حظي المدرس على مر العصور السابقة بمكانة بالغة الأهمية لدى مختلف شرائح المجتمع، فكانوا يوقرونه ويمنحونه قيمة رمزية عالية، وليس عبثا أن يعتبره الذين عاشوا في الأزمنة السالفة ذا قدسية اعتبارية ومعنوية رفيعة، لأنه في نظرهم يقدم خدمة إنسانية ومهمة جليلة، ويحمل أمانة ورسالة سامية وله مسؤولية جسيمة، لذا نال منزلة مرموقة وتقديرا على أعلى المستويات، وتمتع بسمعة طيبة وبشخصية مهيبة وبسلطة كبيرة بين الناس؛ فحرصوا على احترامه وإجلال دوره في المجتمع، كيف لا يكون كذلك والكل يعظم عمله آنذاك؟ ولم يقللوا من جهده أبدا، لأنه كان يتولى القيادة الفعلية لعملية التدريس على أكمل وجه ممكن، وفي تصورهم هو أكبر مساهم في بناء الإنسان الصالح الذي يصير بفعل التدريس عارفا بمختلف شؤون حياته، وفاهما لتعاليم الدين الحقيقية، وممتثلا للقيم الأخلاقية النبيلة، وناضجا يستطيع التأقلم مع مختلف الأوضاع والمواقف الحياتية، ولا يمكن أن يكون هذا كله إن لم يكن للمدرس قيمة رمزية عالية، لأنه بدون ذلك لن يصل للنتائج المنشودة من أدائه لمهمته كما ينبغي ما دام أن الآخرين ينظر إليه نظرة دونية، ويوضع في موضع غير معتبر لا يليق به كشخص له فضل كبير في صناعة الأجيال، وبناء العقول، وتربية النشء.
تدنت في حاضر الأوطان المتخلفة القيمة الرمزية للمدرس ولم تبقى تلك الصورة المشرقة التي كانت له في السابق، خصوصا وأننا أصبحنا نعاين في أوساطها كثيرا من مظاهر التحقير والتنكيل بمن يقوم بالتدريس، بل وصار حتى لفظ المدرس مفرغا من أي معنى اعتباري مهم؛ إذ لا يفرض الآن أي نوع من الاحترام والتقدير لا في المحيط المدرسي ولا خارجه، وقزمت أدوار المدرس وهمش لدرجة أنه لم يعد في منظور الوزارة الوصية عليه واسطة عقد المنظومة التربوية، والدور المركزي الذي كان له في الحياة المدرسية سحب منه؛ فأصبح تواجده فيها أمرا لا يعطى له أهمية كبرى، لدرجة أنه حتى عندما تُحقق أحد مكونات البنية التربوية التي لها ارتباط وثيق بالمدرس نجاحا وتميزا في مناسبة ما لا يُقر له بالفضل في ذلك، بل ويساء إليه بالتطاول عليه والإشارة إليه دوما بأصابع الاتهام كلما لاحت بوادر فشل النظام التعليمي في الاستجابة للتحديات التي يواجهها، حتى أضحى الكل يقر ويجمع في مجتمعات العالم الثالث على فكرة أساسية مفادها أن حال المدرس في الماضي التليد رغم بساطته وقلة موارده أجمل وأفضل بكثير من حاضره الحالي رغم تطور وسائل وآليات التدريس.
من الفظاعة أن يُنظر إلى المدرس نظرة منحطة تنزع منه جانبه الإنساني الإيجابي، فلا يرى فيه سوى نقائصه وهفواته، لكن الأفظع من ذلك أن يحاسب على شيء ليس فيه أصلا، وإنما ألتصق فيه بتهمة باطلة جراء إشاعة البهتان وإطلاق الأكاذيب عليه، للنيل منه بتشويه صورته والحط من قيمته الرمزية، لقد أصبح المدرس مادة دسمة يسهل التشهير به وتحريض وتجييش المجتمع عليه وإثارة الرأي العام ضده، وكأنه هو من تسبب في أزمات الأوطان وأغرقها في مستنقع الفساد والاستبداد، رغم أن حقوقه تعرضت للاغتصاب بغيا وديست كرامته عنوة، فغدَا بذلك ذليلا مهانا في نظر غيره، على هذا نقول بأن هذا النظر هو عامل أساسي في تشكيل وقولبة التوجهات، حيث أن سلبية التصورات والتمثلات لذات المدرس داخل مجتمعه تبخس من مكانته، وتنزله إلى الدرك الأسفل من البنية القيمية في مجتمعه، وتفقده قيمته الحقيقية بين الناس، ومن المعلوم أن الجانب القيمي له دور أساسي في تقوية أو إضعاف رمزية أي شخص داخل المجتمع فما بالك بالمدرس، وبمجرد ما أن يتدهور هذا الجانب إلا وتتقهقر معه منزلة الإنسان الذي يقوم بمهمة التدريس عند العوامَ.
إن الناظر بعين البصيرة لواقعنا هذه الأيام ليرى بمنتهى الوضوح جرأة البعض التي وصلت حد الوقاحة المفضية إلى الاعتداء على رجال ونساء التدريس والإيقاع بهم كيدا وزورا، ونشر ذلك في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في صورة محرفة لا تمت إلى الواقع الحقيقي بصلة، فيصبح المدرس بالتدليس والتضليل في موضع يشار إليه على أنه هو الظالم والمعتدي، الشيء الذي أسهم بشكل كبير في ذهاب هيبته الاعتبارية والكاريزمية وحلول التبخيس والاحتقار مكانها، ولا يمكن إنكار وجود بيئة بكاملها تعمل كل ما بوسعها للتقليل من شأن المدرس، بحيث لم يبقى له أي اعتبار يذكر جراء التهميش والغُبن الذي يواجه، كما أنه لم يعد حتى المتعلم قابلا لفكرة أن من يدرسه يجب أن يحظى بالاحترام والتقدير، وما هذا الذي أصبح ظاهرا بشكل واضح إلا نذر يسير من الدسائس الخبيثة التي تحاك، وما خفي أكثر خبثا مما يتصور، ويزداد وضع المكلف بمهمة التدريس تأزما وتدهورا مما يطرح ألف سؤال وسؤال يحتاج كل واحد منها لجواب صريح، لذا يجب الوقوف باستعجال على أبرزها: لماذا لم يعد للمدرس قيمته الرمزية بالرغم من أنه الفاعل والمسؤول عن العملية التعليمية التعلمية داخل فضائه المهني؟ وما الذي يترتب عن تشويه صورة المدرس والحط من قيمته؟ ومن الذي سيدفع ثمن ذلك؟
يجمع المتتبعون للحياة المدرسية على حصول تدهور خطير لقيمة المدرس الرمزية خاصة عند السلطات المشرفة على هذا القطاع الحيوي، وتدنت أيضا هذه القيمة في نظر المتعلمين وأولياء أمورهم، وعند باقي أفراد المجتمع عامة، فيكفي أن تتوجه بالسؤال حول المدرس إلى أحد من هذه الفئات حتى يتأكد لك بشكل قاطع أن المسؤول الأول عن عملية التدريس لم يعد له أي اعتبار بالأساس، والذي يستقرئ واقع حال المدرس في المجتمعات التي تعاني من اختلالات قيمية وتتخبط بشكل فاضح في تناقضات اجتماعية، يجد أن هنالك حرب مقصودة ضد الشخص القائم بمهمة التدريس، للإطاحة بقيمته الرمزية وجعلها تعيش تحت وطأة الذل الاجتماعي والإذلال النفسي، وذلك راجع لدافعين أساسيين تندرج تحتهما باقي الدوافع التي تشتمل ضمنيا على عواقب هذا الحط المتعمد:
أولا: محاولة وأد الفكر الواعي والإدراك الحقيقي للأمور الواقعة، خصوصا وأن المدرس له دور أساسي في خلق الوعي السليم في الوسط الاجتماعي، لهذا يتم الاعتماد على سياسة تقوم على توهين المدرسة العمومية، بحيث يكون فيها تبخيس منزلة المدرس فعل متعمد مع سبق الاصرار، فالحكومات التي لا تقتنع بأن التدريس ورش منتج وتعتبره قطاعا يثقل ميزانية الدولة من دون أية فائدة لا يمكنها أن تقدر المدرس وترفع من منزلته، الأمر الذي ساهم في ظهور أجيال من المتعلمين الذين لا يقدرون رجال ونساء التدريس، لأنهم بالأساس لا يؤمنون بجدوى تدريسهم، لهذا نُصِّر في رأينا على أن انحطاط القيمة الرمزية للمدرس يكون بدافع فقدان عملية التدريس ككل لقيمتها، أي أنه طالما لم يعد لهذه العملية قيمة في المجتمع فإن القائم بها يفقد بدوره قيمته الرمزية.
ثانيا: محاولة توجيه الرأي العام نحو الدخول في مواجهة مع هيئة التدريس، عوض مواجهة سياسة الدولة الفاشلة في هذا القطاع، فالانقياد والإذعان للرأي التضليلي الذي يخدم الحكومات المتحكم في سياستها خارجيا من طرف صناديق الاقتراض الدولية، لأنها تسعى من وراء ذلك إلى إزالة الحماية المجتمعية للتدريس العمومي، لهذا فهي تحاول بكل ما أتيت من قوة الإجهاز عليه بطريقة غير مباشرة؛ من خلال تنفيذ خطط مدروسة تستهدف هذا النوع من التدريس في شخص المدرس للنيل من قيمته الرمزية، فيحصل النفور منه طواعية بعد اعتبار ما يقدمه من خدمة رديئة تعليميا وتربويا، لكي تسهل عملية خوصصة المدرسة العمومية، ليكون التدريس ذو الجودة العالية حكرا على نخبة معينة داخل المجتمع في إطار إعادة نفس النخب، وكذا فتحه على الاحتكار والاستثمار لفائدة الرأسمال الطفيلي تمهيدا لتسليعه وتبضيعه، بالموازاة مع هذه الإجراءات اللاشعبية يتم التنصل من مسؤولية ما آلت إليه أوضاع المنظومة التربوية وتحميلها للمدرس والترويج لهذه الفكرة بجميع الطرق والوسائل، وبالتالي سيصير المجتمع كله في صراع معه، لأن نظر غيره إليه سيكون محصورا في اعتباره المسؤول على الواقع المزري للتدريس، الشيء الذي سيضعف من قدراته لا محالة، لأن طاقاته لا يمكنها أن تضاهي كل تلك القوى التي تهاجمه، فيصير جراء ما يتعرض له إنسانا مقهورا، ويتحول على إثر ذلك من نموذج صوري زاخر بالقيم النبيلة وحامل لمعاني الرسولية والأخلاقية التربوية السامية، إلى كائن منبوذ يعيش في عالم يتكالب عليه فيه كل من هب ودب.
لسنا من أصحاب فكرة المؤامرة، لكن ما تطرقنا له وكل الذي يحدث للمدرس وما يتبعه من ردود فعل للرأي العام والسلطات الحاكمة في البلدان المتخلفة عن التنمية الإنسانية الشاملة يوحي بأن هناك تحاملا صريحا تجاه رجال ونساء التدريس، لذا نقول بصريح العبارة أن الحط من القيمة الرمزية للمدرس يفرز انعكاسات خطيرة، بحيث أنه تترسخ وتتجذر بذلك دونيته في المنظور الاجتماعي، فيوضع في صورة بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وتُسفه جهوده المبذولة في مهنته ورسالته المعطاءة الحافلة بالتضحيات، وكما قلنا سلفا هناك تخطيط محكم ومسبق لكل هذه النتائج، وهناك من دفع المجتمع ليتربص بالمدرس ويستغل انحطاط قيمته الرمزية لتصفية الحسابات معه، الشيء الذي من شأنه أن يؤدي إلى إفساد تام لمناخ العمل التربوي في المدرسة العمومية؛ بفعل مثل هاته الممارسات المفتعلة في حق المدرس، فأكبر خاسر لما يقع له هي المجتمعات التي ينتمي إليها لأنها بذلك تُحرم من النهضة والتقدم، وأكبر مستفيد هي الأمية والجهل وما ينتج عنهما، بل وستكون له تداعيات أخطر في المستقبل، وما كتبنا في هذا الموضوع إلا لنحذر من هذا ولنقول: كفى من الإساءة للمدرس الذي يعد عمادا للأوطان التي تريد لشعوبها الازدهار والرقي والالتحاق بالمجتمعات التي حققت سبقا وتطورا على جميع الأصعدة وفي كافة المجالات؛ فما وصلت إليه هذه الشعوب لم تكن لتبلغه لو أنها ما أعطت للمدرس قيمة رمزية عالية مع تطوير وتحسين مستواه من مختلف الجوانب، ويستحيل بلوغ الرشد الفكري والنهضة الحضارية مع تدهور شأن المدرس ومكانته.
علينا أن نكون صرحاء أمام الواقع الذي باستسلامنا له يزيد نجاح المسؤولين على قطاع التدريس في تحويل العلاقة بين المدرس والمتعلم من علاقة تربوية ومهنية مبنية على الإخلاص والعمل بضمير مهني وحس إنساني راقي إلى علاقة ميكانيكية يلزم معها أخذ الحيطة والحذر الشديدين. كما نتأسف كثيرا لأننا نجد فئة لا يستهان بها من المدرسين انساقوا وراء ما يتم الترويج له، ومن الموضوعية وإحقاق الحق الإقرار بأن المدرس يتحمل المسؤولية بدوره فيما وصل إليه وما آل إليه حاله، فلا يُسمع لحنجرته صوت أجش تهتز له الأرجاء إلا عندما يتعلق الأمر بوضعه المادي، ولم نسمع يوما عن إضراب وطني لجميع الشغيلة احتجاجا على انحطاط القيمة الرمزية للمدرس، آن الأوان لتعريض النفس لنقد ذاتي، لمراجعة القناعات المترسخة، والتصورات المتكدسة، والأهداف المسطرة، فمحاولة تصحيح المسار خير معين على تدارك ما يمكن تداركه كي تكون للمدرس قوة رادعة موازية لما يحاك له من سوء.
لست ربوت