أدب_السجون | رواية "شرق المتوسط" فايز علام

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية أدب_السجون | رواية "شرق المتوسط" فايز علام

أدب_السجون | رواية "شرق المتوسط" فايز علام

تبدأ رواية "شرق المتوسط" لـ "عبد الرحمن منيف" بوصف الباخرة "أشيلوس"، التي تحمل على متنها بطل الرواية "رجب اسماعيل" وهو في طريقه إلى أوروبا للعلاج. "أشيلوس تهتز، تترجرج، تبتعد بحركة ثقيلة تشبه رقصة ديك مذبوح، والميناء عند الغروب، يستقبل الأضواء الرخوة: يعلكها بسأم ثم يتركها فتسقط، ترتجف فوق الماء، ثم تذوب وضجة البشر في تلك الساعة المليئة باللاجدوى، أشبه ما تكون بأصوات جراء مخنوقة". بهذه اللغة الشعرية الباذخة التي تبدأ بها الرواية، لن تتوقع أبداً أن صفحاتها تخفي كماً من العذاب والأسى يفوق أي احتمال، وأنك في صدد دخول رواية تتحدث عن السجن السياسي وفظاعاته.
لا تحدد الرواية التي تجري أحداثها بعد خروج "رجب" من المعتقل، مكاناً جغرافياً معروفاً لها، بل تكتفي بالإشارة إلى أنها تحدث في بلدان "شرق المتوسط"، وهي أيضاً لا تنشغل بتقصي ما حدث داخل جدران الزنزانة فحسب، بل تذهب أبعد من ذلك. فعبر تقنيتي الاسترجاع والتذكر، نعرف لمحات سريعة عن حياة "رجب" قبل الحدث الجلل الذي غيّر مجرى حياته، ونعرف أسباب الاعتقال. أما سمة الرواية الأبرز، فهي أنها تتفحص عميقاً الآثار النفسية التي تركها السجن في داخل السجين بعد خروجه، والذكريات المؤلمة التي ترافقه ولا تبرح خياله ورأسه.
تحكي الرواية عن شاب ثلاثيني، شارك في العمل السياسي أيام دراسته في الجامعة، وسجن بسبب ذلك، وكيف مورست عليه الكثير من الضغوط من قبل المسؤولين عنه في السجن كي يوقع وثيقة، يتعهد فيها أنه لن يشارك في أي نشاط سياسي بعد خروجه. رجب كان يرفض التوقيع، لأنه يعتبره خيانة لقضيته، ولأن توقيع أي معتقل هو وسيلة للضغط على الآخرين كي يوقعوا أيضاً، وتالياً ضمان تفريغ أي نشاط سياسي من كل الفاعلين فيه.
بعد خمس سنوات، يرضخ "رجب" لمطالبهم، خصوصاً بعد مرضه وتوسلات عائلته، فيوقع التعهد ويخرج. لكن ذلك التوقيع سيكون عذاباً قاسياً يذكّره كل لحظة بانكساره وضعفه: "السادسة، تلك الساعة اللئيمة التي جعلت نهايتي حقيقية، مؤكدة، نهائية. قبل ذلك كنت رجلاً وبعد ذلك أصبحت شيئاً آخر. لم يحتمل التوقيع إلا ثانية صغيرة، حصل الأمر بسرعة، اضطربت يدي واضطرب التوقيع، نهاية التوقيع طويلة، مشوشة. آه لو توقفت في تلك الثانية، آه لو توقفت!".
يتناوب السرد في الرواية بين صوت "رجب" وصوت أخته "أنيسة"، فيفرد الكاتب فصلاً لكل منهما بالتناوب إلى أن تكتمل الفصول الستة. "أنيسة" تقدّم الحدث من وجهة نظرها، فتروي عن حياة العائلة بعد اعتقال أخيها، وتروي مشاهداتها عنه بعد خروجه، مشيرة إلى التغييرات النفسية والجسمانية التي طرأت عليه. كما تحكي عن "هدى" الفتاة التي كان يحبها قبل اعتقاله، وكيف صبرت وتحمّلت عذاب الانتظار، قبل أن تقرر أن تتزوج وتنساه. كما يكون لـ "أنيسة" دور بارز في الحفاظ على أوراق "رجب" التي كتب فيها قصة سجنه، فهي ترفض أن تحرقها كما أوصاها أخوها، وتدفع بها إلى النشر ليقرأها كل الناس.
تقدم الرواية صورة للأم التي يعتقل ابنها، والمعاناة التي تعانيها بسبب ذلك، فـ"أم رجب" تحتفظ في ذاكرتها بمشاهد اعتقال ابنها أمام عينيها، ثم تدخل في اكتئاب تام وتعصب جبينها بشريط أسود، وترفض الأكل، وتعيش مخاوفها من أن يموت ابنها تحت التعذيب. "كنت ألوم أمي كثيراً، وأنا أراها كالنحلة تحوم في البيت والأزقة طوال النهار، كانت تقضي وقتها أمام باب السجن، وعندما تريد أن تستريح تذهب لأم سجين آخر وتبدآن معاً الندب والذكرى".
يرصد الكاتب كيف تتعامل الأنظمة القمعية مع معتقليها السياسيين، فهم لا يكتفون بما يفعلونه في السجن فقط، بل يلاحقون الفرد حتى بعد خروجه، ويطلبون منه التعاون معهم من خلال كتابة تقارير عن الأشخاص الذين لديهم أي نشاط سياسي، أو غيرها من الطلبات. كذلك يتخذون كل الوسائل الممكنة التي تثبت أن السجين السابق لن يتحدث بشيء عما جرى له داخل المعتقل من عذاب لا إنساني، حتى لو كانت الوسيلة لذلك اعتقال أحد أفراد أسرته ممن ليس له علاقة، فبعد سفر "رجب" للعلاج في فرنسا، تقوم قوات الأمن باعتقال "حامد" زوج أخته، ويخبرونه أن خروج صهره متوقف على صمته وعودته إلى الوطن!
عبد الرحمن منيف كاتب سعودي، ولد في الأردن عام 1933، لأب سعودي وأم عراقية، وتوفي في دمشق عام 2004. له العديد من المؤلفات النظرية والقصصية، وإحدى عشرة رواية، من أبرزها: خماسية مدن الملح، ثلاثية أرض السواد، حين تركنا الجسر، الأشجار واغتيال مرزوق.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button