يقال إنّ المأساة حين تتكرر مرة أو اثنتين تغدو نكبة، لكن عندما تستمر عاماً تلو العام حتى تبلغ ذكراها المئوية، فإنّها لا بد أن تكون مع وعد بلفور مهزلة تاريخية غير مسبوقة، توّجتها بريطانيا اليوم "فخراً" تستذكره من بقايا تركتها الاستعمارية بالإعلان عن الاحتفال بهذه الجريمة دون أدنى خجل من متابعة فصول المأساة!
يشهد اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، تأكيد الفلسطينيين والعرب، أنّ فلسطين بلد عربي، له أهله ومواطنوه الذين لا ينسون؛ أنّهم ذاتهم من لم يعبأ "آرثر بلفور" بما سوف يسببه لهم من شتاتٍ ومصادرة لمستقبلهم، وهو يمنح وعداً بإعطاء أرضهم إلى أغراب من أصقاع العالم، حين كان وزيراً لخارجية بريطانيا العام 1917.
المأساة حين تتكرر مرة أو اثنتين تغدو نكبة لكن عندما تبلغ ذكراها المئوية فإنها لا بد أن تكون مع وعد بلفور مهزلة تاريخية
ذات عهدٍ استعماري، كانت تداعب "بريطانيا العظمى" أحلام السيطرة والتمدّد باحتلالها مناطق مختلفة من العالم، فتناوب عدة سياسيين ومسؤولين بريطانيين، على دعم اليهود بإنشاء وطن لهم في فلسطين على امتداد الاحتلال البريطاني لها بين عامي 1917-1947، ولعلّ رسالة بلفور إلى روتشيلد، أحد أبرز زعماء الحركة الصهيونية في ذلك الحين، ليست سوى تتويج للدعم الذي وفّره أمثال السياسي البريطاني اليهودي هربرت صامويل، الذي كان وزير الداخلية في حكومة اسكويث العام 1915 حين قدم إلى البرلمان البريطاني مقترحات سرية بشأن تهويد فلسطين، وبدأ تطبيقها المندوب السامي اللورد بلومر بفلسطين منذ العام 1926.
رسالة بلفور، التي لم تتجاوز المئة وعشر كلمات، سوف تجتذب الملايين من الكلمات المتناثرة بين ثنايا السياسة والأدب والتاريخ، سعياً للتعبير عن الظلم والقهر الذي سوف يتعرض له الفلسطينيون بعد نكبة العام 1948 لاجئين ومشردين، لكن هذا كله لم يكن ذا قيمة ترجى لدى بريطانيا حتى اليوم، التي صرحت رئيسة وزرائها تيريزا ماي: "إنّنا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر"، بحسب ما نقله موقع "روسيا اليوم" بتاريخ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2017.
بهذه البساطة، تضرب بريطانيا بعرض الحائط كل ما زعمته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من محاسبة مرتكبي "الجرائم ضد الإنسانية".. المصطلح الذي تريد السيدة ماي الاحتفال على أنقاضه اليوم، وعلى أطلال المستقبل الطبيعي الذي كان يمكن أن تعيشه فلسطين.
بهذه البساطة، تضرب بريطانيا بعرض الحائط كل ما زعمته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من محاسبة مرتكبي "الجرائم ضد الإنسانية".. المصطلح الذي تريد السيدة ماي الاحتفال على أنقاضه اليوم، وعلى أطلال المستقبل الطبيعي الذي كان يمكن أن تعيشه فلسطين.
كيف لا يمكن أن تتحمّل بريطانيا تحديداً المسؤولية الأخلاقية عما تعرض له الشعب الفلسطيني من تشريد وظلم مجازر؟
وإذا كان القانون الدولي يحاسب، ويطالب بمحاكمة مجرمي الحرب، ودفع التعويضات، والاعتذار، كما حصل بعد حرب البوسنة، أو بعد حادثة تفجير طائرة لوكربي العام 1988، التي ضغطت لندن دون كلل من أجل "إحقاق الحق" لضحاياها، فكيف لا يمكن أن تتحمل بريطانيا تحديداً، المسؤولية الأخلاقية عما تعرض له الشعب الفلسطيني من تشريد ومجازر وتضييق سبل العيش، الذي تمارسه إسرائيل حتى اليوم، وهي تحول بين المواطن الفلسطيني، وحقه بالحياة ذاتها؟
ورغم أنّ التاريخ لا يعتذر عن وقائعه التي تبدو غير قابلة للتغيير أحياناً، إلا أنّه لا يمكن أن يمنح المشروعية لخلق أي كيانٍ يمارس الكراهية والعنف والتطرف، وهذا ما جعل الفلسطينيين، ومعهم أحرار العالم، يستمرون إلى يومنا هذا بالتمسك بحقوقهم في وجه إسرائيل، التي ما تزال تكابر أمام العالم في مواجهة حقيقة أنّها ثمرة وصمة عارٍ في وجه الإنسانية، كآخر دولة احتلالٍ باقية في العصر الحديث.
ورغم أنّ التاريخ لا يعتذر عن وقائعه التي تبدو غير قابلة للتغيير أحياناً، إلا أنّه لا يمكن أن يمنح المشروعية لخلق أي كيانٍ يمارس الكراهية والعنف والتطرف، وهذا ما جعل الفلسطينيين، ومعهم أحرار العالم، يستمرون إلى يومنا هذا بالتمسك بحقوقهم في وجه إسرائيل، التي ما تزال تكابر أمام العالم في مواجهة حقيقة أنّها ثمرة وصمة عارٍ في وجه الإنسانية، كآخر دولة احتلالٍ باقية في العصر الحديث.
المثير للجدل، تعنّت بريطانيا باعتزازها بقرارٍ أنتج ما أنتجه من جرائم تترى على مدى مئة عام، وهي التي تتشدّق كل يوم بحريّات مواطنيها وحقوق الإنسان والتصدي للإرهاب، فلم يهزها مشهد مئات آلاف البسطاء الحالمين بالعودة، وهم يحملون مفاتيح بيوتهم التي ساهمت بطردهم منها وتسليمها إلى أيدٍ غريبة دون أن يرفّ لها جفن.
لا يبدو اليوم أنّ ثمة ما تغير في موقف "الدول العظمى" تجاه ممارسات الاحتلال بحق فلسطين وشعبها، كأنّ مئة عام ليست كافية ليستوعب العالم أنّه لا يمكن أن يدافع عن تقدم البشرية وتسامحها وإنسانيتها، دون أن يوقف عار ما ارتكبت يداه ممارسة أو تواطؤاً بالسكوت.
لا يبدو اليوم أنّ ثمة ما تغير في موقف "الدول العظمى" تجاه ممارسات الاحتلال بحق فلسطين وشعبها، كأنّ مئة عام ليست كافية ليستوعب العالم أنّه لا يمكن أن يدافع عن تقدم البشرية وتسامحها وإنسانيتها، دون أن يوقف عار ما ارتكبت يداه ممارسة أو تواطؤاً بالسكوت.
قدم الفلسطينيون ومعهم العرب تضحياتٍ لا تحصى. خاضوا في فلسفة الممكن انتفاضات ضد الظلم، كم تحدثوا عبر الشاشات والصفحات عن مفاتيح بيوتهم وعبق أرضهم وحفيف أشجارهم، وكم نسجوا تاريخهم مجادلين العالم أن نحن هنا وسنبقى.. عاد قليلون متمسكين بحلم الدولة والسلام، أما البقية العظمى فما يزال يحدوهم الأمل، غير معوّلين كثيراً على أن يفك الآخرون طلاسم هذا الطغيان، وهم مع هذه الذكرى اليوم ينتظرون كما دأبُ الصابرين دوماً أضعف الإيمان من هذا العالم بردّه على محاولة الحكومة الفلسطينية إيقاظ المسؤولية الأخلاقية لدى الأمم المتحدة، برفع قضية ضد بريطانيا لرفضها الاعتذار عن وعد بلفور.. هذا الوعد الذي جعل أحفاد بلفور روبرت لويد جورج، وغوينيث- دانيال يشعرون بالعار؛ لأنّ جدّهم قام بعمل مخجل "فاقد للشرعية"، كما عبّرت صحيفة "وول ستريت جورنال" التي ذكرت أيضاً أنّ حفيد الزعيم الهندي غاندي سيتظاهر أمام البرلمان البريطاني، مؤكداً أنّ شمس الحق لن تغيب، ولو طال زمان الظلم والظلام.
لعل الكلمات التي يمكن توجيهها إلى بريطانيا اليوم، لن تكون جديدة أكثر مما قاله مؤرخها الأشهر أرنولد توينبي: "إن مأساة فلسطين ليست مأساة محلية، إنّها مأساة العالم؛ لأنّها ظلمٌ يهدد السلام العالمي".
لعل الكلمات التي يمكن توجيهها إلى بريطانيا اليوم، لن تكون جديدة أكثر مما قاله مؤرخها الأشهر أرنولد توينبي: "إن مأساة فلسطين ليست مأساة محلية، إنّها مأساة العالم؛ لأنّها ظلمٌ يهدد السلام العالمي".
لست ربوت