الخطاب الصحفي:
يتحدد الخطاب الصحافي بأنه ” مقول (ملفوظ) وصفي أو تفسيري أو نقدي.” والمقصود بالوصف عندما يصف عنصرا من عناصر الواقع أو الحدث، والمقصود بالتفسير عندما يتجاوز الوصف إلى بيان أسباب ونتائج العنصر أو الحدث، أما أن يكون نقديا فعندما تمسي ذات المتكلم أساسية بحيث تحضر الذات العارضة للحدث من وجهة نظرها.
والذي يحكم هذا الملفوظ هو بناؤه النسقي الذي يجعل منه خطابا ينطبق عليه ما ينطبق على مختلف الإنتاجات والنصوص الوسائطية والتواصل الإعلامي، إن الإنتاج الصحافي “نسيج من العناصر النمطية التي تؤسس البنيات الكبرى: الخط، الصوت والصورة، وبالمماثلة تتولد البنيات الوسائطية عن تفاعل آليات الكتابة، التصويت والتصوير، لتتخذ صورة نص مكتوب أو مسموع أو سمعي بصري… إن النص الصحافي حاصل لا محالة عن تفاعل ثلاثة مجالات: اللغة، التواصل، والمعرفة.”
وتتنوع الأشكال التي يتخذها الخطاب الصحافي فقد يكون تقريرا إخباريا، أو افتتاحية جريدة، أو برنامجا تلفزيا، أو مادة إذاعية، أو غيرها…
هذا عن بنية الخطاب الصحافي أما وظيفته، فالخطاب الصحافي باعتباره مؤسسة لسانية، على غرار باقي الخطابات، غايته الأولى التواصل، والتواصل في مفهومه العلمي يعني التفاعل بين ذوات تفعل فعل التواصل. وفي مجال الصحافة، وما دام أن تحليلنا سينصب على الصحافة المكتوبة، فالنص الصحافي المكتوب “يحاول تكثيف قوته التعبيرية في وحداته اللسانية الانتقائية، ذلك أن التواصل، في مجال الصحافة المكتوبة، يقوم على أساس استراتيجية التفاعل الافتراضي للقارئ.” يسعى الخطاب الصحافي إلى تحقيق وظيفته التواصلية عبر تقنيات أو استراتيجيات المستوحاة من علوم أخرى كالبلاغة، والخطابة، وغيرها… ويمكن إيجاز هذه الإستراتيجيات في:
– إستراتيجية الإقناع:
وفيه يركز المخاطب على قضايا الخطاب، محركا كل الأدوات الإقناعية لتعزيز الترابط المنطقي بين المقدمات والنتائج، والإقناع في اللغة العربية يعني، خضوع المُخَاطَب لرأي المُخَاطِب.
– إستراتيجية الإفحام:
وفيه يركز المخاطِب على أدوات الخطاب، من خلال طغيانه على ذات المخاطَب، دون رضا هذا الأخير، ويظهر هذا النوع خاصة في الخطابات الإيديولوجية.
– إستراتيجية الاستمالة:
ومعناها الفوز بميل المخاطَب، بحيث إن المخاطِب يستميل المخاطَب عاطفيا فتتحقق بالتالي الوظيفة التأثيرية للخطاب.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الإستراتيجيات يتقاسمها الخطاب الصحافي مع أنماط خطابية أخرى، سياسية أو دينية … من ثمة يطرح السؤال/الإشكال، بماذا يتميز الخطاب الصحافي عن باقي الخطابات؟ فقط نقول إن أحد خاصياته كونه صادرا عن مؤسسة إنتاجية تسمه بسمات الصحفية.
تحليل نموذج من الخطاب الصحافي:
أ- منهجية التحليل:
عندما نتحدث عن الخطاب فنحن نتجاوز مفهوم الجملة وهذا يعني أننا في حاجة إلى وسائل تحليلية أخرى غير تلك التي تستعمل في تحليل الجملة لأن الخطاب أوسع من الجملة. لذلك سنعمد إلى توظيف مجموعة من المفاهيم التي تحضر في الدراسات المهتمة بتحليل الخطاب ومنها أساسا مفهوم الانسجام ومفهوم الاتساق.
فاتساق الخطاب هو ذلك التماسك القوي بين الأجزاء التي تشكل الخطاب ويقصد به أساسا الاتساق الداخلي بمعنى الوسائل اللغوية الشكلية الداخلية للخطاب التي تربط بين عناصر الخطاب أو أجزائه. أما الانسجام فهو النتيجة النهائية، فالانسجام لا يتحقق إلا بوجود الاتساق.
إذن، فغاية تحليل الخطاب، هو الكشف عن اتساق وانسجام الخطاب، ولن يتحقق ذلك، إلا عبر الانتباه إلى كل العناصر الخطابية الداخلية التي تسهم في الاتساق الداخلي للخطاب، ومن بين هذه العناصر البحث في توزيع الضمائر، كيف توزع الضمائر في النص؟ كيف توزع أسماء الإشارة؟ وكيف تتوزع الصيغ الزمنية؟ وأكثر من ذلك النظر إلى علامات الترقيم… أنه بحث عن كل ما يجعل الخطاب كلا متناسقا مترابطا ونسقا مبنيا.
والاتساق يكون داخليا باعتبار الخطاب بنية داخلية أي أنه نسق مكون من عناصر تجمع بين علاقات إننا هنا بصدد اتساق لغوين وهناك اتساق خارجي، كون الخطاب بنية خارجية منفتحة على السياق.
ثم هناك مفهوم الإحالة، والمقصود به الكشف عن نوعين من الإحالة:
– إحالة مقامية أو سياقية: تعود إلى عناصر خارج النص. – إحالة نصية أو مقالية: تحيل إلى ما هو داخلي في النص.
لفهم معنى الوحدات الإحالية في خطاب ما ينبغي لنا على الأقل معرفة هوية المتكلم والمتلقي والإطار الزمني والمكاني للحدث الخطابي. وإضافة إلى العناصر السالفة الذكر، التي من خلالها نحلل خطابا قصد بيان مدى اتساقه وانسجامه، هناك عناصر أخرى كالإضمار والحذف ومبدأ الافتراض والمقارنة…
يبقى في الأخير أن مفهوم الانسجام مسألة نسبية ذلك أن ما يبدو منسجما لمتلق يبدو عند أخر غير ذلك.
ب- تحليل نموذج من الخطاب الصحافي:
مقال للصحافي رشيد نيني، بجريدة الصحيفة المغربية عدد 38، الصادر بتاريخ 19يونيو 2006 تحت عنوان” الحكومة المدبلجة… “.
إننا أمام خطاب صحافي مرسل من قبل صحافي مستقل عبر مؤسسة صحافية غير تابعة ،افتراضا، لمؤسسة الدولة و لا لمؤسسة حزبية، موجه إلى قراء و متلقين غير محددين بالضرورة.
إنا غايتنا من تحليل هذا الخطاب هو الكشف عن مدى اتساقه و انسجامه، بمعنى آخر البحث عن العناصر التي تضمن له الانسجام، وبالتالي تضمن لهذا الخطاب خطابيته.
سنبدأ التحليل بالكشف عن العناصر الداخلية الناظمة لبنائه الداخلي وهي:
غنى الخطاب بمجموعة من الأفعال الإشراكية، كما لو أن المتلقي يشارك المرسل في فعل إنتاج الخطاب، كما في الأمثلة الآتية: “والمعروف…”، “ولو أننا نعرف”، “لا نراه”، “دعونا”، “والكل يعرف”، “ولا يخفى عليكم…”
وهذه الأفعال تطمس دهن المتلقي و تجعله أمام أمر واقع، هو الإذعان، والخضوع لسلطة هذا الخطاب.
تقنية الربط: لا نقصد به هنا ربط الفقرات فيما بينها، لأنه من البديهيات و لكن نقصد الربط بمفهومه الأعم أي الربط بين المنطلق و النتيجة أو المقدمة و الخاتمة. و هذا ما نلاحظه في هذا الخطاب فهناك انطلاقة و مقدمة استهل بها المرسل خطابه وسعى في الأخير إلى إعادة ربط النتيجة بالمقدمة، فنلاحظه يستعمل: “في الأخير”، “هذه هي الحالة التي انتهى إليها”، وهكذا…
استعمال أدوات الإشارة من ضمائر الوجود و ضمائر شخصية…:” وأنا أتصفح”، “والمعروف عن جطو أنه”، “هذا المتقاعد”، “فهؤلاء الإسبان…”
– العناصر الخارجية: و فيها يحضر:
عنصر المقارنة: “يحرك شفتيه مثلما يصنع مغنو…”، “بصري كود أسوة بدا فينتشي كود”. وهناك المقارنة على صعيد الكمية يقول: “دبلوم العلاقات الدموية له تأثير كبير… أكثر من دبلوم العلاقات الدولية”.
عنص السياق: الذي يحصر مجال التأويلات الممكنة ويقوي أساسا التأويل المناسب أو الصحيح: وفي خطابنا هذا نجد:
1- المرسل: الصحافي رشيد نيني.
2- المتلقي: القارئ أو محلل الخطاب.
3- موضوع الخطاب: رسالة سياسية في قالب صحافي (ساخر).
4- المقام: وفيه الزمان أي تاريخ صدور المقالة (الخطاب، الجريدة)، العلاقات المادية بين المتفاعلين غير حاضرة في حالتنا هذه.
5- القناة: كتابة صحفية عن طريق منبر إعلامي (الجريدة).
6- شكل الخطاب: نقاش و جدال هدفه الرد والتعقيب أي خطاب سجالي.
تقودنا كل هذه العناصر اللسانية و الخارج اللسانية، دون مواربة إلى القول إننا أمام خطاب صحافي متسق و منسجم لا يمكن فهم رسالته إلا عبر الوقوف على العناصر الناظمة لها، عبر تفكيك عناصره و إعادة تركيبها.
خلاصة:
ختاما فالخطاب الصحافي، كغيره من الخطابات، مؤسسة لسانية ذات بعد تواصلي، غايته التأثير في المتلقي، وتوجيه الرأي عبر مجموعة من التقنيات المستمدة من حقول فنية ومعرفية أخرى، كالبلاغة و الأدب، و السياسة…مما يشترط على محلله التسلح بزاد نظري قوي، و منهج علمي متين، حتى يتسنى له سبر أغواره و كشف خباياه، والوقوف على أدق مميزاته، وأن يكون المحلل كذلك قارئا لما وراء السطور، و ليس ذا نظرة تحليلية سطحية واصفة. وهذا كله بغية فهم الرسالة وتأويلها، وكذا الوقوف على تقنيات الخطاب الصحافي.