مرت ثلاثون عاما على اغتيال صاحب ” حنظلة ” ذاك الطفل الفلسطيني الذي لم يكبر. ومازال يشيح بوجهه عنا ولا نلمح سوى قفاه إمعانا في السخرية المرة التي اختارها رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأشهر عندما ابتكر شخصية حنظلة والتبست باسمه حتى بات يكنى بها.
وحنظلة المشتق من مرارة الواقع العربي ومر العلقم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني اختار ان يكون ساخرا يقتلع الابتسامة المرة من أشواك اليأس والإحباط.
ويلعب لعبة التناقضات العربية التي يرصدها بشكل فني مدهش ورغم مرور عقود على ابتكار هذه الشخصية الكاريكاتورية الا ان المواضيع طرحها ناجي العلي لازلت متسقة مع الوقائع التي نعيشها اليوم على الصعيد الفلسطيني والعربي.
ومسار ناجي الحياتي يتقاطع إلى حد كبير مع جل الفلسطينيين الذين ولدوا في النصف الأول من القرن العشرين وعايشوا نكبة فلسطين وكانوا من المشردين الذين شكلوا شتاتا من اللاجئين في بلدان اخرى .
واستقر المقام بناجي العلي في لبنان بمخيم عين الحلوة بالجنوب وهناك نما الوعي السياسي في نفس الفتى الفلسطينيين الذي أرضعته فلسطين حليب الثورة والصمود.
اما موهبته الفنية الفذة فقد ولدت في الزنازين التي وجد نفسها يواجه جدرانها الصماء الباردة.
وهناك خط اولى الملامح التي ستشكل حنظلة العلي الصورة والرمز. وهذا نما حدا به في ما بعد الى ان يلتحق بمعهد الفنون لكن الظروف المادية الصعبة حالت دون ان يتم تحصيله العلمي.
وكان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني اول من ساند هذه الموهبة واحتضنها من خلال نشر اولى الرسوم له في مجلة الحرية.
ثم استقر في الكويت لمدة 11 عاما حيث باشر النشر في عديد الصحف وفي هذه المرحلة برزت للنور شخصية حنظلة مكتملة لتصبح شعارا للثورة الفلسطينية وأيقونة للثوار.
وعايش الرسام الفلسطيني الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي بكل ماسيها عندما قرر العودة لبيروت في عام 1974 ثم عاد الى الكويت غير ان الرقابة حاصرته ولم يعد قادرا على النشر فاختيار الرحيل الى لندن ليعمل في النسخة الدولية من جريدة القبس.
لكن التهديدات بالتصفية تكاثرت عليه حتى أصبحت أمرا واقعا عندما اطلق عليه النار في صيف 1987 عندما كان بصدد مغادرة مقر الصحيفة وتوفي بعد أسابيع من إطلاق الرصاص عليه.
ولا تزال وقائع الاغتيال المعلن لرسام الكاريكاتور الفذ غامضة الملابسات وان كان الجميع يجمع بكون الموساد الإسرائيلي هو من خطط ومول ونفذ.
واليوم وبعد مرور ثلاثة عقود على اغتيال ناجي العلي عادت الشرطة البريطانية لفتح الملف من جديد ووجهت نداء الى كل من له معطيات عن هذه الواقعة ان يدلي بها.
وأبدع الشاعر المصري عبد الرحمان الابنودي في هذا الغرض فقال عنه :
قتلت ناجي العلي لما رسم صورة
يواجه الحزن فينا براية مكسورة
لما فضحني ورسمني طبق الأصل
ما عرفشي يكذب والا يطلع قليل الأصل
الناس بترسم بريشة وهو ماسك نصل
كما كتب عنه عديد الشعراء والكتاب العرب مثل مظفر النواب واحمد مطر الذين شكل اغتياله فاجعة كبرى لهم.
كما برع الفنان نور الشريف والمخرج عاطف الطيب في تقديم ناجي العلي في فيلم يحمل اسمه قدم اثر اغتياله وكان من أفضل ما نتجت السينما العربية عموما ومن أهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية.
ورغم مرور عقود على اغتيال ناجي العلي إلا أن رسومه لازالت حاضرة وبقوة سواء في الصحافة العربية او في الأذهان باعتبار حنظلة أصبح رمزا إنسانيا ولم يعد مقتصرا على حدود ضيقة او يتناول قضية محدودة بل هو أيقونة لكل الأحرار وكل الذين يتوقون الى التحرر.
واعتبر ناجي العلي وفق الاتحاد العالمي لناشري الصحف من أعظم رسامي الكاريكاتور منذ نهاية القرن الثامن عشر.
وقالت عنه نيويورك تايمز انه اذا اردت ان تعرف راي العرب في امريكا فانظر الى رسوم ناجي العلي .
ورغم التصاق الرسام العبقري بمرارة المأساة الفلسطينية الا ان نقده الساخر كان شاملا لإسرائيل وأمريكا والحكام العرب والفلسطينيين أيضا. فنقده اللاذع والحاد تناول الجميع فكلما رصد الفنان اعوجاجا قومه بريشته التي كانت نصلا وليس ريشة كما قال الابنودي.
وقد اختصر ناجي العلي مسيرته بالقول : “مهمتي ان أتحدث بصوت الناس شعبي في المخيمات في مصر والجزائر وباسم العرب البسطاء في المنطقة كلها الذين لامنافذ كثيرة لديهم للتعبير عن وجهة نظرهم”.
لست ربوت