سأحدثكم اليوم عن رجل فريد في زمانه ، عظيم ببيانه وتبيانه ، عن شيخ قضى حياته يتعلم ويعلم ، فكان بحق علما في زمانه وعصره ، وإن كان قبيح المظهر والهيئة كما وصفوه فإنه كان جميلا بعلمه الزاخر ، وعلى قول الشاعر : إن الجمال جمال العلم والأدب .
إنه صاحب البيان والتبيين ، والمحلل البارع لطبائع الناس ونفسياتهم ، الجاحظ .
من هو الجاحظ ؟
هو الأديب والكاتب والفيلسوف أبو عثمان عمرو بن بحر ، ولد بالبصرة نحو سنة 775 م ، وتوفي والده وهو بعد حديث السن .
لقب بالجاحظ لبروز عينيه من حدقتيهما الواسعتين ، نشأ في أسرة فقيرة وشاهد كيف يكدح الفقراء من أجل رغيف الخبز ، لكن كانت تفور في دمائه رغبة جامحة لطلب العلم والنهل من بحور الثقافة ، فكان يقبل على أي كتاب فيعانقه معانقة المتيم بمعشوقته ، بل كان يكتري دكاكين لبيع الكتب فيبيت فيها ويقرأ ما بها من كتب .
وفي ذلك يقول أبو هفان وهو أحد أدباء البصرة : ‘ لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته ، كائنا ما كان ، حتى أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر ‘ .
إنها لذة القراءة ، وسحر التعلم ، وبركة طلب العلم ..هكذا كان العرب في أوج عصرهم الذهبي ، كانوا يقيمون المناظرات وأسواق الشعر ، ومجالس العلم ، كل يدلوا بدلوه ، فنتج عن ذلك إرث عظيم من الكنوز العلمية والثقافية .
لكن ضرورة الحياة تقضي بكسب القوت وتوفير الطعام فكان الجاحظ يبيع الخبز والسمك وبالكاد كانت تكفيه تلك الدريهمات المعدودة ، فلو كانت له القدرة آنذاك لاشترى كتب الأرض جميعا .
ويروى أن أمه ضاقت بانهماكه في الدرس والقراءة ، فطلب منها يوما طعاما ، فجاءته بطبق مليء بكراريس أودعها البيت ، وقالت له : ليس عندي من طعام سوى هذه الكراريس ، فخرج الجاحظ مغتما ، لكن هذا لم يمنعه من تحقيق هدفه ، بل أصر على طلب العلم وسط كل المصاعب وقسوة الأيام .
وهذا درس لكل متهاون يركن إلى الحائط ويلعن المجتمع والعالم وكل شيء ، وبأن الظروف لم ترحمه و…و….و….و….و…..أقول له اقرأ سيرة الجاحظ وانظر إلى المنزلة التي وصلها . لا أقول لك كن أديبا أو شاعرا ، بل اصبر وواجه كل المعوقات حتى تحقق حلمك الخاص أيا كان .
حياة الجاحظ العلمية
انتقل الجاحظ إلى بغداد لينمي معرفته واطلاعه ، فاتصل بكبار علماء الدين واللغة فكان يتقد حماسة لتعلم كل شيء ، وأكسبه ذلك ثقافة واسعة ، فبدأ بتأليف الكتب والفرحة تغمر قلبه ، فلأول مرة سيخط شيئا هو يملكه ، سيدون أفكاره الخاصة وعصارة ما تعلمه ليباري الكبار ، لكن للأسف لم يدرك المسكين أن البحر كان يحوي حيتانا كبيرة وهو كالسمكة الصغيرة يسبح وسطها .
فكانت كتبه تودع طي النسيان فلا يقبل عليها أي أحد ولا ينسخها أي كاتب أو مدون ، فاسمه غير معروف ولم يشتهر في أي مجلس أو سوق علمي ، ولقد فطن الجاحظ لهذا الأمر فكان يعمد إلى تسجيل كتبه تحت اسم كاتب مشهور من كتاب عصره أمثال ابن المقفع وسهل بن هارون ، وفي ذلك يقول :
‘ كنت أؤلف الكتاب الكثير المعاني الحسن النظم وأنسبه إلى نفسي فلا أرى الأسماع تصغي إليه ولا الإرادات تتوجه نحوه ، ثم أؤلف ما هو أنقص منه رتبة وأقل فائدة وأنحله عبد الله بن المقفع أو سهل بن هارون أو غيرهما من المتقدمين ممن صارت أسماؤهم في المصنفين فيقبلون على كتبها ويسارعون إلى نسخها لا لشيء إلا لنسبتها للمتقدمين ‘ .
وكأن الجاحظ يعكس المرآة على واقع اليوم ، فكثيرا ما تجد مبدعين في شتى المجالات يحاولون أن يتسلقوا سلم النجاح فيقدمون أشياء فريدة وحصرية فتجد نفورا من الناس لا لشيء إلا أن اسم صاحبها غير معروف ، فمنهم من يكمل بكل عزيمة وإصرار حتى يضع اسمه بجانب الكبار ، ومنهم من يستسلم للإحباط واليأس فيقتل حلمه في مهده .
بداية شهرة الجاحظ
لم يمل الجاحظ من محاولاته المتكررة في تأليف الكتب وإثبات اسمه ، وبالفعل تأتى له ذلك واكتسب شهرة واسعة وصلت حتى الخليفة المأمون ، فقربه منه وعينه كاتبا لديوان رسائله ، فعاش مكرما واختلط بكبار الفلاسفة والأدباء ، لكن لم يلبث طويلا في خدمة ديوان الخليفة ، فقد أحس بضيق أنفاسه وحريته ـ وهو الطائر الجوّال الذي يعشق الترحال وطلب العلم في البلدان والأمصار ، فكان رجال الدولة ورجال العلم يفاخرون دائما بصداقته وصحبته وذلك لما لمسوه من ثقافته العلمية العميقة وفكره الراقي ومواقفه من أجل قضايا الإسلام .
الجاحظ معتزليا
ينتمي الجاحظ إلى مدرسة المعتزلة والتي تقوم على تحكيم العقل والمنطق في كل شيء ، فكان كثير الجدل في قضايا حرية الإرادة ومسألة القدر وفي ذلك يقول الباحث في تاريخ الأدب حنا الفاخوري : ‘ ومذهب الجاحظ في التفسير والتأويل اجتناب الغريب منهما . فهو يذهب في أمور الدين مذهبه في أمور العلم ، وينبه على كل مسألة لا تطابق العقل ، ولا يريد إلا العلة والبرهان في كل قضية من القضايا ‘ .
الشيء الذي جعل الكثير من الناس يشككون في صحة دين الجاحظ لدرجة أن بعض الشعراء قال :
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه وهو القذى في كل طرف لاحظ
شخصية الجاحظ
بالرغم من أن الجاحظ كان قبيح المنظر ، جاحظ العينين ، لكن علمه وأدبه أكسبه هيبة وجمالا خاصا فكم من جميل الوجه يحمل في رأسه جهالة عمياء فما أغنى عنه جماله شيئا لأن مرده الشيب والترهل والعجز ، لكن العلم يبقى خالدا أبد الدهر .
كان الجاحظ ظريفا ذو حس فكاهي ودعابة ، ولم يكن بالرجل العصبي بل كان مبتهجا خفيف الروح ويميل إلى التفاؤل ، ألا أعظم بها من صفات .
/ شخصيا أعشق أمثال هؤلاء الأدباء وأكثر ما أعجبت بشخصيتهم وأدبهم الجاحظ وبديع الزمان صاحب المقامات المشهورة ، تمنيت لو عشت في ذلك العصر الذهبي حيث أنهل منهما العلم ، فأتذوق حلاوة لغة الضاد وأكتسب ثقافة فطاحلة اللغة وأربابها ، فيا لحظك لو كان معلمك الجاحظ ..يعني تخيل نفسك تقف أمام موسوعة علمية حية !
تلك هي أمة اقرأ التي تمجد العلم والعلماء ، وتنبذ الجهل والكسلاء ، واليوم نقف على الأطلال نبكي تراثتا وتذيلنا في آخر مراتب القراءة والتقدم العلمي ، وبذل أن نبدأ بأنفسنا فنمسك كتابا نستسلم لجلد ذواتنا ونرضى بواقعنا فنغوص في عوالم الهواتف المحمولة والدردشة الفارغة .
من مؤلفات الجاحظ
ترك لنا الجاحظ كنزا وموروثا ثقافيا ثمينا جدا ، إذ تعتبر مؤلفاته موسوعة علمية وأدبية كاملة وتعد مرآة تعكس المدى الذي وصله العرب ثقافيا وفكريا وحضاريا وعلميا وأبدأ بكتاب أفضله كثيرا فقد أمتعني أيما متعة بحكاياته الساخرة وهو :
كتاب البخلاء
كتاب رائع وممتع أنصح الجميع بقراءته حيث يتناول فيه الجاحظ طباع الناس وأخلاقهم ويخصص في ذلك فئة البخلاء ، حيث يتفنن في وصف وتحليل حرصهم الشديد على جمع المال وشح أنفسهم ، وذلك في أسلوب طريف وساخر ، فجمع بين الجد والهزل بطريقة كان من أوائل السباقين إليها .
– لطلب كتاب ( البخلاء ) ، والاستمتاع بقراءته في منزلك ، اضغط على الرابط أسفله ، أو على صورة الكتاب .
ومن ابرز مؤلفاته
البيان والتبيين
من أهم الكتب التي ألفها الجاحظ على الإطلاق ، حيث يطلق أديبنا الكبير العنان لأفكاره وخواطره ، فعنى بثقافات الشعوب وعاداتهم ، وعالج عدة قضايا وأبحاث أدبية ودينية انطلاقا من نظرته الشمولية الثاقبة ، فكان هذا الكتاب بحق موسوعة أدبية حتى أن ابن خلدون قال : ‘ سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين ، وهي : أدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب الكامل للمبرد ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي . وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها ‘ .
كتاب الحيوان
يعتبر من أهم الكتب العلمية النادرة عن الحيوان حيث يختص بذكر أنواع الحيوانات وطبائعها وعاداتها ، وهذا يدل على مدى غزارة علم الجاحظ وانفتاحه على مختلف العلوم والثقافات ( يونانية – فارسية – هندية ) وعلى جميع الديانات ، والفرق والمذاهب .
مجموعة من الرسائل
وهي رسائل متنوعة تضم موضوعات متنوعة وحكم بليغة جُمع بعضها وضاع منها الكثير .
مؤلفات أخرى
– كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال
– كتاب آي القرآن
– كتاب الرد على اليهود
– كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب
– كتاب أخلاق الشطار
– كتاب الأخبار وكيف تصح
– كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية
– كتاب الأمصار
من أقوال الجاحظ
لا أخفيكم أني استمتعت أشد الاستمتاع وأنا أعد هذا الموضوع الشيق عن شخصية رائعة وكبيرة مثل الجاحظ لدرجة أني لم أتعب أبدا في البحث عن مصادر سيرته أو الكتابة على لوحة المفاتيح بل تمنيت أن لا أتوقف أبدا عن الكتابة ، وأرجو كذلك للقراء الأعزاء أن يستمتعوا بالقراءة .
” ولا يستطيع أعقل الناس أن يعملَ عمل أجرأ الناس ، كما لا يستطيع أجرأ الناس أن يعمل أعمال أعقل الناس . فبأعمال المجانين والعقلاء عرفنا مقدارهما من صحّة أذهانهما وفسادها ، وباختلاف أعمال الأطفال والكهول عرفنا مقدارهما في الضعف والقوّة ، وفي الجهل والمعرفة . وبمثل ذلك فَصَلنا بين الجماد والحيوان ، والعَالِم وأعلمَ منه ، والجاهل وأجهل منه ” .
” لا خير فيمن كان خيره محضاً ، وشرٌ منه من كان شره صرفاً “
” الحاكم العادل من لم يعجل بفصل القضاء دون استقصاء حجج الخصماء “
” إن تباغض الأقرباء عارض دخيل وتحابهم واطد أصيل “
” وزعموا أنه لم يغدِر غادِرٌ قطّ إلا لصغر همته عن الوفاء وخمول قدرته عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم “
” الفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض ، وكل ما تقله أكنافها للإنسان خول ومتاع إلى حين . إلا أن أقرب ما سخر له من روحه وألطفه عند نفسه الأنثى ، فإنها خلقت له ليسكن إليها ، وجعلت بينه وبينها مودة ورحمة “
أكثر اقتباس أعجبني
” الكتاب هو الجليس الذي لايطريك ، والصديق الذي لا يغريك ، والرفيق الذي لايملك ، والمستميح الذي لايستريثك ، والجار الذي لا يستبطيك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ماعندك بالملق ، ولايعاملك بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق ، ولايحتال لك بالكذب .
والكتاب هو الذي أن نظرت فيه أطال امتاعك ، وشحذ طباعك . وبسط لسانك ، وجود بنانك ، وفخم الفاظك ، وبجح نفسك ، وعمر صدرك ، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك ، وعرفت بهِ شهر ما لاتعرفه من أفواه الرجال في دهر ، مع السلامة من الغرم ، ومن كد الطلب ، ومن الوقوف ببان المكتسب بالتعليم ، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقاً ، وأكرم منه عرقاً ، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء . والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر ، ولا يعتل بنوم ، ولا يعتريه كلال السهر ” .
وفاة الجاحظ
قدر الله للجاحظ أن يعيش طويلا وأصيب بمرض النقرس وكان كثيرا ما يردد :
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب درس كالجديد من الثياب
وسبحان الله فقد نشأ وسط الكتب ومات وسطها إذ تقول أغلب الروايات أنه وجد ميتا والكتب مطروحة عليه ، وكأنه همّ إلى رف مكتبته ليحصل على أحد الكتب فسقطت عليه المجلدات الضخمة فسلم الروح لبارئها وذلك سنة 868 م .
إنه رجل بحق وهب حياته وروحه للعلم والأدب والمعرفة فكان أحد أعمدة الأدب العربي الذي أبان عن عظمة اللغة العربية وسحر بيانها الفريد ، فخلف لنا ثروة من العلم والأدب تزخر بها الحضارة الإسلامية .
مصادر ومراجع :
– تاريخ الأدب العربي ( حنا الفاخوري ) .
– تاريخ الأدب العربي ( شوقي ضيف ) .