في ذكرى الرحيل الأبدي لرجل قالت له العصامية انهض وأنا معك: (الجمعة 20 دجنبر 2013).بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية في ذكرى الرحيل الأبدي لرجل قالت له العصامية انهض وأنا معك: (الجمعة 20 دجنبر 2013).بقلم عبد الكريم التابي

في ذكرى الرحيل الأبدي لرجل قالت له العصامية انهض وأنا معك: (الجمعة 20 دجنبر 2013).بقلم عبد الكريم التابي

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، و‏‏‏أشخاص يجلسون‏ و‏مشروب‏‏‏‏



كان يرتب أغراضه بيديه...كان ينظم مواقيت أكله ونومه وصلاته وفق برنامج دقيق...كان يجمع لوازم سفره ثلاثة أيام قبل الموعد....كان ينزعج حينما لا تكون الأشياء الكبيرة أو الصغيرة كما يجب لها أن تكون...كان يحسب للتفاصيل الصغيرة أهميتها...كان بيته عامرا بأبناء الصلب والأحفاد والأصهار والأقرباء والعابرين...كان السلوك المدني للغرب في الدقة والاحترام يلازمه، رغم تمسكه بأصول الشرق وطقوسه..غيابه ترك فراغا لا يعوض. على روحه كل الرحمات.
الحاج باسو علا، هذا الممرض المساعد البسيط أشرف على تمريض إدريس المحمدي وزير الداخلية في حكومة عبد الله إبراهيم، و كان شاهد عيان على حركة التمرد التي أعلنها عدي وبيهي على الحكومة المغربية حينما كان عاملا على إقليم قصر السوق ( الرشيدية حاليا)، وعايش فصولا من مقام إمبراطور الصحافة (إيف ماس) مسؤول جريدة (Le Petit Marocain ) ) التي ستتحول فيما بعد إلى ( Le Matin ).
كما تكلف بمعالجة عسو باسلام قائد قبائل أيت عطا ، إثر اصابته بجروح في معركة بوكافر. ويتذكر الحاج باسو أن عسو أخبره بامتعاض شديد أن الاستعمار مازال قائما ما دامت اللغة الفرنسية تكتسح كل الإدارة وكل المرافق.
انتسب مبكرا إلى حزب الاستقلال، وحاز ميدالية الاستحقاق جراء مساهماته الفعالة في مكافحة وباء الطاعون .
قام بإعذار (ختان) مئات الأطفال في المناطق التي كان كادرا ومسؤولا طبيا فيها من "سمرير" الى "سكورة" ،الى "تودغا" ، الى "إكنيون" ،الى "تلوين". ومن جملة الأطفال الذين استهدفهم مقصه، الأستاذ الجامعي ودكتور القانون العام والعلوم السياسية المرحوم محمد البردوزي العضو السابق في منظمة 23 مارس، وعضو هيئة الإنصاف والمصالحة، وعضو اللجنة العلمية التي أنجزت تقرير 50 سنة من التنمية البشرية في المغرب وآفاق 2025.
تقمص الحاج باسو دور الطبيب الألماني "ألبرت شفايتزر" الذي سافر إلى أدغال إفريقيا ، وهناك اشترى كوخا صغيرا وضع فيه بعض صناديق الدواء والأجهزة الطبية، وعمل ليلا ونهارا ، حتى أحبه الجميع، ولقبوه بالساحر. بعد ذلك صدر أمر من السلطات الألمانية بالقبض عليه وترحيله إلى فرنسا وإيداعه السجن. وفي السجن كان هو الطبيب العضوي والنفسي لزملائه المسجونين. ولما أفرج عنه، أخذ يعزف في الحفلات الكبيرة، فجمع المال وعاد به إلى إفريقيا لمعالجة كل بائس فقير. بلغت سعادته منتهاها حين بنى مستشفى من 25 سريرا لمرضى الجذام أصدقائه الزنوج.في سنة 1952 وحصل على جائزة نوبل للسلام.
وأنا أحفر في تاريخ هذا الرجل ـ الحاج باسو علا ، والد زوجتي ـ الذي توفي منذ خمس سنوات خلت ـ فقد يخيل للقارئ أن الأمر يتعلق بشخصية أنهكتها مدرجات كلية الطب، فختمت مشوارها بنيلها لشهادة الدكتوراه، أو بشخصية من قيادات جيش التحرير بالجنوب الشرقي المغربي، أوبشخصية تيسرت لها سبل ومسالك القرب من دوائر القرار. إلا أن الأمر في مبتداه ومنتهاه يتعلق بكل بساطة برجل بسيط ، ذي سحنة سمراء ولكنة أمازيغية ضاربة جذورها في أعماق نبل وكرم وشهامة سكان قبائل أيت عطا .
رأى النور في بومالن دادس وهو لا يملك من متاع الدنيا، سوى ما ترك له الوالد من أعباء إخوة الصلب لإعالتهم من أجل استمرارهم على قيد الحياة في مغرب كان يعز فيه الخبز، وكان بقاء الإنسان حيا إنجازا بشريا عظيما.
أجبر الإنهاك الرجل على البحث عن ملاذ أكثر أمانا، وأكثر ضمانا للاستقرار إلى جانب الإخوة والعشيرة، فدفعه قدره لتطأ قدماه مستوصف المركز الذي يسهر الأجانب على تسييره. ولأن الشاب كان متقد الذكاء وسريع البديهة وواسع الطموح وقوي العزيمة، فقد اشتغل بادئ الأمر في مطبخ المستشفى، وبعده انتدبه الطبيب الرئيس ممرضا مساعدا مكلفا بتقديم بعض الخدمات العلاجية البسيطة.
لم يترك الفرصة تمر دون أن يترجم نباهته إلى استعداد فطري لاستيعاب علوم الفيسيولوجيا والصيدلة التي وفرها له أطباؤه ليتلمس خيوطها ودهاليزها. وزاد تعلمه للغة الفرنسية وشغله لمهمة الوسيط / الترجمان بين الأطقم الطبية الأجنبية وبين الأهالي، مكانة أضاءت له طريق المجد للغد الآتي بعدما صار اسمه نجما يسطع في كل الربوع، ويفيض لمعانه حتى خارج المجال الترابي والاداري الذي يشتغل فيه.
أصبحت للرجل حظوة مميزة عند رؤسائه، وفرض احترامه على ممثلي السلطات الفرنسية في كل “لابروفانس” دو ورزازات كما يحلو له أن يردد ، وغطت شهرته كل دوار ومدشر. ولم يعد الحاج باسو يكتفي بتقديم الإسعافات الأولية، بل صار طبيبا متعدد التخصصات من التوليد إلى الجراحة، إلى التشريح !!!إلى تحرير الوصفات العلاجية للمرضى. وكيف لايتحقق له ذلك وهو يخضع بين الحين والاخر لتكوينات الرسكلة le recyclage داخل أقسام وأجنحة مستشفيات البيضاء والرباط.
كان كلما زرته في بيته بمراكش طيلة الثلاثين سنة التي جمعتني وإياه في إطار علاقة المصاهرة، لا يكف عن تكرار تاريخه وتاريخ البلدة التي نشأ فيها وترعرع، وبنى فيها مجده وأفلح في أن ينجز المهمة وبالعلامة الكاملة.
وبالقدر الذي كان يجد في خير منصت ومهتم لهذا وبهذا التاريخ الحافل بنجاحاته وفتوحاته وخلافاته وصراعه مع خصومه، بالقدر نفسه كنت مشدودا لسماع تفاصيل ذلك المسار المهني الطبي الاستثنائي في مغرب ذلك الزمن المليء بالأمراض والأوبئة، وكذا تفاصيل وأحداث ووقائع سياسية ، أبطالها والفاعلون فيها يتوزعون بين الوطنيين المخلصين والخونة والسماسرة في الوطن والتاريخ. ويستحضر بكثير من الاعتزاز تقديم الواجب الوطني لفائدة سجناء الحركة الوطنية الذين يتم اعتقالهم في قلعة مكونة أو في بومالن دادس، تحركه في ذلك نعرات الوطنية الصادقة ونعرات الانتساب إلى قبائل أيت عطا المجاهدة.
في بداية علاقة المصاهرة معه، كان يحكي لي ولا يتوقف عن الحكي عن ذاكرته المهنية الفسيحة. ويوما ما أخرج حقيبته الخاصة، وقال لي: ربما قد تقول في نفسك لعل الرجل يخرف ويهذي، وأن ما كنت أحكيه لك يشبه روايات بعض قدماء المحاربين الذين يبالغون في إظهار كثير من البطولات الوهمية المضحكة، أما أنا فسأضع بين يديك من الوثائق والشواهد والتشجيعات وموسوعات الطب والصيدلة، ما يثبت صحة ما كنت أحكي. وبالفعل لم يكن الرجل إلا صادقا حينما أدهشني الكم الهائل من إنجازاته المستحقة في ملفه الشخصي.
فسلاما له وهو يرمق خيوط النور تتسلل من فجاج تودغا .
وسلاما له يوم أزهرت أشجار التين والخوخ في مسكنه الفسيح على الجنبات الفيحاء لدادس.
وسلاما له يوم لامست يداه أجساد الفقراء والأرامل والثكالى في دواوير ومداشر بومالن ونواحيها .
وسلاما له يوم ارتبط بكريمة الشهيد أحمد دحمان وساعدته بكل الصبر والجلد خلال هذه المسيرة الطويلة على إتمام مهمته زوجا وأبا وطبيبا ومواطنا خدم بلاده بكل الإخلاص والتفاني.
وسلاما له يوم أن غادر هذه الدنيا بعد أن أنهى المهمة الوطنية والأسرية على أكمل وجه.
سلاما له ولأبنائه الذين وفوه حقه من العناية والاحترام والتقدير، سليما معافى، وعليلا طريح الفراش ، وراقدا رقودا أبديا بكل اطمئنان بعدما عمل ما في وسعه ،ليتحصل فاتورة الثواب والجزاء ، والتي استحقها بميزة لا تقبل التحفظ.
(ملحوظة: لما أبنت الفقيد الحاج باسو بعد وفاته سنة 2013 بنص يتضمن بعضا مما ذكر في هذا المنشور، حظي بما مجموعه 2645 قراءة على أحد المواقع الإلكترونية ببومالن دادس).

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button