
نعم يمكن ان يوسم ادب السجون بكل هذه الصفات واذا تحدثنا عن هذه النوعية من الكتابة الموجعة فإننا حتما نتوقف عند احدى اهم الروايات العربية بلا منازع.
هي الرواية الصرخة صرخة المواطن العربي المحاصر بالفجائع اسير انظمة القمع والاستبداد التي تسلبه انسانيته عبر كل الادوات الممكنة والمتاحة.
“شرق المتوسط” رواية ايقونة بكل المقاييس صاغها الروائي الكبير عبد الرحمان منيف بالدم والدموع والأنات ، انات الانسان العربي الموعود بالاضطهاد منذ ان ترى عيناه النور لأول مرة وحتى عندما يغلق جفنيه عن اخر خيوط النور ايضا مودعا هذه الحياة.
تلك هي بلاد شرق المتوسط او مدن الملح كما اسماها عبد الرحمان منيف في عمل روائي اخر فذ ايضا. حيث كرس هذا الروائي نصه لفضح معاناة الانسان العربي في ظل الانظمة القمعية.
تكمن اهمية شرق المتوسط في كونها وثيقة ادانة ضد النظام الرسمي العربي تعري ممارساته وتفضح اساليبه الوحشية في التعاطي مع المواطنين الذين يخالفونه الرأي ولذلك استحقت عن جدارة الاحتفاء النقدي الكبير بها وتبوأت مكانة مخصوصة في المدونة السردية العربية على اساس انها الرواية السياسية الرائدة التي قال صاحبها بمنتهى الجرأة هذه عناوين القمع في بلادي.

كما ان الرواية قيمة في شموليتها وعمقها الانساني فإذا كان كاتبها قد خصصها لحال المعارضة السياسية في العالم العربي فإنه لم يخص تيارا سياسيا بعينه او طائفة فكرها دون غيرها باعتبار ان النظام السياسي الرسمي العربي لا يفرق بين معارضيه ويتعاطي معه بالضراوة نفسه وبادوات القمع ذاتها.
كما ان عبد الرحمان منيع جعلها شاملة لكل بلاد العرب دونما تحديد او تخصيص باعتبار اننا كلنا في الهم شرق كما يقال وعلى اساس ان القمع هو نقطة التقاطع بين كل الانظمة الاستبدادية التي بنت عروشها بجماجم البشر واسست مجدها على دموع وانات شعوبها ساعية الى خنق كل نفس حر.
ولكن من رحم الاوجاع يولد الاحرار ومن بينهم الكاتب الكبير عبد الرحمان منيف الذي استطاع ان يكتب عما يحدث في بلاد شرق المتوسط. واجتهد ليعري ما يحدث في الزنازين والاقبية التي يقبع فيها الاحرار ليتعرضوا لشتى الوان التعذيب والاذلال والاهانة.
هي من اول الروايات السياسية العربية التي تفتح وعينا المبكر عنها وهي من أول السرديات السياسية التي تطيح بالاحلام الوردية في اذهاننا وجعلتنا ندرك الفواجع التي يعيشها الانسان العربي انسان لا ذنب له سوى انه امن بالتفكير الحر.
ولأن للحرية ثمن غال يدفع من دم الانسان حتى اخر قطرة فقد دفع الاحرار الذين اختاروا ان يرفعوا اصواتهم في وجه الظلم والاستبداد فاتورة كل ذلك نيابة عن الذين اختاروا الصمت او التواطؤ.
هذا عن مضمون الرواية ورسالتها الكبرى اما تفاصيل الحكاية فهي تدور حول رجب اسماعيل رجل يشبهنا في انتمائه وفي رهافة حسه.
رجب اسماعيل شخصية روائية تقفز من الورق لتحتل عليك فضاءك الخاص الحميمي وتجعلك تشعر انك صادفت هذا الرجل في مكان ما وفي لحظة ما من حياتك. ولذلك عدت هذه الشخصية من اكثر الشخصيات الروائية خلودا.
يطالعنا منذ السطور الاولى لرواية شرق المتوسط راكبا البحر على متن السفينة أشيلوس التي منحها روحا وجعل يخاطبها بروح مكلومة وجسد عليل يتحدث رجب عن خساراته الكبرى خسارات فادحة دفعها على مذبح الوطن الذي قضى ردها من حياته في زنازينه واقبيته ، وطن نعرفه نحن ايضا يحمل ذات الملامح والخصائص التي يحدثنا عنها رجب الموجوع والمحاصر بالاسئلة.

يروي فاجعته للسفينة التي تهتز وتتخايل فوق جبال الموج يدخل معها في مناجاة احيانا وفي مونولوغ لا يصغي اليه احد ، هو البطل التراجيدي الذي يقف على حافة الهذيان والجنون بعد تجربة قاسية في سجون الوطن.
من شرق المتوسط يرحل البطل المهزوم الى الضفة الاخرى طلبا للعلاج هو الذي تركت سجون بلاده في روحه وجسده عللا يستعصي شفاؤها. هو الذي لاحقه النظام منذ ان كان طالبا ووقع ضحية كل الممارسات الاستبدادية وانتهت بالقائه في زنزانة تعرض خلالها لكل انواع التعذيب التي ابدع الكاتب في تصويرها وتوثيقها بشكل حي وصادم.
ونتيجة لضراوة ذلك التعذيب وقسوة الجلاد ولاستفحال مرضه واستعطاف اسرته رضخ رجب اسماعيل ووقع عل اعترافات و غادر اثر ذلك سجنه واتجه على متن السفينة الحلم الى مكان يمكن ان يضمد جراحه.

لا نعرف مكانا ولا زمان للرواية التي اراد صاحبها ان يكون في قطيعة مع التاريخ والجغرافيا او ربما معالم المكان كانت واضحة الى الدرجة التي جعلت صاحب الرواية يترك لذكاء القارىء وفطنته حياكة هذه التفاصيل وفق موقعه.
في هذه الرواية الوثيقة التي ارادها صاحبها مغسولة بامطار الشعر الذي يتجلى في التفاصيل الموجعة التي يرويها البطل وباقي الشخصيات وايضا في الوصف.
وقد راوح عبد الرحمان منيف بين الراوي الاول وهو رجب اسماعيل وبين الراوية الثانية شقيقته أنيسة التي تمثل الوجه الاخر لمعاناة البطل وهي تصوغ لنا وجع الاسرة وتنقل ابعاد القمع واثاره على اسرة بسيطة اختار احد ابنائها ان يصطف سياسيا وان يصدح برأيه ومن خلال الشقيقة تتجلى شخصية الأم التي تعيش الفاجعة في اعمق تجلياتها.

باسلوب موغل في الشاعرية يكتب منيف وجع الام التي اعتقل ابنها والقي به في غياهب السجن دون وجه حق وهي تحتضن جرحها بصبر ووفاء وتنتظره وسط المخاوف والوساوس التي تقتلها بشكل بطيء.
يمضي عبد الرحمان منيف بعيدا في فضح الانظمة القمعية ومظاهر تسلطها واستبدادها التي تلاحق الفرد حتى بعد خروجه من السجن وتوقيعه على اعترافاته وبعد ان تأكلته الامراض فيرصد لنا ملاحقة رجب اسماعيل الذي يعالج في فرنسا ليس هو فحسب فالتضييق يشمل اسرته ايضا وتحديدا زوج شقيقته الذي يجد نفسه مطلوبا دونما جريرة.
رغم مغادرة رجب اسماعيل للسجن فإن كوابيسه ظلت تطارده وهو يحاول ان يتعالج من اثار التجربة القاسية التي عاشها ويجد نفسه في مواجهة الاطباء الذين يريدون ان يفهم سر وجعه لكن فاجعته اكبر من ان تروى ومع ذلك يقرر ان يروي تفاصيل ما حدث طوال خمس سنوات قضاها قابعا في السجن ويتعرض للتعذيب.
هنا تبلغ التراجيديا ذروتها في لقاء بين ضفتي المتوسط بين السجن والمستشفى بين الطبيب والضحية لحظة الاعتراف الباذخة شعريا وانسانيا قال فيها منيف بمنتهى الجرأة ما يجب ان يقال عن بلاد شرق المتوسط وما يحدث خلف اسوارها المغلقة.
ورغم ان رواية شرق المتوسط نشرت عام 1975 الا ان وقائعها لازالت تحدث الى اليوم وربما بشكل اكثر شراسة من قبل النظام الرسمي في بعض بلدان شرق المتوسط.

عبد الرحمان منيف هو احد اهم الكتاب العرب المعاصرين. له مدونة سردية ثرية ومهمة من اشهر اعماله الروائية الاشجار واغتيال مرزوق وقصة حب مجوسية ثم النهايات ومدن الملح وحين تركنا الجسر الى جانب سباق المسافات الطويلة والان وهنا وارض السواد . وكتب بالاشتراك مع صديقه جبرا ابراهيم جبرا رواية عالم بلا خرائط.
كما كتب عديد السرديات التي لا تنتمي لجنس الرواية على غرار الديمقراطية اولا …الديمقراطية دائما وهو كتاب صدر عام 1995 ثم ثم بين الثقافة والسياسة وذاكرة للمستقبل.
الكاتب الكبير عبد الرحمان منيف من اصل سعودي ولد في الاردن عام 1933 ودرس هناك قبل ان يتم دراسته الجامعية في العراق بلد والدته وهو خبير اقتصادي برتبة دكتور حاصل على هذه الدرجة العلمية من جامعة بلغراد .و تنقل بين عديد المدن والعواصم وعرفته عديد المنافي.
وكان مساهما بشكل فعال في الحياة الثقافية العربية وحاضرا في المحافل الادبية الكبرى طوال مسيرته الابداعية. كما كانت له اسهامات في عالم الصحافة.
ظل طوال حياته مناوئا للانظمة العربية ومنحازا للانسان العربي اينما كان.
صنفت روايته شرق المتوسط ضمن افضل مائة رواية عربية نشرت في القرن العشرين وهي التي لامست موضوع القمع السياسي مبكرا.
وتوفي منيف عام 2004 بدمشق.
لست ربوت