
لا تدعوا الكلمة تضيع في الهواء كالرماد
خلوه جرحا راعفا...لا يعرف الضماد
طريقه إليه...
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء)
(محمود درويش)
كلما عقدت العزم على جمع شتات هذا الغبار المتناثر من جزء يسير جدا من بعض قليل جدا من ذاكرة ابن جرير، إلا وبدا لي أن كل ما دونته لا يساوي جناح بعوضة أمام كثير من الأحداث وكثير من الأمكنة وكثير من المجالات، وبخاصة كثير من الأشخاص الذين طبعوا تاريخ البلدة كل من زاوية اهتمامه واشتغاله.
ولعل ما يؤرقني كثيرا، هو أن أَقْدِمَ في تهور على عملية جمع ذلك الشتات الضئيل، فتسقط مني أحداث ووقائع وأمكنة وأشخاص، بل الأفظع من كل ذلك أن أتجنى على الذاكرة ولو بغير عمد، فتجلدني الموضوعية والتاريخ أبد الآبدين.
ولا أدري كيف لهذه الذاكرة اللعينة، أن يغيب عنها بعض رجالات البلدة الذين ارتبطوا بالسلك العسكري كجنود من مختلف الرتب، وشارك بعضهم في جبهات القتال في حروب مختلفة كما هو الشأن في حرب 6 أكتوبر بهضبة الجولان بسوريا وسيناء بمصر، أو في تدخلات أخرى في مناطق عدة من العالم كالصومال وفيما قبل في الكونغو الديمقراطية (الزايير سابقا) والبوسنا والهرسك وغيرها من المناطق الملتهبة في ذلك العالم المجنون قبل أن يلجمه فيروس مكروسكوبي عن حماقاته، ويجعله أسيرا لخوفه، ويحطم كثيرا من الكبرياء الزائد الذي كان سببا في كثير من المآسي على سطح هذا الكوكب الجميل الرفيق..
ولا أدري كيف لهذه الذاكرة اللعينة أن يغيب عنها أيضا واحد من أبناء البلدة ممن دخلوا التاريخ من أبوابه المشرعة، في حدث من أهم أحداث المغرب المعاصر والتي لازالت مشكلتها قائمة كقطعة زجاج في حلق المغرب، ولازال ملفها مفتوحا في أروقة الأمم المتحدة رغم خفوت دوي الرصاص على جبهات القتال. إنه الطيار الحبيب بوشريط الذي خاض معارك الصحراء بعد سنة 1975 عبر طائرة ال F5، والتي سيكتب لها ذات يوم حزين من 14 مارس 1980 أن تصيبها نيران العدو فتحترق، ولن يجد الحبيب من مخرج كما هي حال كل طيار، سوى أن يقفز بمظلته لينجو على الأقل بنفسه ولو مؤقتا في انتظار المصير الدراماتيكي الآخر بعد سقوطه أسيرا في أيدي "البوليساريو"، والذي سيمتد به المقام في جحيم المخيمات على امتداد ما يقرب من ربع قرن من صنوف العذاب التي لا تخفى على أي أسير ذاق مرارة المعاناة تحت أعقاب البنادق وفي ظروف مشابهة لما هو عليه الأمر في المخيمات.
من دوار السبيتات بجماعة لبريكيين التابعة لإقليم الرحامنة، رأى الحبيب بوشريط النور سنة 1952. والده الفقيه بوشريط أنجب أبناء آخرين لعل أشهرهم بعد الحبيب أستاذ ومفتش الرياضيات عبد العاطي بوشريط الرئيس الحالي للمجلس الحضري لابن جرير باسم حزب "البام".
ولج الحبيب بوشريط مقاعد المدرسة الابتدائية متأخرا حتى سن العشر سنوات، أبان فيها عن نباهته وقدراته خاصة في مجال الرياضيات التي يقتسم إجادتها مع شقيقه عبد العاطي. بعد أن اجتاز مرحلة الإعدادي بكوليج ابن جرير ، حصل سنة 1971 على شهادة الباكالوريا شعبة الرياضيات التي ستمكنه من ولوج المدرسة العسكرية للطيران التي قضى بها فترة التدريب بالمغرب ثم لاحقا بفرنسا وهو لم يتجاوز بعد سن الثمانية والعشرين.
في الفترة التي أعقبت المسيرة سنة 1975 والتي تميزت بأجواء الحرب المباشرة بين المغرب وجبهة البوليساريو، سيجد الحبيب بوشريط نفسه في قلب المعارك في الجبهات الأمامية أمام نيران الرشاشات والمدافع والألغام، وسيقوده القدر في الرابع عشر من مارس 1980، لأن تحترق الطائرة الحربية ويسقط الطيار بوشريط أسيرا لدى عسكر البوليزاريو في المخيمات ل23 سنة و تسعة شهور بالتمام والكمال، عانى فيها الويلات كما عاناها كل من وقع في الأسر سواء سقط من طائرة محترقة أو وقع في الكمائن في الصحراء المترامية الأطراف.
في أحد أيام شهر دجنبر من سنة 2003، سيكتب للحبيب بوشريط عمر جديد، وسيعود إلى الوطن وإلى الدوار وإلى حضن الوالدة التي أمهلها الموت حتى رأت الابن الغائب الأسير، بعدها بأيام قليلة ودعت ابنها، ولم تجزع كما جزع والد الحبيب الذي توفي وفي قلبه غصة وقصة قطعة القلب الأسيرة هناك في المخيمات، والتي لم يكتب له أن يراها ويضمها ولو للحظة وجيزة قبل أن يقوم مسؤول الموت بالمتوجب.
لما عاد الطيار الحبيب، لم يعد إلى حضن الوالدة والأهل فحسب، لكنه عاد إلى حضن بلدة بكاملها فرحت لعودته واستقبلته بالأحضان استقبالا يليق بالأبطال الذين ولدوا من جديد من قلب لهيب النيران وشظف العيش والظلم والهوان في مخيمات تندوف.
له المجد والفخر. وسيذكر له التاريخ ولابنائه وللأجيال القادمة أنه دافع عن حمى الوطن من وسط ألسنة النار وفوهات المدافع ، ومن مراكز الاحتجاز والأسر والجوع والتعذيب الجسدي والنفسي.
لست ربوت