
كانت ابن جرير القروية تتكون وقتئذ من مجموعة من الدواوير التي لم تتحول إلى أحياء بالمعنى العصري ولو على سبيل التسمية، إلا مع بداية التسعينيات، حيث كانت تفتقر معظم منازل سكانها إلى البنيات التحتية الأساسية من ماء وكهرباء وطرق معبدة وقنوات للصرف الصحي، الشيء الذي كان يفرض اللجوء إلى الاستعانة بالوسائل التقليدية كجلب الماء من الآبار، والاستضاءة بالشمع و"اللامبات"، أما تصريف النفايات التي ينتجها البشر، فكان حفر ثلاثة أمتار أو أربعة داخل المنزل، كافيا للحصول على المرحاض "الكابينة" أو "بيت الما"، التي كانت اسما على غير مسمى، لأنها تفتقر إلى الماء من الأصل، والذي كان الحصول عليه بدوره، يتطلب جلبه من البئر التي قد تكون من تجهيزات البيت، أو تكون خارجه عند من يضعونها رهن إشارة العموم كما كانت عليه الحال بالنسبة لعديد من الآبار التي تحمل أسماء مالكيها كبئر السي عباس وبير بنعمر وبئر السي علال والد الصديق عزيز لعناني وغيرها من الآبار التي كانت متناثرة هنا وهناك في دواوير ابن جرير القديمة كدوار الجديد ودوار لفريقية ودوار الشعيبات ودوار الزاوية ودوار الجلود.وكانت تلك المياه المجلوبة في سطول معدنية، تخزن في آنيات من الطين تسمى "الخابيات" التي يوضع فيها غالبا الماء الذي يستعمل للشرب، أما ما يوظف في الاستعمالات الأخرى فقد كان يوضع في آنيات أخرى ك"الجفنات أو القعدات".
أما النفايات الصلبة من بقايا الخضر وبقايا القماش ورماد الكشينات (المطابخ) وروث بعض الحيوانات وكل ما لا لم يعد صالحا للاستعمال، فيلقى به في "الزبالات" التي كانت هي الأخرى منتشرة عبر كثير من النقط التي تتمركز فيها القمامة، ولم تكن وقتها شاحنات جمع الأزبال فيما أذكر إلا في القشلة. أما النفايات السائلة من "تشليلة" و"غْسَالة"، فكانت تصرف عبر مسارب مكشوفة تخرج من كل بيت لتتبخر في المجرى. ولأن الأرض كانت عارية بالكامل، فقد كانت تتحول في الأيام الماطرة إلى برك يتخللها الطمي، أما في فصل الصيف حيث تصبح التربة جافة ومفككة، فقد كانت "زوابع" العجاج" لا تتوقف عن الحركة والدوران خاصة يوم الثلاثاء موعد السوق الأسبوعية.
في هذه البيئة كان ميلاد أي وافد جديد على الدنيا، تبتدئ رحلته من يوم أن تتكفل "القابلة" بوسائلها التقليدية من الإشراف على عملية الولادة التي إن لم تتم بشكل طبيعي، فمصير المولود هو الموت المحقق كما قد يحدث للأم، في عدم وجود وسائل وطرق أخرى كما هو معروف اليوم.
عندما يمرض رضيع ذلك الزمن وخاصة بالأمراض التي كانت منتشرة على نطاق كبير كالعواية وبوحمرون وغيرهما، فكان اللجوء إلى "الفراكات" هو الحل الوحيد للعلاج عبر تركيبات كيميائية مخلوطة يتم "تلغيجها" لذلك الطفل على فترات متباعدة. أما عندما تأتيه نوبات من البكاء المسترسل، فإن اعتقاد الأم يذهب إلى كون "عين" شريرة ما من إحدى جاراتها، هي التي تكون سببا في تلك الحالة من البكاء، فتذهب به عند "الفقيه" ليصف لها هو الآخر محلولا أو خلطة ما، أو يكتب لها في الغالب " كتابا" (سبوب)، تعلقه بشريط صوفي في عنق الرضيع. وأحيانا في الحالات المستعجلة خاصة بالليل، تلجأ الأم إلى الوصفة المشهورة "اللبيخة" في حالات ارتفاع درجة الحرارة، والشبة والحرمل في باقي الحالات.
يستمر العلاج بنفس الطرق لما يتحول الرضيع إلى طفل قبل سن التمردس الابتدائي وبعده، باستثناء "الفراكة" التي تنقطع بعد الفطام. وحينما يستقل ذلك الطفل (الذي هو أنا وأنت من جيلنا الذي عاش تلك الظروف)، فإنه يقوم بالمتعين بنفسه في حالة الجروح التي تنتج بسبب احتكاك ما في المدرسة أو في الطريق، أو في ساحة المدرسة، وغالبا ما تكون الإسعافات الأولية باللجوء إلى التراب لتضميد الجرح، وأحيانا تقوم "التحميرة" مقام المرهم والمضاد الحيوي.
في المدرسة التي يتذكرها جيلنا، كانت أسوأ اللحظات التي تباغثنا، هي لحظة القيام بالتلقيح بواسطة حقننا في الذراع الأيسر ب"المفتاحة" كما كنا ولازلنا نسميها. لا يكون أمام الفوج الأول أي مهرب من الاستسلام ل"المفتاحة"، فيما يعود كثير من تلاميذ الفوج الثاني أدراجهم حينما يعلمهم زملاؤهم وهم في غاية الشعور بالبطولة بعد أن اجتازوا المحنة بسلام أو بآلام كما يفضل أن يصورها البعض الآخر من التلاميذ، بأن اليوم (القضية حامضة فيها المفتاحة).
ولأن الوضع البيئي في جانب منه، كان سيئا بالرغم من وجود مساحات من الأغراس و"الجرادي"، فإن انتشار الذباب والناموس والزوابع وعدم وجود مستلزمات النظافة داخل "الكابينات" وفي فضاء المنزل بشكل عام، كان يتسبب في إصابتنا بكثير من أمراض العيون، وفي مقدمتها "الرمد" الذي كانت المدرسة تتكفل في حملة مباغثة أيضا بصب قطرات لزجة من المرهم الشهير"AUREOMYCINE" التي لازالت صامدة إلى اليوم، فيخرج القسم جميعه ملطخ العيون، وهو ما يتم إعلامه أيضا للفوج الثاني الذي يفضل البعض منه أن يتفادى "الموماضدا" كما كان كثير منا يتداولها.
كما أننا نفاجأ أحيانا داخل اقسامنا بوجود كيس كبير به مسحوق أبيض يشبه الدقيق، وكان الأستاذ الذي يصادف وجودنا عنده، يحمل ما يشبه المِغرفة أو كما نسميها باللسان الدارج "المُغْرْفة"، ويشرع في صبها على رؤوسنا وأجسادنا من فتحة العنق من الأمام ومن الخلف من جهة القفا، بعد أن نفسح له المجال ليطلي المسحوق جذعنا والملابس التي تغطيه، وذلك لإبادة القمل والصيبان الأبيض المحتمل وجوده أو قل للدقة (ما كان غير هو) في ثيابنا الرثة التي نتوارثها أخا بعد أخ وفي رؤوسنا التي لم تكن تتذوق رائحة "الشامبوان" إلا لماما لما كنا نستحم بالإكراه داخل الجفنات أو داخل "القبريات" ممن تتوفر له داخل البيت.
نادرا جدا ما كنا نزور "الطبيب" الذي كان مشهورا كنار على علم في ذلك الزمن في المستوصف الذي يشغله اليوم المستشفى الإقليمي، وكان يسمى بعبد العزيز قبل أن نعرف اليوم أن لقبه هو الطرامباطي الذي قضى فترة طويلة بابن جرير، وعلمت من بعض أقربائه أنه توفي منذ سنوات.
لا أدري سبب ذيوع صيت المرحوم الطرامباطي في أوساط ابن جرير القروية، ربما يكون ذلك راجعا لحسن تعامله مع حالات المرضى التي تفد عليه، ويسعفها ويعالجها بما كان متوفرا ساعتها من أدوية تتوزع بين الأقراص والحقن وغيرها.
عشنا ظروفا قاسية هذا مؤكد، إلا أن القول بأن بقاءنا على قيد الحياة يعتبر إنجازا عظيما، فقد أتيت عليه على سبيل الدعابة والتفكه لا غير، لأن الأجيال التي سبقتنا بكثير كانت ظروفها اسوأ مما كنا عليه، إلا أنها استمرت على قيد الحياة وفق ما كان متاحا لها من شروط استأنست بها كما نستأنس نحن اليوم مع شروط الجائحة "كورونا" حيث فينا من قضى، وفينا من ينتظر.
(الصورة عبارة عن وسام ملكي ناله المرحوم عبد العزيز الطرامباطي "طبيب" ابن جرير القديمة).

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button