يشكل قطاع التعليم الجهاز الأول الذي تعتمده الدولة لغرس مبادئها ونشر قيمها والحفاظ على هويتها من الاندثار، كما أنه المورد الأول للكوادر العلمية والفكرية وللقوى العاملة المؤهلة التي تحتاج لها لتحريك دواليب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت المدرسة في العالم المتقدم هي المؤسسة الأنجع لتغيير المجتمع نحو الأفضل عبر الاستثمار في بناء الإنسان من خلال تطوير أحدث المناهج التربوية والنظريات العلمية الكفيلة بصقل بمداركه العقلية وشحذ مواهبه الإبداعية، ففي المقابل نجد أن الوضع في عالمنا العربي هو على النقيض تماما فقطاع التربية والتكوين ينظر إليه دوما على كونه قطاع غير منتج يفرخ الآلاف من العاطلين سنويا فضلا عن كونه يستنزف جزء هاما من الموازنة العامة وهذه الاتهامات لا تبرء ذمة السلطة الحاكمة فجزء كبير من الارغامات هي مسؤولة عنه عبر سوء التدبير أو التقصير في تطويره أو بفعل وجود نية متعمدة لإضعافه.
والحال أن للمدرسة العربية طابع سلطوي قهري يتخذ ملامح متعددة لا تخفى على العين، فأولا من حيث هندستها وعمارتها نجد غياب للألوان الدافئة التي تعكس الحرية وحب الحياة والبهجة في مقابل سيادة الألوان القاتمة كالبني والرمادي ومما لا شك فيه أن النفس تتأثر بالألوان المحيطة بها وعادة يضفي اللون البني والرمادي الشعور بالكآبة والقلق والخوف وهو ما يفسر كراهية المتعلم للمدرسة ومقته لوجودها، ومن جهة أخرى تمتاز من حيث العمارة بكونها بناية مكونة من عدة حجرات ذات صفوف متراصة ضيقة يحشر فيها عدد كبير من الطلبة لساعات طويلة في جو يسوده الانضباط وصرامة تامة كحال الثكنات العسكرية، ولا عجب في تسمية الوزارة الوصية في معظم البلدان العربية بوزارة التربية والتعليم أو التكوين فالتربية أولا ثم يليها التعليم في الأولوية حيث يوضح ما ذكرنا بأن رؤية الدولة التعبوية تقدس النظام على العلم.
المدرسة العربية ما زالت غارقة في الطرائق التقليدية البالية حيث المدرس هو المالك والمصدر الوحيد للمعرفة والمتعلم متلقي يقتصر دورها على الاستماع وتدوين المعلومة الجاهزة، بدون أي نقاش أو تفاعل |
وثانيا فالمناهج المقررة مبنية على مبدأ المقاربة بالكم دون الكيف، حيث تضم برنامجا دراسيا يفتقر لأدوات بناء واستثمار وتحليل المعرفة وإسقاطها على الواقع والبيئة المحلية، علاوة على كونه كثيف ومرهق لطرفي العملية التعليمية أي الأستاذ والمتعلم معا فالعديد من المعارف المدرسة إما مغلوطة وإما صارت متجاوزة بفعل ثورة المعلومات، وتلقن عموديا دون مناقشة على أساس أنه في نهاية مرحلة دراسية سيتم تقييم السعة الكمية من الرصيد المعرفي عبر امتحانات نمطية جافة وكأنها مسابقة في قوة الذاكرة لا أقل ولا أكثر.
وأمام منظومة كهذه لا يمكن أن تتطور المدارك العقلية ولن يتشكل الوعي النقدي الضروري لخلق الكفاءات العلمية والفكرية، فتفرغ العملية التعليمية من فلسفتها لتتحول إلى عملية شحن العقول بمعارف جاهزة مستهلكة سرعان ما يتم تخلص منها بعد انتفاء الحاجة منها، وللأمانة ففلسفة تقديس الحفظ والنقل من الأعطاب المتجذرة في بنية العقل الإسلامي العربي المسؤولة عن جموده وتبلده خاصة أن أي محاولة لنقاش والخوض في بعض المسائل الفكرية ذات الطابع الاجتماعي أو الديني هي ممنوعة ومحرمة.
وثالثا تتسم العلاقة التعلمية بحالة من الجفاء وكأن هناك عداوة مستحكمة لا يمكن الفكاك من براثنها ولهذا فغالبا ما يتمخض عن جو القهر هذا سلوكيات عدوانية من طرفين معا وهذا وضع طبيعي ينتجه الضغط العالي، وعوضا عن أن يتم العمل وفق مقاربة تشاركية حيث المدرس منشط وموجه والمتعلم هو محور العملية التعليمية التعلمية وشريك فعال، فأن المدرسة العربية ما زالت غارقة في الطرائق التقليدية البالية حيث المدرس هو المالك والمصدر الوحيد للمعرفة والمتعلم متلقي يقتصر دورها على الاستماع وتدوين المعلومة الجاهزة، بدون أي نقاش أو تفاعل وبالتالي يفقد النشاط التربوي جاذبيتها فيصير ممارسة قهرية ممقوتة في ذهن المتعلم وهو ما لا يسهم في بناء شخصيته أو تحفيز دافعيته للتعلم الذاتي. وحتى نفهم الوضع المميز للمدرسة العربية يمكن الاستشهاد بنظريتين في هذا الصدد قدمت أدوات منهجية دقيقة لتحليل طبيعة الفعل التربوية ولاستقراء عوامل ذلك الوضع ومقاصده الدفينة، وهي نظرية إعادة الانتاج للفرنسي بيير بورديو ونظرية التعليم البنكي للبرازيلي باولو فيريري ويمكن إسقاطها لتفسير الطبيعة القهرية والسلطوية للمدرسة العربية بشكل مبسط.
ينطلق المفكر الفرنسي بيير بورديو في نظريته إعادة الانتاج من فرضية أن المدرسة مرتبطة بعلاقة وطيدة بمحيطها العام، لا يمكن أن تنفصل عنه فهي تؤثر وتتأثر بالنمط العام علاوة عن ذلك فهي ليست فضاء محايد بعيد عن صراعات السياسة وتصادم القوى الاجتماعية، ففي المجتمعات الطبقية التي تتميز بحالة صراع شبه دائم للهيمنة على الثروة والسلطة تتحول المدرسة إلى فضاء لهذا الصراع ومن هذا المنطلق يتم إضعاف التعليم عمدا لكونه قد ينتج طبقات متوسطة أكثر وعيا بحقها في الثروة والسلطة.
وباستحضار هذه المعطيات سنجد تقاطعا واضحا في حالتنا، فالدولة العربية بطبعها سلطوية مبنية على مبدأ احتكار السلطة وتضيق نطاق ممارستها حيث يتجلى ذلك بنيويا في المجتمع مع وجود قاعدة واسعة من مختلف الشرائح الاجتماعية ونخبة ضيقة تركزت فيها السلطة والثروة دون سواها، وفي غالبية بلدان العالم العربي شكلت المؤسسة العسكرية والطبقات المتحالفة معها قمة الهرم الاجتماعي حيث تسيطر على المشهد برمته، وحتى تظل متسيدة فهي لا تتوانى عن كبح محاولات تغيير الوضع القائم وإضعاف حركية المجتمع المدني بتوظيف التعليم العام كجهاز أيديولوجي لنشر نمط معرفي أحادي لا يساير ثورة الفكر والعلم ولا يراعي الفوارق بين الأفراد ولا خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية والدينية وجعلهم في قالب واحد وحصر مقاصده في خلق وإنتاج يد عاملة رخيصة، مما يسهل في النهاية الإبقاء على نفس التراتبية الاجتماعية فابن فقير وابن الغني غني وحتى أن ارتقى أحد أبناء العوام ودخل لتلك الطبقة النخبوية الضيقة، فلن يهدد الوضع القائم لكونه في بنية لا شعوره تشرب بثقافة الوصولية ولن يجد حرجا في الانسلاخ عن طبقته نهائيا ومع المكاسب والامتيازات الجديدة سرعان ما يتحول إلى مدافع شرس عن انتمائه الجديد.
وفي نفس الاتجاه ينحو الفيلسوف البرازيلي باولو فيريري حيث ينفي وجود تعليم محايد فإما أنه أداة للتحرر أو أداة للقهر، ومن هذا المنطلق يرى بأن سمة عصرنا هي القهر التي يقصد به فرض مجموعة من القيم والتصورات وتعميمها قصد خلق أفراد متشابهين على مقاس السلطة وتكييفهم مع الأمر الواقع، وتتم عن طريق هندسة نمط تعليمي يسميه بالتعليم البنكي، حيث يتميز بأنه يحول المتعلمين عمدا إلى أشبه بالأرصدة البنكية تملئ معرفة ليتم استرجاعها لاحقا دون تمكينهم من حق التصرف في الرصيد المعرفي أو إعادة إنتاجه فتلك وضعية محظورة لكون المعرفة في حد ذاتها سلطة لا يمكن التعامل معها إلا عبر التأطير والتنظيم.
وفي المحصلة فإن الغاية من فلسفة القهر التربوي هو هندسة العقل ليتوافق مع الوضع القائم ودفعه لقبول الآفات الاجتماعية من مظالم اجتماعية وفقر وتسلط كأمر طبيعي جبري لا يمكن التخلص منه أو تغييره بالمرة، وعلى أساسها تنجح السلطة الاستبدادية في تعميم نمط مشوه من الثقافة يعادي الاختلاف وينمي هاجس الخوف من المجهول ولكل ما هو خارج نطاق المألوف، ولهذا فالمجتمعات المقهورة تعادي الانعتاق من الاستبداد والتسلط اذ تعتبره بالشر المطلق الذي لن يترتب عنه إلا الفوضى والخراب وما أشبه ذلك بقصة سكان الكهف الأفلاطوني الذين تصوروا أن العالم محصور في نطاق جدران كهفهم الصغير.
لست ربوت