اسمعوا و عُوا، ففي الازمات ينطق الحكيم وعلى السفيه ان يخرس للأبد.
د. صفية الودغيري في وقفة مع الحدث وبلغة تزهر من بهائها الجنات.
إنّ العادات السيّئة تكون مُضِرّة بأصحابها، تتمكّن منهم تمكّن الطّبائع الفاسدة بمن يتطّبعون بها، فيصعب عليهم إصلاح مساوئها أو تدارُك أخطائها .
وإنّ التّجرُّؤ على فنٍّ من الفنون أو التّجاسر على علم من العلوم صار آفةُ هذا العصر، ومرضا من الأمراض الخطيرة المستشرية، التي نحصد شوكها ونألم قذاها من جاهلٍ ناعِقٍ يتكلّم فيما لا يُجيده ولا يُتقنه، ويفتري على الخلائق بلا وجه حق، ويتبجَّح ويتفاخر بنشر الفتن بينهم، وإذاعة الأباطيل والأكاذيب والأراجيف، والاحتيال عليهم وخداعهم بجهلٍ وسوء فهم ..
وإنّ ما نلاحظه اليوم هو من هذا القبيل وهذا النّظير، وإنّ ما نراه داخل هيأتنا وطبقاتنا الاجتماعيّة الحالية يندى له الجبين، وهو مما يجري مجرى العادات السيئة في ارتكاب المخالفات والانتهاكات والتّجاوزات في مواجهة مرض كورونا ..
وهو يظهر بأَجْلى بيان في سلوكنا ومعاملاتنا، ويثبت أنّنا ما زلنا نعاني من مظاهر تخلّفنا وصور جهلنا وتجاهُلنا، وغفلتنا وتغافُلنا ..
ويظهر كذلك في تعالُم أَدْعياء العلم من الجهلاء والعوام، ومشهد التَّباري والتّنافُس والتّسابُق وتراشق سهام التّعارُض بين من ليسوا من أهل الدّراية والاختصاص، ومن لا يستحِقّون أن يتقدّموا مراتب الكلام ونشر الأخبار، ومن ليسوا أهل الرّواية ليُسند إليهم الإخبار..
بل صرنا نستقبل كلّ يوم وساعة من يتصدّر لنشر الأغاليط والإشاعات الكاذبة حول مرض كورونا، ويسعون إلى تزييف الحقائق، ومنهم من يعظِّمون ويهوِّلون ما يقع من النّوازل وما يجري من الأحداث، ويُعارِضون ما يُبثّ ويُذاع، ومنهم من يتقنون صناعة القصص والحكايات المزيّفة، ويتصدّرون الموقف وهم ليسوا أهل مواقف، ويركبون الموجة ليحقِّقوا مآربهم دون وعي بعِظم المسؤولية، ولا إدراك لخطورة الوضع، فيشرعون في الإعلان الكاذب وإحصاء عدد حالات المصابين بهذا المرض، دون تثبّت ولا تيقُّن من صحة العدد، ودون الرّجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة رسميًّا في هذا الشأن، ودون الاستناد إلى أقوال أهل الاختصاص، والمكلّفين بنقل الأخبار وإحصاء المصابين وتحديد العدد الصحيح ..
بل منهم من ينشطون في هذر ساعاتهم، ويتكلّمون فيما لا يحقّ لهم أن يتكلّموا فيه، ويفرّغون مكبوتات صدورهم، وينفثون سموم فشلهم وقهرهم، فيجتهدون في تسليط سيف غوايتهم على رقاب الناس، وصناعة الإعجاب والتفنُّن في الإشهار وترويج بضاعتهم النّتنة الفاسدة، للرَّفع من عدد المعجبين والمتابعين والمدّاحين، والأسارى المبايعين لسقطاتهم وانحرافاتهم، المبهورين بثرثرتهم ولغطهم، المنذلّين لنزواتهم ورغباتهم وأهوائهم، من ينحنون صاغرين خاضعين معظّمين لإله أطماعهم وجشعهم في تحقيق مكاسب ربحهم المادّي السّريع، ولو بسلوك السّبل المحرّمة واللاإنسانية، وفبركة الصّوَر ونشر التّسجيلات المزيّفة عن هذا المرض، والادّعاء على أشخاص هم براءٌ من الإصابة بفيروسه ..
ومنتهى غايتهم إرهاب النّاس وتخويفهم، والتّلاعب بأعصابهم ورهف مشاعرهم، وإرهاقهم نفسيا وجسديا في لحظات عسيرة شديدة لا تحتمل مثل هذه الألاعيب، فيصير أيّ تلفيق أو خداع أو احتيال أو كذب هو عين الحقيقة والصّدق، لأنّ النفوس تمرض وتتعب وتضعف، وتنهزم في لحظات الإعسار، وتوالي الخطوب والشّدائد والمحن ..
ولأنّ النفوس تكون غير محصّنة بالقدر الكافي لتميّز الحقّ من الباطل، والصّواب من الخطأ، والخبر الصّادق من الكاذب، وعاجزة عن قيادة تصرّفاتها والتحكُّم في ضبط غضبها وانفعالاتها وردّات أفعالها، والحفاظ على استقرارها واتّزانها ..
فتتعجّل وتتسرّع في استقبال ونشر ما يُبثّ ويُذاع دون فرز ولا غربلة، ولا تدقيق ولا تمحيص فيما يُنقل سمعيًّا أو بصريًّا، أو يُنْشر كتابيّا ويُذاع صوتيًّا وشفهِيًّا، وما ينتشر على المواقع والصفحات والقنوات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما تنشره الصحف السّاقطة التي لا تلتزم قواعد الأمانة والحرص والنّزاهة، فتنقل الغثّ والسّمين، وما يخالف الواقع والحقيقة، وتروٍّج الأخبار والإشاعات بأشكال مختلفة، وتتمثَّلها في صُوَر متنوِّعة، وتستشهد بحجج واهية، فتصير هي أسّ الشُّرور وبيت الدّاء ولا دواء، وأصل الرَّذائل وبؤرة المفاسد، ولا شيء يوقظ ضميرها ويحرّك إحساسها الإنساني، ويدعوها للخشية من الله والخوف من سوء العاقبة والخاتمة ..
ولكنّه التّغافُل والتّساقُط والتّهافُت ..
فقد صُمّت آذانها وتعاموا عن تحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم، ولو أنّهم تحاكموا إليهما لما تجرّؤوا على نشر بهتانهم، ولم يتطاولوا ويطلقوا ألسنتهم بالكذب في وقت عصيب كهذا، يستوجب تكاثُف الجهود وجمع الصّفوف على كلمة سواء، والتّكافل والتّعاون والتّضامن بين الناس حتى يتجاوزوا هذه الشدّة والمحنة، ويرفع الله عنهم مقته وغضبه، ويشملهم بعفوه ومغفرته، وينعم عليهم بكرمه ورحمته الواسعة، فيطهّر أرواحهم وأجسادهم، ويصرف عنهم العلل والأمراض، ويسخّر لهم أسباب البَرْء والعلاج، ويمكِّنهم من الدّواء والشّفاء من هذا الدّاء، ويغيثهم بإيجاد اللِّقاح المناسب لمقاومة هذا الفيروس الفتّاك ..
وإنّه لا سبيل إلى تحقيق ذاك المقصد الأحمد إلا إذا نحن اتّقينا الله تعالى في أقوالنا وأفعالنا، وعدنا إليه عودا حميدا، وتبنا توبة نصوحا، وسعينا إلى وصل ما انقطع، وشدّ وثاقنا برحلنا، وسعينا إلى الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر قدر ما نستطيع، فقد أوصانا رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ).
ولا سبيل إلى بلوغ ذاك المبتغى الأسمى إلا إذا نحن تحرّينا الصّدق والإخلاص في أقوالنا وأفعالنا، وسلوكنا ومعاملاتنا، وعقّمنا وطهَّرنا جوارحنا وحواسّنا، وعقّمنا وطهَّرنا ألسنتنا بمطهِّرات ومعقِّمات الألسنة والأعضاء، وجنّبنا أنفسنا ما ينهكها ويضعفها ويكسرها، وتصدّينا لردع الأكاذيب والأباطيل، ووعينا ما قاله الحق سبحانه وتعالى في سورة الزمر: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)). وما قاله تعالى في سورة الحج: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) .
واقتدينا بأسوتنا وهادينا إلى الطريق المستقيم، رسولنا وحبيبنا ونبينا المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم، حيث كان الكذب هو أبغض الأخلاق إلى نفسه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان خُلُقٌ أَبْغَضَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من الكَذِبِ، ولقد كان الرجلُ يُحَدِّثُ عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالكِذْبَةِ، فما يَزَالُ في نفسِهِ، حتى يَعْلَمَ أنه قد أَحْدَثَ منها توبةً).
وعن عبد الله بن مسعود: أنّه كان يجيء كلّ يوم خميس يقوم قائما لا يجلس فيقول: ( إنما هما اثنتان، فأحسن الهدي هدي محمد، وأصدق الحديث كتاب الله، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة ضلالة، إنّ الشّقي من شقي في بطن أمِّه، وإنَّ السَّعيد من وعظ بغيره، ألا فلا يطولنَّ عليكم الأمد، ولا يُلْهِينَّكم الأمل، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، وإنّما البعيد ما ليس آتيا، وإنّ من شرار النّاس بطَّال النّهار، جيفة اللّيل، وإنّ قتل المؤمن كفر، وإنّ سبابه فسوق، ولا يحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا إن شر الرَّوايا رَوايا الكذب، وإنّه لا يصلح من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ، ولا أن يعد الرّجُل صبِيَّه ثم لا ينجزه، ألا وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الصِّدق يهدي إلى البر، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الصَّادق يُقال له صدق وبرَّ، وإنّ الكاذب يُقال له كذب وفجر، وإنّي سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ العبد ليصدق فيُكْتَب عند الله صدِّيقا، وإنّه ليكذب حتى يُكْتَب عند الله كذّابًا") .
وللأسف إننا نعاني اليوم من وجود صنفين ممن يكذبون ويمعنون في الكذب، فمنهم صنف يكذب على غيره إذ يعظِّم ويفخِّم في تلفيق الأخبار حول مرض كورونا، ويسعى افتراء وضلالا في ترويع الناس وإفزاعهم وقضّ مضاجعهم، وصنف آخر يناظره فيكذب على نفسه، إذ يستهين ويستخِفُّ بخطورته، ولا يصدّق بوجوده، وينكر حقيقته، ولا يتقبّل أنه واقِعٌ نازِل، ويهمل في الأخذ بأسباب الحماية والوقاية منه، ولا يهتمّ بالالتزام بالنّصائح والإرشادات، ولا يتجنّب المحاذير ومخاطر الاستخفاف به، ولا ينضبط بالضوابط والتّقارير بشأنه، ولا يأخذ بالإجراء والتّدبير الاحترازي، واليقظة واتّخاذ الحيطة والحذر لاتّقاء خطره، ولا يسلِّم لضرورة الحظر الصِّحي، ولا يعبأ بالاحتياطات الضّروية التي يقدّمها الأطباء، ويرشد إلى الالتزام بها أهل الشّأن والاختصاص ..
وإنّنا اليوم أمام موقف عسير يدعونا إلى الجدّ الذي لا يقبل التسلّي ولا الهزل، ويلزمنا حفظ النفس لأنه من مقاصد شريعتنا، وحماية وجودنا البشري وحياتنا وحياة من حولنا، وتحقيق مقاصد الأمن والسّلامة والوقاية عن طريق المكوث في مساكننا، والقرار في بيوتنا ولزوم منازلنا، وتقديم جلب المنفعة ومراعاة المصلحة، ودفع المضار وأخطار المهالك وحصد الأرواح، والاجتهاد في أن يكون لنا جميعا صوتا واحدا وموقفا صارما، وتصرّفا حازما حتى نربح معركتنا وحربنا ضدّ انتشار هذا الفيروس، والانتصار في التّصدّي لهذا المرض، وتحدّي هذا الوباء، وأن نغيث ونسعف أنفسنا ومن حولنا قبل أن يستشري هذا المرض ويستفحل، كما علينا أن نتعامل معه بوعي ونستحضر عقولنا ولا نغيّبها، ونتحلّ بالروح الوطنية والإسلامية والإنسانية، ونستشعر بما على عاتقنا من تحملّ لمسؤولية الرّعاية والتّكليف بأداء واجبنا، وتقديم مبادرات بالقول والفعل، والمساندة الحقيقية بما نقدر عليه، ونجاهد أنفسنا على أن نحقّق الرّبح مع الله، بتقديم يد المعونة والمساعدة لكلّ من نقدر على أن نساعدهم، ولو ببثّ بشائر الأمل والفرح، وزرع الطمأنينة والسكينة في قلوبهم، ودعوتهم إلى الصبر والمصابرة، وشحذ الهمم والعزائم، وبعث وإحياء ما اندثر من تقاليدنا وعاداتنا الحسنة، وشغل أوقاتنا في النافع والمفيد من الأشغال والأعمال، والإقبال على العبادات والطاعات، وتأليف جمع ووحدة أُسَرِنا، واحتواء صدور أبنائنا وضمّهم إلى أحضاننا، ولمّ شعثنا وشملنا، ولمّ شتاتنا وتفرّق شملنا، واسترجاع ما نسيناه وفقدناه، وضاع منا ورحل عنّا وسط زحمة الحياة ومكارهها، والرّكض خلف تحقيق ذواتنا، والجري وراء سراب أحلامنا، والتّسابق على بلوغ المدارك التي لا تنتهي ولا تنحد ..
وتصحيح أخطائنا ومساوئنا، والعودة والإياب إلى ربنا، ثم السُّكون والرُّكون إلى رياض أنفسنا التي سرقت منّا خلسة، وضاعت منّا وضيّعناها وسط تهافتنا وازدحامنا وتسابقنا على الهواتف، ولُهاثنا وسُعارنا وتحلّقنا حول دوائر الأجهزة، وتربّعنا حول مجالسها التي دفَّنا أجسامنا وسط قبورها ومدافنها، ووارينا وجوهنا وملامحنا وتقاسيمنا وأشكالنا خلف أنوار شاشاتها، وأسلمنا إليها أنفاسنا وأنفاس أعمارنا، وأودعناها ماضينا وحاضرنا، وقياد أرواحنا واستعمار أجسامنا، فتُهْنا في فلكها وسلبت منّا إرادتنا، وضعنا معها وضيّعنا أبناءنا وأُسَرنا، وأجيال وراء أجيال لا نعلم نهاية مصيرها، وتسرّبت منّا أنفس الأوقات والسّاعات واللّحظات، وشقينا وفقدنا الإحساس والإدراك ولذة الحياة ..
فهلاّ عُدنا .. وصحَونا .. وصحت ضمائرنا .. استقمنا واهتدينا .. واستفقنا من سكرتنا، وغيبوبة عجزنا وضعفنا، وهرمنا وانهزامنا ..
وهلاّ حاسبنا أنفسنا قبل أن يحُلّ ميقات رحيلنا .. فنُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة وتُعرض صحائفنا ..
وهلاّ ارتقينا بتديّننا .. وكنّا مسلمين مؤمنين حقًّا وصِدْقا .. وهذّبنا سلوكنا وأخلاقنا .. وارتقينا سلّم الترقِّي ومجد التمدّن عن عزم وحزم واستحقاق ..
وأختم بما قاله سليم أفندي البستاني ـ نجل بطرس البستاني صاحب موسوعة دائرة المعارف ـ في مقالته حول التهذيب : << إن رقّة الجانب وتهذيب الأخلاق هما من جملة إثمار التمدّن، فإذا خَلا إنسان منهما لا يستحقُّ أن يسمّى متمدِّنًا. فكلّ أمّةٍ لم تصِل إلى الدَّرجة اللاّزمة من سُلَّم التمدُّن لا تناسِبها العادات التي تستلزم وجودَه، وتكون نتيجةً له لأنّها تكون غير قادرة على إتقانها والقيام بحقِّ مُقْتضياتها، لأنّ العادات إذا كانت سابقة للجيل على مسافة بعيدة تكون مُضِرّة له لا مفيدة، فإذا فتحنا قاعات خُطَب مثلا لقومٍ لا يعرفون العلوم ولا يدركون قوّة اللّغة والمعاني، ولا يحسنون تقديم خُطَب مفيدة لا يكون من ذلك نَفْع كبير، ونكون كأنّنا قد أتينا العبث من الأعمال، وكذلك إذا سلّمنا للنّساء بالدّخول في الاجتماعات مع الرجال في بلاد لم تدرك من التمدن غير أطرافه، فإنّ ذلك إنّما يكون مَجْلبَة للشّر والخلاعة عِوَضا عن ترقية أسباب التّهذيب والعلوم وتثقيف العقل، بحيث يصِرْن أهلاً للقيام بواجبات التربية التي هي أعظم شيء يُبْقي تأثيراته في عقل الجيل عند بلوغِه سنّ الرّشاد>
وإنّ التّجرُّؤ على فنٍّ من الفنون أو التّجاسر على علم من العلوم صار آفةُ هذا العصر، ومرضا من الأمراض الخطيرة المستشرية، التي نحصد شوكها ونألم قذاها من جاهلٍ ناعِقٍ يتكلّم فيما لا يُجيده ولا يُتقنه، ويفتري على الخلائق بلا وجه حق، ويتبجَّح ويتفاخر بنشر الفتن بينهم، وإذاعة الأباطيل والأكاذيب والأراجيف، والاحتيال عليهم وخداعهم بجهلٍ وسوء فهم ..
وإنّ ما نلاحظه اليوم هو من هذا القبيل وهذا النّظير، وإنّ ما نراه داخل هيأتنا وطبقاتنا الاجتماعيّة الحالية يندى له الجبين، وهو مما يجري مجرى العادات السيئة في ارتكاب المخالفات والانتهاكات والتّجاوزات في مواجهة مرض كورونا ..
وهو يظهر بأَجْلى بيان في سلوكنا ومعاملاتنا، ويثبت أنّنا ما زلنا نعاني من مظاهر تخلّفنا وصور جهلنا وتجاهُلنا، وغفلتنا وتغافُلنا ..
ويظهر كذلك في تعالُم أَدْعياء العلم من الجهلاء والعوام، ومشهد التَّباري والتّنافُس والتّسابُق وتراشق سهام التّعارُض بين من ليسوا من أهل الدّراية والاختصاص، ومن لا يستحِقّون أن يتقدّموا مراتب الكلام ونشر الأخبار، ومن ليسوا أهل الرّواية ليُسند إليهم الإخبار..
بل صرنا نستقبل كلّ يوم وساعة من يتصدّر لنشر الأغاليط والإشاعات الكاذبة حول مرض كورونا، ويسعون إلى تزييف الحقائق، ومنهم من يعظِّمون ويهوِّلون ما يقع من النّوازل وما يجري من الأحداث، ويُعارِضون ما يُبثّ ويُذاع، ومنهم من يتقنون صناعة القصص والحكايات المزيّفة، ويتصدّرون الموقف وهم ليسوا أهل مواقف، ويركبون الموجة ليحقِّقوا مآربهم دون وعي بعِظم المسؤولية، ولا إدراك لخطورة الوضع، فيشرعون في الإعلان الكاذب وإحصاء عدد حالات المصابين بهذا المرض، دون تثبّت ولا تيقُّن من صحة العدد، ودون الرّجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة رسميًّا في هذا الشأن، ودون الاستناد إلى أقوال أهل الاختصاص، والمكلّفين بنقل الأخبار وإحصاء المصابين وتحديد العدد الصحيح ..
بل منهم من ينشطون في هذر ساعاتهم، ويتكلّمون فيما لا يحقّ لهم أن يتكلّموا فيه، ويفرّغون مكبوتات صدورهم، وينفثون سموم فشلهم وقهرهم، فيجتهدون في تسليط سيف غوايتهم على رقاب الناس، وصناعة الإعجاب والتفنُّن في الإشهار وترويج بضاعتهم النّتنة الفاسدة، للرَّفع من عدد المعجبين والمتابعين والمدّاحين، والأسارى المبايعين لسقطاتهم وانحرافاتهم، المبهورين بثرثرتهم ولغطهم، المنذلّين لنزواتهم ورغباتهم وأهوائهم، من ينحنون صاغرين خاضعين معظّمين لإله أطماعهم وجشعهم في تحقيق مكاسب ربحهم المادّي السّريع، ولو بسلوك السّبل المحرّمة واللاإنسانية، وفبركة الصّوَر ونشر التّسجيلات المزيّفة عن هذا المرض، والادّعاء على أشخاص هم براءٌ من الإصابة بفيروسه ..
ومنتهى غايتهم إرهاب النّاس وتخويفهم، والتّلاعب بأعصابهم ورهف مشاعرهم، وإرهاقهم نفسيا وجسديا في لحظات عسيرة شديدة لا تحتمل مثل هذه الألاعيب، فيصير أيّ تلفيق أو خداع أو احتيال أو كذب هو عين الحقيقة والصّدق، لأنّ النفوس تمرض وتتعب وتضعف، وتنهزم في لحظات الإعسار، وتوالي الخطوب والشّدائد والمحن ..
ولأنّ النفوس تكون غير محصّنة بالقدر الكافي لتميّز الحقّ من الباطل، والصّواب من الخطأ، والخبر الصّادق من الكاذب، وعاجزة عن قيادة تصرّفاتها والتحكُّم في ضبط غضبها وانفعالاتها وردّات أفعالها، والحفاظ على استقرارها واتّزانها ..
فتتعجّل وتتسرّع في استقبال ونشر ما يُبثّ ويُذاع دون فرز ولا غربلة، ولا تدقيق ولا تمحيص فيما يُنقل سمعيًّا أو بصريًّا، أو يُنْشر كتابيّا ويُذاع صوتيًّا وشفهِيًّا، وما ينتشر على المواقع والصفحات والقنوات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما تنشره الصحف السّاقطة التي لا تلتزم قواعد الأمانة والحرص والنّزاهة، فتنقل الغثّ والسّمين، وما يخالف الواقع والحقيقة، وتروٍّج الأخبار والإشاعات بأشكال مختلفة، وتتمثَّلها في صُوَر متنوِّعة، وتستشهد بحجج واهية، فتصير هي أسّ الشُّرور وبيت الدّاء ولا دواء، وأصل الرَّذائل وبؤرة المفاسد، ولا شيء يوقظ ضميرها ويحرّك إحساسها الإنساني، ويدعوها للخشية من الله والخوف من سوء العاقبة والخاتمة ..
ولكنّه التّغافُل والتّساقُط والتّهافُت ..
فقد صُمّت آذانها وتعاموا عن تحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم، ولو أنّهم تحاكموا إليهما لما تجرّؤوا على نشر بهتانهم، ولم يتطاولوا ويطلقوا ألسنتهم بالكذب في وقت عصيب كهذا، يستوجب تكاثُف الجهود وجمع الصّفوف على كلمة سواء، والتّكافل والتّعاون والتّضامن بين الناس حتى يتجاوزوا هذه الشدّة والمحنة، ويرفع الله عنهم مقته وغضبه، ويشملهم بعفوه ومغفرته، وينعم عليهم بكرمه ورحمته الواسعة، فيطهّر أرواحهم وأجسادهم، ويصرف عنهم العلل والأمراض، ويسخّر لهم أسباب البَرْء والعلاج، ويمكِّنهم من الدّواء والشّفاء من هذا الدّاء، ويغيثهم بإيجاد اللِّقاح المناسب لمقاومة هذا الفيروس الفتّاك ..
وإنّه لا سبيل إلى تحقيق ذاك المقصد الأحمد إلا إذا نحن اتّقينا الله تعالى في أقوالنا وأفعالنا، وعدنا إليه عودا حميدا، وتبنا توبة نصوحا، وسعينا إلى وصل ما انقطع، وشدّ وثاقنا برحلنا، وسعينا إلى الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر قدر ما نستطيع، فقد أوصانا رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ).
ولا سبيل إلى بلوغ ذاك المبتغى الأسمى إلا إذا نحن تحرّينا الصّدق والإخلاص في أقوالنا وأفعالنا، وسلوكنا ومعاملاتنا، وعقّمنا وطهَّرنا جوارحنا وحواسّنا، وعقّمنا وطهَّرنا ألسنتنا بمطهِّرات ومعقِّمات الألسنة والأعضاء، وجنّبنا أنفسنا ما ينهكها ويضعفها ويكسرها، وتصدّينا لردع الأكاذيب والأباطيل، ووعينا ما قاله الحق سبحانه وتعالى في سورة الزمر: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)). وما قاله تعالى في سورة الحج: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) .
واقتدينا بأسوتنا وهادينا إلى الطريق المستقيم، رسولنا وحبيبنا ونبينا المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم، حيث كان الكذب هو أبغض الأخلاق إلى نفسه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان خُلُقٌ أَبْغَضَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من الكَذِبِ، ولقد كان الرجلُ يُحَدِّثُ عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالكِذْبَةِ، فما يَزَالُ في نفسِهِ، حتى يَعْلَمَ أنه قد أَحْدَثَ منها توبةً).
وعن عبد الله بن مسعود: أنّه كان يجيء كلّ يوم خميس يقوم قائما لا يجلس فيقول: ( إنما هما اثنتان، فأحسن الهدي هدي محمد، وأصدق الحديث كتاب الله، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة ضلالة، إنّ الشّقي من شقي في بطن أمِّه، وإنَّ السَّعيد من وعظ بغيره، ألا فلا يطولنَّ عليكم الأمد، ولا يُلْهِينَّكم الأمل، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، وإنّما البعيد ما ليس آتيا، وإنّ من شرار النّاس بطَّال النّهار، جيفة اللّيل، وإنّ قتل المؤمن كفر، وإنّ سبابه فسوق، ولا يحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا إن شر الرَّوايا رَوايا الكذب، وإنّه لا يصلح من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ، ولا أن يعد الرّجُل صبِيَّه ثم لا ينجزه، ألا وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الصِّدق يهدي إلى البر، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الصَّادق يُقال له صدق وبرَّ، وإنّ الكاذب يُقال له كذب وفجر، وإنّي سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ العبد ليصدق فيُكْتَب عند الله صدِّيقا، وإنّه ليكذب حتى يُكْتَب عند الله كذّابًا") .
وللأسف إننا نعاني اليوم من وجود صنفين ممن يكذبون ويمعنون في الكذب، فمنهم صنف يكذب على غيره إذ يعظِّم ويفخِّم في تلفيق الأخبار حول مرض كورونا، ويسعى افتراء وضلالا في ترويع الناس وإفزاعهم وقضّ مضاجعهم، وصنف آخر يناظره فيكذب على نفسه، إذ يستهين ويستخِفُّ بخطورته، ولا يصدّق بوجوده، وينكر حقيقته، ولا يتقبّل أنه واقِعٌ نازِل، ويهمل في الأخذ بأسباب الحماية والوقاية منه، ولا يهتمّ بالالتزام بالنّصائح والإرشادات، ولا يتجنّب المحاذير ومخاطر الاستخفاف به، ولا ينضبط بالضوابط والتّقارير بشأنه، ولا يأخذ بالإجراء والتّدبير الاحترازي، واليقظة واتّخاذ الحيطة والحذر لاتّقاء خطره، ولا يسلِّم لضرورة الحظر الصِّحي، ولا يعبأ بالاحتياطات الضّروية التي يقدّمها الأطباء، ويرشد إلى الالتزام بها أهل الشّأن والاختصاص ..
وإنّنا اليوم أمام موقف عسير يدعونا إلى الجدّ الذي لا يقبل التسلّي ولا الهزل، ويلزمنا حفظ النفس لأنه من مقاصد شريعتنا، وحماية وجودنا البشري وحياتنا وحياة من حولنا، وتحقيق مقاصد الأمن والسّلامة والوقاية عن طريق المكوث في مساكننا، والقرار في بيوتنا ولزوم منازلنا، وتقديم جلب المنفعة ومراعاة المصلحة، ودفع المضار وأخطار المهالك وحصد الأرواح، والاجتهاد في أن يكون لنا جميعا صوتا واحدا وموقفا صارما، وتصرّفا حازما حتى نربح معركتنا وحربنا ضدّ انتشار هذا الفيروس، والانتصار في التّصدّي لهذا المرض، وتحدّي هذا الوباء، وأن نغيث ونسعف أنفسنا ومن حولنا قبل أن يستشري هذا المرض ويستفحل، كما علينا أن نتعامل معه بوعي ونستحضر عقولنا ولا نغيّبها، ونتحلّ بالروح الوطنية والإسلامية والإنسانية، ونستشعر بما على عاتقنا من تحملّ لمسؤولية الرّعاية والتّكليف بأداء واجبنا، وتقديم مبادرات بالقول والفعل، والمساندة الحقيقية بما نقدر عليه، ونجاهد أنفسنا على أن نحقّق الرّبح مع الله، بتقديم يد المعونة والمساعدة لكلّ من نقدر على أن نساعدهم، ولو ببثّ بشائر الأمل والفرح، وزرع الطمأنينة والسكينة في قلوبهم، ودعوتهم إلى الصبر والمصابرة، وشحذ الهمم والعزائم، وبعث وإحياء ما اندثر من تقاليدنا وعاداتنا الحسنة، وشغل أوقاتنا في النافع والمفيد من الأشغال والأعمال، والإقبال على العبادات والطاعات، وتأليف جمع ووحدة أُسَرِنا، واحتواء صدور أبنائنا وضمّهم إلى أحضاننا، ولمّ شعثنا وشملنا، ولمّ شتاتنا وتفرّق شملنا، واسترجاع ما نسيناه وفقدناه، وضاع منا ورحل عنّا وسط زحمة الحياة ومكارهها، والرّكض خلف تحقيق ذواتنا، والجري وراء سراب أحلامنا، والتّسابق على بلوغ المدارك التي لا تنتهي ولا تنحد ..
وتصحيح أخطائنا ومساوئنا، والعودة والإياب إلى ربنا، ثم السُّكون والرُّكون إلى رياض أنفسنا التي سرقت منّا خلسة، وضاعت منّا وضيّعناها وسط تهافتنا وازدحامنا وتسابقنا على الهواتف، ولُهاثنا وسُعارنا وتحلّقنا حول دوائر الأجهزة، وتربّعنا حول مجالسها التي دفَّنا أجسامنا وسط قبورها ومدافنها، ووارينا وجوهنا وملامحنا وتقاسيمنا وأشكالنا خلف أنوار شاشاتها، وأسلمنا إليها أنفاسنا وأنفاس أعمارنا، وأودعناها ماضينا وحاضرنا، وقياد أرواحنا واستعمار أجسامنا، فتُهْنا في فلكها وسلبت منّا إرادتنا، وضعنا معها وضيّعنا أبناءنا وأُسَرنا، وأجيال وراء أجيال لا نعلم نهاية مصيرها، وتسرّبت منّا أنفس الأوقات والسّاعات واللّحظات، وشقينا وفقدنا الإحساس والإدراك ولذة الحياة ..
فهلاّ عُدنا .. وصحَونا .. وصحت ضمائرنا .. استقمنا واهتدينا .. واستفقنا من سكرتنا، وغيبوبة عجزنا وضعفنا، وهرمنا وانهزامنا ..
وهلاّ حاسبنا أنفسنا قبل أن يحُلّ ميقات رحيلنا .. فنُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة وتُعرض صحائفنا ..
وهلاّ ارتقينا بتديّننا .. وكنّا مسلمين مؤمنين حقًّا وصِدْقا .. وهذّبنا سلوكنا وأخلاقنا .. وارتقينا سلّم الترقِّي ومجد التمدّن عن عزم وحزم واستحقاق ..
وأختم بما قاله سليم أفندي البستاني ـ نجل بطرس البستاني صاحب موسوعة دائرة المعارف ـ في مقالته حول التهذيب : << إن رقّة الجانب وتهذيب الأخلاق هما من جملة إثمار التمدّن، فإذا خَلا إنسان منهما لا يستحقُّ أن يسمّى متمدِّنًا. فكلّ أمّةٍ لم تصِل إلى الدَّرجة اللاّزمة من سُلَّم التمدُّن لا تناسِبها العادات التي تستلزم وجودَه، وتكون نتيجةً له لأنّها تكون غير قادرة على إتقانها والقيام بحقِّ مُقْتضياتها، لأنّ العادات إذا كانت سابقة للجيل على مسافة بعيدة تكون مُضِرّة له لا مفيدة، فإذا فتحنا قاعات خُطَب مثلا لقومٍ لا يعرفون العلوم ولا يدركون قوّة اللّغة والمعاني، ولا يحسنون تقديم خُطَب مفيدة لا يكون من ذلك نَفْع كبير، ونكون كأنّنا قد أتينا العبث من الأعمال، وكذلك إذا سلّمنا للنّساء بالدّخول في الاجتماعات مع الرجال في بلاد لم تدرك من التمدن غير أطرافه، فإنّ ذلك إنّما يكون مَجْلبَة للشّر والخلاعة عِوَضا عن ترقية أسباب التّهذيب والعلوم وتثقيف العقل، بحيث يصِرْن أهلاً للقيام بواجبات التربية التي هي أعظم شيء يُبْقي تأثيراته في عقل الجيل عند بلوغِه سنّ الرّشاد>
لست ربوت