أدب السجون التعريف والمميزات بقلم:الباحث رأفت حمدونة

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية أدب السجون التعريف والمميزات بقلم:الباحث رأفت حمدونة

أدب السجون التعريف والمميزات بقلم:الباحث رأفت حمدونة

الأدب أحد أشكال التعبير الإنساني عن مجمل عواطف و أفكار و خواطر و هواجس الإنسان بأرقى الأساليب الكتابية التي تتنوع من النثر ، إلى النثر المنظوم ، إلى الشعر الموزون ، لتفتح للإنسان أبواب القدرة للتعبير عما لا يمكن أن يعبر عنه بأسلوب آخر[1].

وأَدب السجون والمعتقلات في فلسطين جزء لا يتجزأ من الأدب العربى ، الذى يتطلع للحرية ، وهو من أصدق أنواع الكتابة ، سواء كان ذلك على مستوى النثر أو على مستوى الشعر، واختلفت التسميات حول النتاج الأدبي في باستيلات العدو ، فذهب البعض لتسميته " بأدب الحرية " ، أو "بالأدب الاعتقالي"، وحرص آخرون على صبغه بمفاهيم إيديولوجية، فأطلقوا عليه " الأدب الأسير"، وذهب آخرون إلى تسميته "بأَدب السجون"، ولكن الجميع مجمعون على أنه يندرج تحت عنوان:"الأدب الفلسطيني المقاوم"[2].

وأدب السجون لم يكتب فى الصالونات المكيفة ، أو فى الحياة المرفهة ، أو بين الورود ، و البساتين التى تصدح فى سماءها الطيور المغردة ، بل كتب فى أجواء من الألم والأمل ، وفى ظل المعاناة والصبر والتأمل داخل محرقة العدو [3]، بين الجدران , ومن خلف القضبان ، وثمة فرقٌ بين من يكتبون فى الصالونات ومن يكتبون فى المعتقلات ، ففي الحالة الأولى يأتي أدبهم عاديّاً، أمّا في الحالة الثانية، فيضئ أدبهم بإشراقات جمالية، تضفي حياة روحية متوقِّدة، حيث أن المعاناة والألم مصدراً وحاضنة دافئة للعطاء والإبداع، المشع على طريق الحق والخير والجمال، حيث تتفجر الطاقات الإبداعية من خلال ممارسات القمع اليومية للسجان في أقبية السجون، التي شكلت تربةً خصبة لتفتُّح هذا الإبداع [4].

فى هذه الدراسة سيتطرق الكاتب لأدب السجون وتفصيلاته ، نشأته وعوامل ظهوره ، وظروفه ومميزاته ، وسماته الجمالية ، وأبرز التجارب الأدبية ، والكتابات الإبداعية من الشعر والنثر والرواية والقصة والخاطرة و المسرحية والرسالة .  

أولاً ، تعريف أدب السجون :

هنالك الكثير من الأدباء ممن اجتهدوا فى تعريف " أدب السجون " ، وجميعها متشابهة فى مضمونها وأصولها ، ومختلفة قليلاً  على الحدود والمساحات ، والأجناس و التصنيفات .

رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين الروائى ابراهيم الزنط " المعروف بغريب عسقلانى ، والدكتور الأديب والناقد والمحاضر فى الجامعة الاسلامية عبد الخالق العف توافقوا على أن " أدب السجون " هو الذى يكتبه الأسرى فى المعتقلات ، ويستوفى الحد الأدنى من الشروط ، وأضاف الأديب الزنط أن ما يكتب عن السجون والأسرى خارج السجن من غير الأسرى أو من المحررين لا يُعَدْ أدب سجون ، وممكن تسميته " أدب عن السجون " .  

الأسير المحرر الأديب والروائى شعبان حسونة تطرق لثلاث مدارس فى تعريف أدب السجون ، الأول : هو ما يكتب في الأسر و يهتم بقضايا السجن ، وهنا يتم استثناء الأدب العاطفي و البوليسي وغيره من الأنواع التي تكتب في الأسر.

الثانى : هو كل ما يكتب فى الأسر ، وهنا يتم استثناء ما كتب عن الأسر من غير الأسرى كرواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف وغيره .

الثالث : هو كل ما يكتب عن السجون وكل ما يكتب بأقلام الأسرى ، وأميل إلى هذا التعريف ، على أن يستوفى الشروط  في كتابة الرواية ، والقصة ، والقصة القصيرة ، والقصة القصيرة جدا ، والشعر العمودي ، وشعر التفعيلة ، والشعر المنثور ، واختلف المختصون بشمل الخاطرة ، والرسالة ، والمقال فى هذا الإطار [5].

الأديب الأسير المحرر د . فايز أبو شمالة  أن أدب السجون هو كل ما له علاقة بالوجدان والعاطفة الإنسانية والتعبير عن ذلك فنياً، وهذا يشمل القصة والرواية والشعر والخاطرة والأغنية والعمل المسرحي ، ويتكون من شقين ، شق يتعلق بالسجناء أنفسهم، وما كتبوه هم من داخل غرف السجن، وما وثقوه أثناء وجودهم في السجن وحتى بعد خروجهم منه، فالتجربة قائمة، وتنعكس في التعبير لسنوات طويلة الأمد، وشق يتعلق بما عبر عنه الأدباء خارج السجن، ولاسيما أولئك الذين تخيلوا حياة السجن، واستمعوا لها، وعاشوا بوجدانهم تجربة السجناء، وراحوا يعبرون عنها بصياغتهم الخاصة، وأسلوبهم القادر على تصور حياة السجن، والتعبير عنها بشكل فني[6] .

الأديب والروائى الأسير المحرر وليد الهودلى عرف أدب السجون بما يكتبه الأسرى فى داخل الأسر ، أو ما كتبه الأسرى من مذكرات بعد التحرر، أو ما كتب عنهم وعن السجون من غيرهم ، فى مجالات الرواية ، والقصة ، والشعر ، والمسرحية ، والخاطرة ، وألوان الأدب الأخرى ، ولا يشمل أدب السجون إنتاجات الأسرى من الدراسات والأبحاث والكتب فى مجالات من غير الإنتاج الأدبى [7].

الأديب والباحث الأسير المحرر سلمان جاد الله " أبو سليم " يعرف أدب السجون بالذي يكتبه الأسرى داخل السجون ، ويشمل الرواية ، والقصة ، والشعر ، والمسرحية، والزجل ، وحتى اللوحات الفنية ، وأدب السجون لا يشمل المقالات السياسة والتاريخ ، ويمكن أن يطلق عليها أدبيات الفصائل [8].

الأسير المحرر والأديب الدكتور خضر محجز عرف الإنتاج الأدبى بما يكتبه الأسرى خلال اعتقالهم ، حتى لو لم يكن عن السجن ، و أدب السجون هو كل إنتاج لغوي كتب فى السجون ، واتخذ الأسلوب الجميل وسيلة لإيصال محتوى ما ، كالشعر والقصة والرواية والمسرحية والنقد الأدبي ، والخاطرة الأدبية[9] .

ويرى الباحث كأسير وروائى ، إستناداً للتعريفات السابقة ، أن" أدب السجون " هو امتداد للأدب العربى لما يحمل من مميزات وخصائص ، وحس إنسانى وعاطفى ، ورقة مشاعر وأحاسيس ومصداقية ، وقدرة على التعبير والتأثير ، وأن " أدب السجون "  كل ما كتبه الأسرى عن السجن وغيره داخل الإعتقال وليس خارجه ، بشرط أن يكون من أجناس الأدب كالرواية والقصة والشعر والنثر والخاطرة والمسرحية والرسالة ، ويفرق الباحث بين  " أدب السجون " المستوفى للشروط الأدبية ، وبين " أدبيات وإنتاجات الأسرى الأخرى " التى كتبوها داخل الاعتقال ، كالدراسات السياسية ، والأبحاث التاريخية والأمنية والفكرية ، والكتب فى مجالات متنوعة ، والترجمات من الصحف الإسرائيلية وغير ذلك من المجالات .   

 

ثانياً ، تاريخ أدب السجون :

    أَنْ نكتب عن الأسر والسجن في الأدب الفلسطيني، يعني أن نبدأ ولو باختصار شديد بتاريخ أدب السجون ، خاصةً وأن الأدب فضاء رحب للحرية والانطلاق ، لذلك فهو يأبى القيود والأصفاد والأغلال ، إنه عشق وشوق وتطلع ، رغم كل ألوان المعاناة اليومية الملازمة له ، حيث يظل السجين على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة.

لقد أمدنا التاريخ العربي بذاكرةٍ خصبة أثراها عشرات بل مئات الشعراء الذين أُسِروا ، وكتبوا قصائدهم فى غياهب السجون ، كأبى فراس الحمداني ، والمتنبى ، وناظم الغزالي[10] ، وعبد الرحمن منيف ورواياته المشهورة عن السجون " شرق المتوسط "  و" الآن هنا " ، ويحيى الشيخ صالح فى أدب السجون ، والمنافى فى فترة الإحتلال الفرنسى ، وشعر السجون لسالم معروف المعوش ، ورواية خطوات فى الليل لمحمد الحسناوى وآخرين .

كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكراً على الفلسطينيين والعرب فقط ، بل هناك آخرون كتبوا داخل الاعتقال كالشاعر التركى ناظم حكمت ، وشاعر تشيلى العظيم بابلو نيرودا ، والروائى الروسى ديستويفسكى فى روايته " منزل الأموات "[11]وآخرون كثر ممن كانوا تحت الاحتلال واعتقلوا  .

ثالثاً ، العوامل التى ساعدت فى ظهور أدب السجون الفلسطينى :

وصف أ. د. صادق أبو سليمان [12] " أدب السجون " بما يصوغه الكاتب الأسير فى السجون وهو يحيا في مكان بئيس لا يوفِّر لساكنه إلا أبسط المتطلَّباتِ التي تحفظُ له حياته ، والذى يخرج من محْبسين: محبس السجن، ومحبس معاناة الأديب الذى ينسج التجربة الأدبية كلمات وجملاً وصوراً بديعة مفعمة بحيوية الإنفعال، وصدق التجربة والمشاعر ؛ والأديب الأسير الذى ينهل من مصدر المعاناة في سبيل الحرية[13].

و"أدب السجون" فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، وبرز قبل احتلال الخامس من حزيران/ يونيو 1967م ، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد[14]، أَثْروا الساحة الأدبية بهذا الأدب المقاوم، ولعل أبرز سماته تتمثل في التَّمَسُّك بالأرض، والتغني بالحرية، وحب الوطن، والالتزام والصدق المقاوم، الذي تجلى في نصوصهم،  فأُطلق عليهم: رواد شعراء المقاومة الفلسطينية ، الذى اتسم بالبعد العربي والبعد العالمي كقصيدة : " الثوار ينشدون"، لراشد حسين، و"أنا عبد" لفوزى الأسمر، موجهة لشعب إفريقيا، ولسميح القاسم عدة قصائد عن باتريس لومومبا، وإفريقيا، وزنوج أمريكا، ومقطع اسمه بطاقات إلى ميادين المعركة ، وهي سلسلة من القصائد القصيرة موجهة إلى المغني الزنجي بول روبنسون، وفيدل كاسترو، وكريستوف غبانيا، وثوار الفيتكونغ ، ولعل أبزها قصيدة محمود درويش"عن الأمنيات" [15].

وهنالك عدة عوامل ساعدت على الكتابة الأدبية لدى الأسرى وأهمها :

1-  دخول الكتب الأدبية للسجون فى العام 1972 ، وتوافرها فى نهاية السبعينيات ، والتى مثلت العصر الذهبى للأسرى على الصعيد الثقافى بشكل عام ، والطفرة الأدبية الإعتقالية بالشكل الخاص ، " فى هذه المرحلة ازدهرت القراءات الأدبية لتشمل طيفاً واسعاً من الأدباء على مستوى العالم ، ابتداءاً من غسان كنفانى واميل حبيبى فى مجال الرواية ، مروراً بنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين والطيب صالح ، وانتقاله تولستوى ، وديستويفسكى وتورجنيف ومكسيم جوركى ، وكتاب الأدب السوفيتى اللاحقين ، والعودة إلى شكسبير وتشارلز ديكنز وفيكتوهوجو فى أوروبا ، والانطلاق نحو الأدب الأمريكى وخصوصاً أدب جون جون شتاينبك ، وارنست همنجواى ، وكتاب آخرين من قوميات وتجارب وأجناس مختلفة فى مجال الرواية والقصة والشعر والمسرح ، والتى شكلت جامعاً ممتعاً ومصدراً غزيراً للمعارف والاستمتاع[16] " .

2-  تنامى قوة الحركة الوطنية الأسيرة ، وتطور أساليب الإسناد الجماهيرى لها ، ما أدى إلى لجم شراسة القمع الجسدى والفكرى ، وخفف من حدة القهر الممارس ضد الأسرى .

3-  التلفاز واضطرار إدارة السجن إلى السماح بإدخاله فى غرف السجن ، ما أتاح للمعتقلين للاطلال على العالم الخارجى من خلال الإطلاع على بعض البرامج الأدبية والفنية فى الفضائيات العربية التى سمحت بها إدارة مصلحة السجون ، ثم عادت ومنعت بعضها ضمن سياسة التضييق .

4-  دور المجلات والنشرات والصحف التى كان يصدرها المعتقلون ، واهتمامهم بنشر النصوص الأدبية والقصائد الشعرية فى مجلات أدبية خاصة " كصدى نفحة ، والصمود الأدبى.

5-  نشر أعمال بعض المعتقلين خارج أسوار السجن بعد تهريبها بطرق مختلفة [17].

ويرى الباحث أن تطلع الأسير للحرية ، وملء الوقت بالاهتمامات الثقافية وخاصة الأدبية ، التى تحمل الأسير نحو الأفق الواسع والممتد بلا نهايات ، وتحلق بروحه نحو الفضاءات الرحبة ، والخيالات اللامحدودة ، والتى تمثل تحدياً لمشروع السجان الساعى لحصر جسده وروحه فى أمتار بل سنتيمترات معدودة ليبقى معتقل الظروف والسياسات والإحساس بالمعاناة والعذابات ، كانت عوامل معنوية للعيش فى كنف الحياة وصناعتها من لا شىء ، ولا يمكن استبعاد عامل التحفيز والتشجيع والمنافسة من قبل المؤسسات الفلسطينية والعربية والدولية بقضايا الأسرى ، وأهمها جائزة الحرية السنوية التى تعلن عنها هيئة شؤون الأسرى والمحررين فى مجال " الرواية والقصة والفيلم والبوستر والأغنية " ، والتى شجعت الأسرى على المشاركة فيها ، فى ظل سهولة التواصل مع الخارج مع تهريب الهواتف النقالة التى سهلت تصوير ونقل أدبيات الأسرى لكل مكان ، ولعل من أبرز الأجناس الأدبية التى اهتم بها الأسرى فى السجون :

1-   المجلات الأدبية :

اهتم الأسرى بأدب السجون ، وشجعوا الكتاب والأدباء من خلال إنشاء عدد من المجلات الأدبية ، إضافة إلى المجلات الثقافية العامة كنفحة الثورة التى خصصت صفحات أو ملاحق أدبية ، ومن أبرز المجلات الأدبية :

1-  الصمود الأدبى : والتى صدرت فى سجن عسقلان فى العام 1986 ، وقد أسسها وأشرف عليها الأسرى " سلمان جاد الله ، رياض حلس ، وشاركهما محمد التلولى " ، وقد أثارت ردود فعل جيدة ، وترصعت صفحاتها بكتابات الشهيد عمر القاسم وبملاحظاته النقدية .

2-   صدى نفحة : والتى صدرت فى سجن نفحة فى العام 1989 ، كنشرة أدبية ، بعد ترحيله إليه ، ووجهت بالترحيب من قبل اللجنة الثقافية الوطنية ، واعتبرتها بعد شهرين من صدورها مجلة وطنية تعنى بشؤون الأدب ، وكان من أبرز من شاركوا فى تحريرها بالاضافة إلى مؤسسها الأسيرين " معاذ الحنفى ، وفايز أبو شمالة [18].

3-  مجلة "الهدف الأدبي"  : فى معتقل عسقلان، والتى صدرت عام 1981م، وأشرف على تحريرها كل من: منصور ثابت، وعبد الحميد الشطلي، ومحمود عفانة .

4-  مجلة "إبداع نفحة" : والتى صدرت عن اللجنة الثقافية الوطنية في معتقل نفحة، وأشرف على تحريرها كل من: فايز أبو شمالة، وسلمان جاد الله، ومعاذ الحنفي، ومحمود الغرباوي.

5-  مجلة "النهضة " : حطمت قمقم الفئوية التنظيمية ، وخرجت بثوب وطنى عام بدءاً بهيئة تحريرها ، مروراً بموادها وانتهاءاً بتوزيعها والإقبال علي قراءتها ، والتى عكست الأبعاد الحقيقية للتغيرات الكيفية التى أصبح عليها العامل الذاتى فى أوساط المعتقلين والتى انسجمت بدرجة نضجها مع نضج العامل الموضوعى دائم الحضور [19].

وعمل الأسرى بشكل جدي في الثمانينيات من القرن العشرين، على تهريب نتاجهم الأدبي خارج الأسر، واهتمت الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية والعالمية، بنشر نتاجهم، وكان من أهم الصحف والمجلات التي نشرت أعمالهم الإبداعية: البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي. كما عملت دور النشر والمؤسسات الثقافية والحزبية على نشر إبداعات المعتقلين في كتب، مثل: اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ودار القسطل للنشر، ودار الآباء والبنون للنشر، ودار الزهراء، ومركز التراث في الطيبة، وغيرها [20].

2-    شعر الأسرى :

يشكل شعر الأسرى الفلسطينيين ، أنموذجاً هاماً من نماذج شعر المقاومة ، وذلك لأن معظم أدباء فلسطين وشعرائهم سواء من داخل الأراضى المحتلة فى العام 1948 ، أم من الأراضى المحتلة فى العام 1967 ، دخلوا السجون والمعتقلات الإسرائيلية [21]، ويتميز شعر المعتقلات بكونه مقاوماً ، جاء من أتون معركة ضارية بين الأسرى وبين إداراة قمع السجون بأجهزتها المختلفة، إزاء ذلك انبرى الشعراء ممن نضجت قرائحهم ، وتفجّرت مواهبهم الشعرية ، ليقفوا في مقدمة المجابهة ؛ ليعبّروا عما يختلج في نفوسهم من ألم وحزن وأسى .

وعليه فإننا لسنا أمام شعر باكٍ شاكٍ ضعيف حزين ، يرسل الدمع مدرارًا ، وليس شعرًا صاخبًا يواجه واقعه بالصراخ ، بل نحن أمام شعر مقاوم ملتزم ، ولعل أبرز ما يلحظ في هذا الشعر وحدته الموضوعية ؛ إذ تتلاحم قصائد الشعراء الأسرى تلاحمًا عضويًّا ، كونه انطلق من ظروف واحدة ، وهدفه واحد ، ويمتاز أيضاً بكثرة استخدام الرمزية ، كوسيلة ناجعة تختصر المسافات للوصول إلى المعنى العميق في نمط موجز موح ، فإن هناك حاجة أمنية لهذا الشعر ؛ لأن القصيدة الصريحة تعدّ جرمًا يعاقب عليها قانون الاحتلال الإسرائيلي ؛ لهذا السبب نجد الشاعر الأسير أكثر من غيره استخدامًا للرمز ؛ هروبًا من عقاب جلاديه ، وتضليلاً لمحاكمه العمياء.

وجاء هذا الشعر أيضًا موجزًا ، تعرض فيه المعاني المتدفقة في ألفاظ قليلة ، مع الإبانة والإفصاح عنها ، ويتسم شعر الأسرى بالسهولة والبساطة والوضوح؛ فشعرهم نراه يجري مجرى الماء في النهر سلاسة وسهولة ويسرًا وبساطة وعذوبة [22].

ولقدْ تميزت الأعمال الشعرية للأسرى الفلسطينيين بأنها الأغنى والأكثر شمولية وزخماً من حيث الكم والكيف بينَ تجارب الشعوب وحركات التحرر، ويعود ذلك إلى ارتباطها بالقضية الفلسطينية وتحرير فلسطين، وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي اللذين تعرضوا له .

وكان التعبير بالشعر البدايات الأولى في إبداع الأسرى ، فهو أسرع الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة ، لهذا لجأ عشرات من الأسرى إلى المحاولات الشعرية التي تترجم مشاعرهم وتعبر عن مكنونهم النفسي [23] ، فهو شعراً مغلفاً بالحلم الشفاف ، وجاءت العبارة فيه هائمة أثيرية [24]، لذا فإن النفس تتعشق هذا الشعر وتحبه ، وتميل إليه ، لأنه يخاطب القلب والعقل ، وترتاح له النفوس ، وتنشرح له الصدور ، فكأن الشاعر فى هذا الشعر يتحدث عن نفسه ، وكأن هذا الشعر جزء منه[25].

ولقد برز عدد كبير من الشعراء داخل المعتقلات كان أبرزهم " المتوكل طه ، ومحمود الغرباوى ، وعبد الناصر صالح ، عز الدين المناصرة ، ومحمود شريم ، وخليل توما ، ومحمد عليان ، وعمر خليل عمر ، ود. خضر محجز ، معاذ الحنفى ، ود. فايز أبو شمالة ، وسلمان الزريعى ، وسائد السويركى ، وعيسى قراقع ، ومحمد أبو جلالة ، وهشام أبو ضاحى ، والشهيد عمر القاسم ، وباسم الخندقجى ، وتوفيق زياد ، وراشد حسين ، وسامى الكيلانى ، وعلى الخليلى ، والشهيد د . عبد العزيز الرنتيسى ، والشهيد د .ابراهيم المقادمة ، ويحيى السنوار ، ومحمد طه ، وحماد الحسنات ، وعلى عصافرة ، وعبد الناصر صالح ، ومحمد أبو اللبن ، ومرزوق بدوى ، والشهيد معين بسيسو ، وغيرهم الكثير .   

3-    الرواية والقصة :

الرواية هي فن سرد الأحداث والقصص، تضم الكثير من الشخصيات ، وتختلف انفعالاتها و صفاتها ، وهي أحسن و أجمل فنون الأدب النثري ، وتعتبر الأكثر حداثة في الشكل و المضمون، وتتميز بالتشويق في الأمور والمواضيع والقضايا المختلفة سواء أكانت أخلاقية أو اجتماعية أو فلسفية ، والقصّة القصيرة : تمثّل حدثاً واحداً، في وقتٍ واحد، وزمانٍ واحد، وهي حديثة العهد في الظّهور [26]،  ولقد اهتم عدد كبير من الأسرى بكتابة الرواية فى السجون ، ومن الأهمية بمكان أن يشار للتأريخ إلى رواية " وابور الكاز " كأول رواية فى أدب السجون ، قد أنهى كتابتها الأسير محمد عليان فى سجن الرملة 1976 ، وصفحاتها تزيد عن 110 صفحات ، تدور أحداثها حول الثورة ومخطوط الرواية موجودة لدى المؤلف [27].

الناقد والمحاضر فى الجامعة الإسلامية د. عبد الخالق العف يعتبر بأن الرواية هى أكثر الأجناس الأدبية المعبرة عن حالة الاعتقال قياساً بالأجناس الأدبية الأخرى التى خرجت من رحم السجون ، ولقد برز عدد من كتاب الرواية من الأسرى ولعل أبرزهم الروائى الأديب وليد الهودلى الذى كتب عدد من الروايات أشهرها رواية ستائر العتمة " جزأين " و التى عالجت موضوع تجربة التحقيق والإعتقال وظروف السجن ، وقد طبع الجزء الأول منها ثمانى طبعات ، أربعون ألف نسخة ، والتى لم يسبق لرواية فلسطينية من داخل السجون وخارجها أن تنشر بهذا الكم ، وتم تحويلها إلى فيلم فى العام 2015  ، والروائى الأديب شعبان حسونة الذى كتب مجموعة من القصص القصيرة باسم " أمسية سجين " وعدد من الروايات أشهرها " ظل الغيمة السوداء ، وعلى جناح الدم " التى منحته عضوية اتحاد الكتاب الفلسطينيين فى العام 2005 ، والروائى الأسير المحرر رأفت حمدونة الذى كتب مجموعة " الرباعية الوطنية " والتى تضم أربع روايات هى عاشق من جنين ، ولن يموت الحلم ، وقلبى والمخيم ، والشتات ، التى طبعت طبعتين ، وقد وصفها الأستاذ الدكتور صادق أبو سليمان بـ" رباعية العشق " كونها تذكر - بلا ريب- بأدب الأدباء الثوار ، الذين خاضوا تجارب الثورة والنضال والمعاناة والحرمان والتعذيب ، وإذا ما هممت بقراءتها واحدة بعد الأخرى سترى نفسك تعيش قصة الشعب الفلسطينى في العصر الحديث ، وبالجملة فإن الكاتب في رواياته الأربعة قد استطاع التعبير عن هموم شعبه المتنوعة، ومحطات نضاله المتسلسلة من خلال عناية واضحة بتسلسل الأجيال ، ويلمس كل قارىء للرباعية بترابط أسلوب الكاتب ، ومناسبة لغته لمضامين رواياته ، كونها سجلت بقلم روائي بارع [28].

وهنالك العشرات ممن أبدعوا بكتابة الرواية فى السجون أمثال : الأديب غريب عسقلانى ، وحافظ أبو عباية ومحمد البيروتى ، وحسن عبد الله ، وحمزة يونس ، ورمزى مرعى ، ود . خضر محجز ، وزاهر جبارين ، وجمعة التايه ، ومحمد و ابراهيم اغبارية ، وعماد الزبن ، وسلمان جاد الله ، وعزت الغزاوى ، وعصمت منصور ، وفاضل يونس ، وموسى الشيخ ، ومحمد أبو صبحة ، ونواف العامر ، محمد عبالهادى ، ومحمود عيسى ،وجمال الهور، وعلى عارفة ، محمد عبد الهادى ، ويوسف محمد ، أيمن فقيه ، وحسن سلامة ، وعمر حمش ، وكمال الأسطل ، محمد أيوب ، معاذ بلال ، ومؤيد الشيص ، وغيرهم الكثير .  

ويستذكر الباحث عدد من الأسرى ممن دونوا تجاربهم الإعتقالية كمذكرات بشكل روائى متسلسل ، بأقلامهم أو بأقلام كتاب من غير الأسرى ممن أبدعوا فى عرضها بشكل روائى ، كرواية " فرسان الحرية " لهشام عبد الرازق ، و فيروزيات نضالية ، والذى يتناول تجربة فيروز عرفة للدكتور سامى الأخرس ،  ومروان البرغوثى ألف يوم فى زنزانة العزل الانفرادى لزاهى وهبى ، وأحلام بالحرية للأسيرة عائشة عودة ، وأوراق من خلف جدران الأسر للأديب عبد الحق شحادة ، وأمير الظل للأسير عبد الله البرغوثي ، والهواء المقنع - أبو على شاهين 15 عام فى الاعتقال لمحمد القيسى ، وأيام من معتقل النقب للدكتور عبد الستار قاسم ، والقادم إلى خطفك للأسير محمد الشراتحة ، والخروج إلى المخيم لثابت مرداوى ، وتاريخ مشرق وذكريات مؤلمة ، ورحلة العودة للأسيرة المحررة للدكتورة مريم أبو دقة ، وذكريات مبعثرة من ذاكرة الأسر لاسماعيل دبج ، ونفحة يتحدث بعد ثلاثين عاماً لجبريل الرجوب ، وقصتى لسعيد الكرمى ، وذاكرة الأسير لعلى شواهنة ، ومذكرات عوض السلمى ، ومن صفحات نفحة للؤى عبده ، وصرخة من أعماق الذاكرة تتناول تجربتى اعتقال فؤاد الرازم وأحمد أبو حصيرة ، ومذكرات محمود عارضة ، ويوسف العارف ، وغير ذلك من مذكرات على شكل روايات .

وأبدع عدد من الأسرى بكتابة القصة القصيرة كالقاص وليد الهودلى ، وشعبان حسونة ، واسماعيل دبج ، وحسن عبد الله ، وعصمت منصور وغيرهم الكثيرين . 

4-    المسرحية :

اهتم بعض الأسرى بالمسرحية فى نهاية السبعينيات ، ففى هذه المرحلة برزت محاولات لتأليف المسرحيات القصيرة ، والتى كانت تعرض فى الأمسيات الأسبوعية الترويحية ، أسهم فى ايجادها ونشطها انعدام وسائل التسلية ، والشعور بضرورة ايجاد وسائل ترفيهية ترويحية تزيل التوتر وتقتل الرتابة ، وتشكل فى الوقت ذاته محاولة فنية لإعادة شحن الأسرى بالطاقة والنشاط لاستقبال أسبوع جيد ، كما جرى استغلالها لتعميق الوعى وتطوير المعرفة ومعالجة بعض القضايا الواقعية [29].

وكانت تمثل فى غرف زنازين بئر السبع التى كانت تتسع لسبعين أسيراً مسرحيات من بينها مسرحية " زنبقة الدم " التى تعالج حكاية فتاة جرى اغتصابها من دخلاء على الثورة فى القطاع ، وقد جرى تمثيلها على خشبة مسرح نصبوه من البطاطين [30] ، وقامت الأسيرات فى سجن " نفيه تريتسا" بتقديم المسرحيات عرف منها مسرحية " فدائى جريح " ، وعادة ً ما يقوم المعتقلون بعمل مسرحيات يكتب نصها أحدهم أو يشترك فيها أكثر من واحد ، ويتم توفير مواد الديكور من أشياء الغرفة [31] ، ومن الطبيعى أن إدارة السجن لا تقبل بهذا النشاط الذى يمثل تحدياً لها ، واستهانة بها ، لكن المسرحيات والحفلات تقام ليلاً [32].

ويرى الباحث أن الأسرى تأثروا بالمسرحية كفن مع دخول التلفاز للسجون ، وخاصة ما كان يعرض على التلفزيون المصرى والأردنى ، ولم ينتشر هذا الفن " تمثيل وكتابة "  كأحد أجناس أدب السجون بالشكل الكبير ، ولم يعرض إلا فى الاحتفاليات والمناسبات والأمسيات وفى غالب الأحيان داخل الغرف ، ولقد برز عدد قليل من كتاب النصوص المسرحية قياساً بالألوان والأصناف الأخرى منهم " حسن عبد الله الذى كتب " طرقات على باب الأمل ، ومن مذكرات زيتونة ، واعلاميون فى مهمة " ، و " مسرحية النفق ، وإبريق الذهب ، ورامى ومحكمة الذئاب "  لوليد الهودلى ، وعدد قليل آخر من كتاب المسرح فى السجون .  

 

5-   الخاطــرة :

أبدع الأسرى فى كتابة الخاطرة الأدبية كنثر أدبي صيغت فيه الكلمات ببلاغة وامتاز بكثرة المحسنات البديعية من صور واستعارات وتشبيه ، والتى تصنف أدبياً في موقع بين القصة القصيرة و الشعر الحر وهى ثلاث أنواع " الخاطرة الرومانسية ، والخاطرة الوجدانية ، والخاطرة الإنسانية " وكتب الاسرى فى الثلاثة وأكثرها " الإنسانية "  التى تركز على قيم الصداقة والأخلاق الفاضلة والتضحية والوطنية .

وعدد كبير من الأسرى من اهتموا بهذا اللون من الأدب ، وكانت لهم مجموعات من الخواطر كتبوها فى عتمات الليل ، ولبعضهم البعض ، وخلال المراسلات ، والمسابقات ، والمجلات الأدبية ، وطبع منها ترانيم خلف القضبان لعبد الفتاح حمايل ، وإلى ولدى محمد للكاتب على جدة ، وخواطر من الزنزانة لمحمد عبد السلام وغيرهم [33].

6-    الرسالة :

استطاع الأسرى الفلسطينيون فى السبعينيات بعد الكثير من الخطوات النضالية بانتزاع حق مراسلة ذويهم عبر الصليب الأحمر الدولى ، ومن ثم عبر البريد الرسمى ، وبدأت الموافقة بحصر الرسالة بأقل من عشرة سطور ، ثم تطورت لتصل فرخ من الفلسكاب كبير الحجم أكثر أو أقل .

ومع مرور الوقت مع تطور الإمكانيات الأدبية للأسرى تحولت رسائل المعتقلين إلى أشبه بنصوص أدبية حملت مشاعرهم ، وعبرت عن أفكارهم ، خاصة وأنهم كانوا يلجأون إلى الأسلوب الأدبى وإلى الاستعارات والألغاز والتمويه على الرقيب ، لكن البعض كان يعتمد الأسلوب الأدبى ، بعد فتح المواهب والقدرات الأدبية خلف القضبان [34].

ولقد وصلت الرسالة إلى أعلى مراحل تطورها ، عندما تحولت من وسيلة إخبارية مباشرة تحمل السلامات إلى الأهل ، إلى نصوص أدبية راقية ، حيث أن بعض الرسائل صيغت على شكل قصائد شعرية ، أو خواطر أو قصص قصيرة ، أو نصوص أدبية مفتوحة ، بخاصة عندما مازج وزاوج مرسل الرسالة بين الخاص والعام ، أو عندما صقلت أقلام عدد لا بأس به من الأسرى وتطورت بشكل لافت ، وأصبح أصحابها يعبرون عما يجول فى صدورهم أدباً [35].

كما وتمثل رسالة المعتقلين قيمة أدبية ونضالية وتاريخية ، يمكن من خلالها الوقوقف على مراحل التجربة الإعتقالية وخصائصها ، والتعرف على ظروف ومستوى تطور المعتقلين ، لذلك فإن دراسة هذه الرسائل تشكل مهمة وطنية وتأريخية وأدبية فى آن واحد ، ولقد شكلت الرسالة نافذة للمعتقل المناضل على أسرته ومجتمعه والحياة ، وصلت فى سطورها وتعابيرها مضامين اجتماعية وسياسية وتربوية ونفسية وفكرية ، وارتقت من الجانب الإخبارى إلى التحليلى ، وبعضها ارتقى إلى الإبداعى ، وحصل بامتياز على درجة رفيعة فى عالم الأدب والإبداع [36].

اختلف النقاد والمختصون فى مكان الرسالة وإرفاقها بأدب السجون ، ويرى الباحث أنها تستحق بجدارة أن تكون فى صدارة هذا اللون من إنتاجات وأدبيات الأسرى ، التى اهتم وحرص وتبارى الأسرى وتألقوا فى صياغتها وتراكيبها البلاغية والأدبية ، وقد أرفقوا على هامش سطورها بصور الورود والعصافير والرسومات والرموز الجمالية الأخرى .

7-    الفن والغناء والموسيقى :

إهتم الأسرى بالفنون المرتبطة بأدب السجون ، وتم تلحين الكتابات الأدبية ، والقصائد الشعرية ، على صورة زجل وأناشيد وأغانى وطنية ،  وكان للتراث الشعبى مكانة خاصة ومرموقة بين أسرى الثورة ، فالدبكة والزجل انتشرا فى كل السجون ، ولا يخلو سجن من مناضل أو أكثر لديه القدرة على تأليف الزجل العاطفى والسياسى ، كما كان المعتقلون ينظمون حفلات غنائية ، مرة واحدة أسبوعياً ، وتكون حفلات ممتعة وشيقة للجميع [37].

وفى العام 1984 كانت الاحتفالات فى السجون قد أخذت شكلاً جديداً ، فقد تضمنت الفقرات أغانى ودبكات شعبية ورفع للاعلام الفلسطينية [38] ، وغلب اللون الحزين على الأغانى والمواويل ليعكس الحجم المذهل المختزن فى أعماق الأسرى ، ويعكس توجعاً انسانياً من الظلم الإجتماعى والقمع الإحتلالى ، والحرمانات اللانهائية ، وكثيراً ما كنت تجد الأغنية والنشيد الوطنى يتبع الموال الحزين فى جدلية مميزة ، كان الأسير يفتح جرحه ثم يداويه ، غالياً ما كان المغنى الأسير يؤدى ما هو موجود من أغانى ومووايل ، لكنه أداء يحمل بصماته الخاصة ، وبعضهم ألف الأغنيات ذات الطابع الشعبى ، وبدرجة أكبر المووايل.

أشاعت الأمسيات الفنية المتواضعة الدفء فى طقس السجن البارد دوماً ، حيث الأغنيات والأشعار تحمل الأفئدة المعذبة إلى عالم آخر بدون قيود وبدون حرمان ، وتعالت فى هذه الأمسيات الضحكات كأنها تغسل ولو للحظات حزناً لا يفارق الواقع [39].

ولقد تركت زجليات الشهيد راجح السلفيتى خاصة تلك التى أنتجها داخل الأسوار الأثر العميق فى وجدان الأسرى ، وكانت عاملاً يقتدى به فى عملية إعادة صياغة التربية ، خاصة تلك القصائد التى تحض على استيعاب أسرار النضال والصبر على الشدائد[40].

وتنطبق هذه الصورة على سجن الأسيرات، حيث أن الأسيرات يقمن أيضاً بالأناشيد الوطنية وبصوت وطنى ثورى ، وكثيرة هى المرات التى يسمع فيها الزوار والمعتقلون المرضى فى مستشفى سجن الرملة أصوات المناضلات الأسيرات الملىء بالحماسة والمعبر عن حب الوطن والالتصاق بالقضية[41] .

وأوجد المعتقلون لأنفسهم فضاءات جديدة ، فعلى صعيد الموسيقى سادت موسيقى الشبابة ، والمجوز ، والأرغول ، باعتبارها الأدوات الموسيقية الوحيدة التى كان يمكن للمعتقلين صنعها من أنابيب التمديدات الكهربائية المنتزعة من الجدران ، كم كان عذباً صوت شبابة أبو على الديراوى ، ومجوز أبو سلطان ، ودبكة أبو حامد الرفاتى ، وأغانى محمود البرغوثى التى كانت تذكرنا بالمرحوم نصرى شمس الدين [42].

" وفى العام 1985 صنع الفنان الأسير عونى الخروبى الذى تواجد فى سجن غزة وعسقلان ونفحة آلة الكمان الموسيقية ، من طاولة الزهر ، وكانت إدارة السجون تصادرها ، ويقوم بإعادة صناعتها ، وطالب الأسرى بإدخال الأدوات الموسيقية للسجون ، فسمحت فقط بادخال الكمان فى سجن غزة ، والعود فى سجن نفحة للأسير الفنان المرحوم الخروبى ، الذى علم بعضهم :  " كالأسير مسعود الراعى ، والأسير معاذ الحنفى ، والأسير خالد مناع والأسير طارق أبو زهدية  وآخرين تنافسوا فيما بينهم على تعلم العزف ، وقام الفنان الخروبى بتلحين أشعار الأسرى التى كتبوها داخل الاعتقال وتم ترديدها فى المناسبات والاحتفالات الوطنية فى السجون وفى الخارج من قبل الأسرى المحررين "[43] ، وهنالك من كتب القصيدة المغناة فى السجن كماجد أبو شمالة ، وسليم الزريعى ، ومعاذ الحنفى ، وأحمد الشيبانى الملقب بالسنبل أو العندليب ، وعرف عدد من الأسرى اللذين أسعدوا الأسرى بأصواتهم الجميلة فى المعتقلات كالأسير " سعيد سلمان الملقب بأبى عرب " ، والأسير المرحوم نايف أبو عياش ، وأكرم حسن ، وجمعة التايه ، والمنشد المشهور رمزك العك ، ونصر يتايمة ، وحمودة صلاح ، ومصعب الهشلمون ، وآخرين .

رابعاً : سمات جمالية لأدب السجون:

يتميز أدب السجون بحيوية الانفعال، وصدق التجارب؛ كونه ينهل من مصدر المعاناة النابع منْ ثوار هانت عليهم أنفسهم فهبوا يحملونها على أكفهم ليقدِّموها أضاحي في سبيل تحذير كرامة الوطن وأهله[44].

وتميزت التجارب الأدبية بالالتزام فى السجون بالالتزام بالقيم ، والمبادئ ، والتناغم مع القضية ، في تجاوز الهم الفردي إلى الهم الجمعي والعام ، "ومن أهم سمات أدب السجون :

1- العُمْق: يمتاز "أدب السجون" بعمق التعبير في الدلالة والمضمون، وفي الربط بين الفكرة والأسلوب.

2- الرمزية: غالباً ما يلجأ الكاتب إلى الرمز للتعبير عما يعتلج في حناياه.

3-التصوير الفني: كثيراً ما يلجأ الأديب إلى فرط عقود اللغة، وما حوت من جمان وجواهر، ليعيد تشكيل فكرته وشعوره في قالب لغوي جديد، فتعطيك المقطوعات الأدبية لوحات رائقة، أو مشاهد صامته، أو انعطافات على مشاهد حية مُفْعمة بالحركة.

4-البلاغة: الصناعة البلاغية رائجة الاستخدام، كالكنايات والاستعارات والتشبيهات والمجاز المرسل والمحسنات اللفظية والبديعة.

5- الاختزال: أي ضبط الفكرة التي تحتاج إلى فقرات طويلة في فقرة صغيرة.

6-العاطفة المتأججة: فلا تكاد تجد مقطوعة متكلفة المبنى أو المعنى، وإنما منسجمة في معناها ومبناها مع العاطفة التي تحكم القالب اللغوي المستخدم.

7- سعة الخيال: يلجأ الكاتب إلى الخيال في الغالب لاستعارة الصور أو الأحداث، فتتفاعل الفكرة في خياله مع صور إبداعية، بقالب لغوي خاص.

8- الحزن المشوب بالتحدي: فمسحة الحزن لا تكاد تفارق المقطوعات الأدبية على اختلاف موضوعاتها، حتى تلك التي أراد بها صياغة مساحة من الفرح، لا تكاد تخلو من ألم أو آهات أو دموع، فأفراحهم، أفضل ما نعبِّر عنها بالجراح الباسمة.

9- الثقافة الواسعة: حيث يهتم الأسرى بتنمية ذواتهم ومهاراتهم وقدراتهم[45] .

فى نهاية الدراسة يجزم الباحث أن ما هو مجهول من ابداعات الأسرى الأدبية ، وما تم مصادرته من قبل إدارة مصلحة السجون الاسرائيلية ، ومن لم يرَ النور بالطباعة بسبب القصور باتجاه أدب السجون لهو أكثر بكثير مما عرف وما نحاول ابرازه وجمعه .

وأن أدب الأسرى فيه ما ليس بغيره من مصداقية ، ومعانى انسانية ، وأنه يحمل مضامين مهنية ، وبلاغة إبداعية يجعله أقرب للمستمع والقارىء من غيره ، واستطاع أن يلفت انتباه المهتمين والأكاديميين والنقاد العالميين على سبيل المثال لا الحصر تناولت الدكتورة نادية هارلو الأستاذة فى جامعة تكساس الفن القصصى للمعتقلين الفلسطينيين ، وجاء اهتمامها فى إطار اهتمامها بالأدب المقاوم على مستوى عالمى ، حيث جمعت فى دراسة مقارنة العديد من النماذج الإبداعية التى أنتجتها أقلام مقاومة انصهرت فى القضايا التحررية لشعوبها .

وليس غريباً أن يكون للأقلام الأدبية التى تعمدت فى تجربة الاعتقال حصة لا بأس بها فى إصدارات اتحاد الكتاب الفلسطينيين ، وفى الملاحق الأدبية والثقافية فى الصحف والمجلات المحلية وحتى فى الكتب المترجمة إلى لغات أجنبية مثل إصدار اتحاد الكتاب باللغة الانجليزية " نصوص قصة قصيرة " حيث مثل عدد المشاركين من الأدباء فى هذا الإصدار اللذين تخرجوا من تجربة الاعتقال " 15 " من أصل " 44 " أى ما يقارب الثلث " [46] ، كما أن التجربة الثقافية والإبداعية فى المعتقلات حققت انجازات لفتت انتباه عددا من الباحثين والدارسين والأكاديميين ، على المستوى الفلسطينى والعربى والدولى[47] .

ملاحظة / يحتفظ الباحث بمصادر الدراسة لحفظ حقوق الملكية / ولكونها أحد مباحث رسالة الدكتوراة

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button