من معالم السرد القصير جدا في " النبتة التي حجبت وجه القمر " للقاص : عبد الغفور خوى
بقلم الأستاذ عبد اللطيف الهدار
قُدمت هذه القراءة في حفل توقيع المجموعة القصصية ( النبتة التي حجبت وجه القمر ) ، والذي نظمته الرابطة العربية للإبداع ـ 03\12\2011 بفضاء الهمذاني ، بمدينة الدار البيضاء ـ
لعل من نافلة القول أن القصة القصيرة جدا " عمل إبداعي فني يعتمد دقة اللغة ، وحسن التعبير الموجز ، واختيار اللفظة الدالة التي تتسم بالدور الوظيفي و التركيز الشديد في المعنى ، والتكثيف اللغوي الذي يحيل ولا يخبر ولا يقبل الشطط ، ولا الالتباس ، ولا الإسهاب ، ولا الاستطراد ، ولا الترادف ، ولا الجمل الاعتراضية ... ويسمح بتعدد القراءات ووجهات النظر المختلفة . " (1)
ومعلوم أن الترسانة المفاهيمية المرتبطة بالقصة القصيرة جدا ، ما زالت في طور التشكل ، وأن المصطلحات النقدية العامة ، ما زالت متفاوتة الدلالة من دارس إلى آخر فيما يخص أركان هذا الفن ، وشروطه و مقوماته و مقاييسه ... وهذا التداخل في المصطلحات النقدية العامة ، نتج عنه تداخل في دلالة المصطلحات الدقيقة ، فنجد من النقاد والمهتمين من يجمع بين المكونات الأساسية لهذا الجنس الأدبي ، وبين خصائصه الفنية . أو بين الأركان الجوهرية المميزة للسرد القصير جدا ، والتقنيات السردية ( الخارجية ) التي يشترك فيها مع باقي الفنون السردية .
وتجاوزا للإشكال المنهجي الذي يطرحه هذا التداخل المفاهيمي و الاصطلاحي ، ارتأينا أن نعنون هذه المداخلة بـ ( من معالم السرد القصير جدا في مجموعة النبتة التي حجبت وجه القمر ) ، واعين أن طبيعة المداخلة ، والحيز الزمني لن يسمحا بتحليل مكونات الكتابة السردية في المجموعة ، ورصد تمظهراتها .. مكتفين بمحاولة الوقوف عند ما اعتبرناه أهم ما يسم المجموعة من معالم ، بغض النظر عن تصنيفها .
وأول ما نطرحه ، هو مسألة الحجم .. باعتبار الحجم الميسم الأول الذي يسم السرد القصير عموما ، والقصير جدا على وجه الخصوص . سردا بحجم يستجيب لسرعة الإيقاع اليومي ، و يواكب التطورات الحثيثة التي ما فتئ العصر يعرفها . ويتفق الدارسون و المهتمون أن حجم القصة القصيرة جدا يجب أن يكون محدودا في كلمات وجمل . ويرى معظمهم أن نصف الصفحة أو أقل ، حجم معقول ..
والحقيقة أن كل النصوص القصيرة جدا في مجموعة عبد الغفور خوى حافظت على الحجم المعقول للقصة القصيرة جدا من دون إخلال . فمن بين أربع وثلاثين قصة تضمنتها المجموعة ، نجد ثمانية نصوص فقط ناهز حجمها صفحة من الحجم الصغير ، بما يزيد قليلا أو ينقص . أما باقي النصوص ، وعددها ستة وعشرون ، فكلها قصص قصيرة جدا ، جلها جاء في أقل من نصف صفحة . وتجدر الإشارة هنا ، أن الكاتب لم يَسِم مجموعته بـ ( قصص قصيرة جدا ) وإنما وسمها بأنها ( مجموعة قصصية ) .
والأهم ، أن القاص عبد الغفور خوى أجاد في التعامل مع أحجام قصصه القصيرة جدا ، بانتهاجه تكثيفا يركز بالأساس على الوظائف الأساسية و الأفعال النووية ، مبتعدا عن الزوائد و الاستطرادات ، مقتضبا في الوصف ، مقتصدا في اللغة ، مكتفيا بما يخدم رهان النص ، ويسهم في في انفتاح القراءة التأويلية ، ويحقق الشرط الجمالي .
ونجاح عبد الغفور خوى في هذا المسعى إن دل على شئ ، فإنما يدل على أنه يتمتع بإحساس مرهف باللغة ، وبمعاني مفرداتها و استعمالاتها المجازية ، وبمقدرة فكرية تستند إلى مرجعية ثقافية غنية ، تسمح له بفلسفة المعنى ، وإراده في شكل سردي يراعي الجانب الإستيتيقي ، و يحتفي بالبعد الدلالي من دون التصريح به . بذلك يحترم الكاتب خصائص الجنس الذي يكتب فيه ، ويحترم قارئه بدعوته إلى المشاركة في إنتاج الدلالة بتجاوز القراءة السطحية إلى القراءة داخل اللغة .
فنص " سلام " مثلا ، لا يتجاوز في مجمله خمسا وعشرين كلمة ، انتظمت في ثلاث متواليات سردية . بعد كل متوالية نقطة نهاية . وهذه المتواليات تشكلت من جمل ذات وجهين متعالقين لا يفصل بينهما أية علامة ترقيم ، إمعانا في التكثيف و الإيحاء و تشابك المعنى . كما أنها تدرجت من الطول فالتوسط فالقصر ، تدرجا يتسق مع النفس السردي الهابط من الأعلى حيث السماء ، إلى الأسفل حيث يسقط غصن الزيتون .
يقول النص :
"عادت إليه الحمامة بغصن زيتون بشارة على أن السماء كفكفت دمعها .
باسم الوحدة الوطنية صوب جندي نحو الحمامة .
على بركة الزعيم سقط غصن الزيتون ." المجموعة . ص33
فالنص يركز على أربعة أفعال نووية إسنادية عمدة ، في تشكيل القصة و تحبيكها . وهي أفعال ماضوية تامة ، لا تقتصر على الدلالة الزمنية ، وإنما تتعداها إلى دلالة الحدث . والأفعال هي : ( عادت ، كفكفت ، صوب ، سقط ) . كما أنه يخلو تماما من أي استطراد أو حشو زائد .. ويضع اللفظة اللغوية في السياق الذي يستدعيها ، الشئ الذي حقق للنص اتساقه و انسجامه ، علاوة على التركيز والتكثيف والإيحاء بالمعنى الذي لا يسعه إلا صفحات و صفحات حين الكتابة التقريرية المباشرة .
وما يصدق على نص ( سلام ) ، يصدق على نصوص أخرى من المجموعة . منها على سبيل التمثيل لا الحصر : ( سمر مزمن ) الذي خلا من أي وصف إلا من " مزمن " ، ونص (كراهية) وبدوره اقتصر على ذكر وصف واحد هو " وفي " ، ونص ( نجوم ) الذي لم يرد فيه إلا وصف ( زائدا ) .. وهي جميعها أوصاف وظيفية يستدعيها المقتضى الدلالي و تسهم في بناء التبئير .
من ناحية أخرى ، ولأن القصة القصيرة جدا فن سردي ، فهي تقوم في المقام الأول على فكرة تتخذ شكلا حكائيا . وهذه الفكرة " تُعالج من خلال أحداث مركزة تؤديها عوامل وشخوص معينة ، وذلك في أفضية محددة أو مطلقة ... عبر منظور سردي معين ، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطءا ، مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة للتعبير عن رؤية و مرجعية معينة . " (2)
وعليه ، فالشرط الحكائي من أهم الشروط التي تستدعيها القصة القصيرة جدا ، وتتبنين فيها . وإذا انتفى هذا الشرط ، فإن النص يتحول إلى خاطرة أو كتابة انطباعية أو نثر فني ، أو شعر منثور ...
والقارئ لمجموعة عبد الغفور خوى ، يقف على هذه النزعة القصصية التي تسود نصوص المجموعة ، والقائمة على سرد حكائي يعتني بالحبكة السردية و النزعة القصصية ، ويحترم مكوناتها من استهلال سردي و عقدة درامية و صراع و حل وصولا إلى النهاية .. سواء في القصص الرمزية ، كما في نصوص ( وليمة ، رأس أبي الهول ، كائنات ... ) أو في القصص التقريرية ، مثل : ( معزوفة ، كراهية ، اغتصاب ... ) .
وتمثيلا ، نجد هذه النزعة القصصية المحبكة بشكل متقن ومتكامل في نص " نحو النبع " ص11 ، فهو يبدأ بهذه البداية الحدثية السريعة :
" كان يقود جماعته نحو النبع ." ثم تتالى الأفعال المتضمنة للأحداث بشكل متواتر حتى تتعقد دراميا أثناء رحلة البحث عن النبع . وهي الرحلة التي عرفت صراعا ناميا باطراد ما بين الإصرار على المشي و التعثر ، والسقوط و النهوض ، ومواصلة البحث رغم التعب وطول الطريق . وتبلغ العقدة ذروتها حين تكشف شخصية النص ، بعد أن استنزفت رحلة البحث عمرا بكامله وجهدا كبيرا ، أن النبع كان قريبا منه . وكردة فعل ، " صاح ملء حنجرته " دون أن يفصح السرد عن منطوق هذا الصياح ، ويكتفي بوصف ارتداده بأنه " شجي و جريح " ، وعيا من الكاتب بأهمية الوصف ها هنا ( كما في النصوص المشار إليها آنفا ) ، إذ يصبح وصفا وظيفيا لا يحجب المعنى ، ولا يفصح عنه . ووسيلة أسعفت في حسن الخلوص إلى خاتمة أحدثت توترا و انفعالا في نسقها الدلالي ، وفتحت شهية التأويل . خاتمة مفاجئة و صادمة بمسحة تراجيدية : " التفت إلى جماعته ، لم تكن وراءه . كان وحيدا " .
هكذا تكتمل في هذا النص الموجز ، كما في نصوص أخرى تضمنتها المجموعة ، مواصفات النزعة القصصية بمكوناتها الحكائية من شخوص وفضاء سردي وحبكة ومنظور و وحدة و تكثيف ومفارقة وأسلبة وتزمين ، وكل ذلك يتضافر لإشراك القارئ في تفعيل النص وإثراء دلالته .
ومن الخصائص الفنية المميزة للكتابة السردية القصيرة جدا في مجموعة " النبتة التي حجبت وجه القمر " ، خاصية المفارقة وخاصية السخرية . وهما خاصيتان كثيرا ما تستدعي إحداها الأخرى ، فالمفارقة حتى وإن انطوت على مرارة وخيبة أمل ، وعكست نوعا من العبث و اللامبالاة فهي تتخذ من الضحك سلاحا يستخف ويسخر بكل دواعي الغم والهم و الحزن والنكد وما يدفع إلى الإحباط والتيئيس .. " ضحك متولد عن التوتر الحاد ، وليس عن الكوميديا " . (3)
وعموما ، المفارقة صيغة بلاغية بمعنيين ، معنى سطحي قريب غير مستهدف ، ومعنى مستبطن بعيد عليه يقع القصد . والمفارقة ذات الطابع الساخر ، تحقق أبعادا مدهشة من خلال ازدواجية الموقف الذي يكون في بدايته مؤثرا ومفاجئا ، ثم يزداد حدة لينتقل من الحالة الفجائية إلى حالة استفزازية ، كم في هذه الحوارية السردية التي تحمل عنوان : " حمد " ، والتي يقودنا فيها الحوار بين الزوجين إلى الإضحاك الناجم عن توتر نفسي وعاطفي بوصفه إطارا للتحول الدلالي من نعمة تستوجب الحمد ، إلى نقمة بدورها تستوجب الحمد ، ولكن ليس عن طيب خاطر ، وإنما تحت طائلة الرضى بالمقسوم والمقدر ، رضى المؤمن بالابتلاء على ما فيه من شقاء وعناء :
( قالت له زوجته :
احمد الله واشكره لأنه وهبك امرأة جمالها أخاذ ، قدها رشيق ، وجهها وضاء ، صدره ناهد . وسيمة ، قسيمة ، مليحة .
قال : الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه .) المجموعة ، ص 49 .
هكذا يغدو الحمد مربط المفارقة بين أمرين ، واحد محمود استوجب الحمد ، و الآخر بدوره يستوجب الحمد رغم أنه مذموم . مفارقة تؤكد الذم بما يشبه المدح .
والمفارقة تقنية قصصية يلجأ إليها القاص للخروج على السرد المباشر بما يحقق المتعة عبر الإثارة و التشويق في أربعة عنــــــاصر : ( وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد ، اعتماد التعارض و التناقض في إدراك الحقائق ، التظاهر بالبراءة التي قد تصل إلى حد السذاجة و الغباء ، وجود ضحية متهمة أو بريئة أو غافلة ) .. وهذه العناصر مجتمعة تجعل المفارقة تنطوي على المضحك و المبكي معا . ومن هنا كانت المفارقة في شبه تلازم مع السخرية . ومثل هذا التلازم ، نجده مثلا في نص : " معزوفة " ص17 ، فالمايسترو الذي تعود أن يعرض عن الجمهور ، وهو يؤدي مع جوقته معزوفة " الزعيم " بشكل آلي ، لا شك أن نظام العزف عنده سيختل بغياب عازف أساسي في الجوقة هو عازف القانون ، لذلك يسأل زوجته عن غيابه حين غاب . ولأن الزوجة على علم ، فقد أجابته بأنه : " عزف عن العزف ، فعوضوه بضارب الطر " . هكذا إذن ، فهم يعوضون من شاؤوا بمن شاؤوا وما على المايسترو إلا أن يتكيف مع أهوائهم و ما يريدون . ومكمن المفارقة ليس هنا تحديدا ، وإنما هي كامنة في مضمون رد الزوجة الساخر الذي قابل بين عازف القانون و ضارب الطر في تعبير واحد يعكس مستويين دلالين : مستوى سطحي تمثل في العزف الموسيقي على آلة وترية وأخرى إيقاعية ( علما أن الضارب على الطر هو الضابط للإيقاع في الموسيقى الشرقية ) ، ومستوى ثان مستبطن يكتسي أبعادا حقوقية و سياسية و اجتماعية ، باستحضار دلالة العزف على القانون ، و دلالة الضرب على الطر في المرجعية الشعبية . كما أن العزف في حد ذاته يشي بالشئ و نقيضه ؛ عزف على ، وعزف عن . من هنا تأخذ عبارة ( عزف عن العزف ) منحى دلاليا آخر، قد يكون العزف عن مسايرة الجوقة فيما دأبت عليه من تطبيل و تزمير للزعيم محور المعزوفة . وبذلك يتحقق في المفارقة عنصر التعارض ، كما يتحقق عنصر التظاهر بالبراءة في رد الزوجة التي أجابت بفورية تنم عن عفوية يطبعها الصدق ، في حين يُضمر جوابها سخرية لاذعة . وكما أن لكل مفارقة ضحية ، فالضحية هنا لم تكن إلا ( المايسترو \ الزوج ) ضحية غافلة قضت عمرها تمجد عبر معزوفة موسيقية يتيمة زعيما نكرة ، حتى صارت المعزوفة ديدنها الذي شغلها عما سواه . مايسترو ، لا يعرف شيئا عن العازفين في جوقته ، حتى إذا غاب أحدهم اُسقط في يديه ، ليستنجد بزوجته التي تعلم ما لا يعلم .. يقول النص :
( المايسترو يولي مؤخرته للجمهور كعادته . الجوقة تؤدي معزوفة " الزعيم " بانضباط . الجمهور يصفق بين الفينة و الأخرى .
سألها زوجها :
ـ أين عازف القانون ؟
أجابته :
ـ عزف عن العزف ، فعوضوه بضارب الطر ) المجموعة ص 17 .
وهذه المفارَقة الساخرة ، أو السخرية المفارِقة ، نجدها مبثوثة في عدة نصوص من المجموعة، منها مثلا : (أبيض وأسود) و( تهم ) و ( عابر ) و ( مريض ) وغيرها ..
وبعد .. ما الورقة التي تقدمنا بها في هذا المحفل حول معالم السرد القصير جدا في المجموعة القصصية " النبتة التي حجبت وجه القمر " ، إلا غيض من فيض . وكان بالود أن نقف عند معالم سردية أخرى حفلت بها نصوص المجموعة . وهي كثيرة و متنوعة ، لعل من أهمها مما لم يسمح لنا الوقت ، ولا طبيعة المداخلة بالوقوف عندها : الكتابة الفانتستيكية و التناص و تنوع الفضاء وشعرية المكان و أنماط السرد و المنحى البلاغي و المعمار الفني و تقنيات الحذف و الإضمار و المفاجأة و الإدهاش ... وغيرها . ولعلنا نعود إليها ، أو إلى بعض منها إذا أتيح لنا أن نعود .
وخير ما نختم به في هذا المقام ، ما قاله أديبنا البارع الأستاذ عبد الحميد الغرباوي في تقديمه للمجموعة :
" لم يركن الكاتب ، في هذه المجموعة ، إلى بناء فني أو شكل واحد ، بل انفتح على أكثر من بناء وشكل ... " ويضيف : " إنه أبدع نصوصا جيدة تشد إليها القارئ ، نصوصا تنم عن دربة وتمكن من فن الكتابة ، وتشي بكاتب يسير بخطى ثابتة نحو أن يكون ، في المستقبل القريب ، من الأسماء المؤثثة للمشهد القصصي في المغرب . " . (4)
الرابطة-العربية-للابداع/من-معالم-السرد-القصير-جدا-في-النبتة-التي-حجبت-وجه-القمر-للقاص-عبد-الغفور-خوى
ـ (1) د ميمون المسلك : مكونات الإبداع في القصة القصيرة جدا
ـ (2) د جميل حمداوي : أركان القصة القصيرة جدا ، ومكوناتها الداخلية
ـ (3) د جاسم خلف الياس : المفارقة في قصص حمودي الكناني القصيرة جدا
ـ
(4) عبد الحميد الغرباوي في تقديم " النبتة التي حجبت وجه القمر "
(4) عبد الحميد الغرباوي في تقديم " النبتة التي حجبت وجه القمر "
لست ربوت